الثورة اليمنية السلمية في مذكرات زائر..
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: 11 سنة و 4 أشهر و 21 يوماً
الأحد 04 نوفمبر-تشرين الثاني 2012 12:39 م

يدرك كل زائر لليمن بعد الثورة الشعبية السلمية التي خاضها الشعب اليمني ضد أعنف وأعفن نظام عرفته اليمن، أن النهج الرائد الذي اختطته هذه الثورة الشعبية السلمية نهج رائع وفريد من نوعه، ويدرك ملياً أنّ إنجازات هذه الثورة الشعبية السلمية المباركة أضعاف أضعاف ما كان يمكن أن تحققه الثورة فيما لو اختطت النهج الدموي، رغم أنّ النظام البائد لم يدع طريقا ولا سبيلاً لجرّ هذه الثورة إلى مربع الحرب الأهلية، إلا وسلكه، ليس بالطبع لظنّه أنه سيحرز نصراً يذكر في هذه الحرب فيما لو وقعت – لا سمح الله- فهو أول المدركين أنه الخاسر الأكبر في هذه الحرب، وإنما كان يريد النظام جرّ الثورة وروادها الأحرار إلى هذا المربع الدموي لغرض تدمير البلاد أرضاً وإنساناً، وجر البلاد إلى حرب تأكل الأخضر واليابس، ولا تبق ولا تذر، وهدم المعبد على رؤوس من فيه، كما كان يردد المخلوع.

إنّ إنجازات الثورة الشعبية السلمية في اليمن باتت واضحة جلية لكل ذي عينين، وكل زائر ومراقب لليمن قبل الثورة وبعد الثورة، لقد كانت الحرب الشاملة بالتأكيد ستنتصر في النهاية لصالح الحق ضد الباطل ولصالح الشعب ضد الأسرة الفاسدة الباغية، فذلك أمر لا جدال ولا نقاش فيه، فإرادة الشعوب من إرادة الله، لكن كم كانت ستترك هذه الحرب في العقل والضمير اليمني من تصدعات وتشققات وآلام وجراح، لا تندمل ولو بعد عقود من الزمن .

حسْب الثورة اليمنية فخراً ونصراً هذا الانجاز الكبير، فقد أطاحت الثورة بالطاغية وأزلامه ومعظم عائلته، ولم تدخل في حرب شاملة، بشكل من الأشكال.

عبرنا منفذ الوديعة الحدودي قاصدين زيارة اليمن السعيد، وقضاء إجازة عيد الأضحى المبارك، وسط الأهل والأصحاب، كان ينتابنا شعور بالقلق جراء ما نسمعه عن تدهور الوضع الأمني، في البلاد، إلا أنّه في هذه المرة وجدنا الأمر على عكس ما كنّا نتوقعه، فلم يعترض طريقنا أولئك الجنود الذين ما أن يروا مغترباً قادماً لليمن حتى يتوهمونه صيداً ثميناً فيسلكون معه كل حيلة لابتزازه، فيسألك أحدهم عن كل أوراق السيارة وعن سيرتها الذاتية، فإن وجدها مكتملة قال لك وأين التربتك؟!، فإن وجده، ووجد كل وثائقك سليمة صحيحة معافاة، قال لك بصريح العبارة وأين حق ابن هادي؟!، أو قال لك هات حق البوابة أو حق الطريق!!! وهلم جرا من أساليب النهب والتسول زمن دولة المخلوع!!.

هذه المرة وللأمانة لم يسألني أحد من الجنود منذ غادرنا منفذ الوديعة إلى أن دخلنا العاصمة صنعاء، عن شيء بتاتاً، واكتفى الجميع بقراءة لوحة السيارة الذي يدل على أننا مغتربون، بلا حاجة للاستيقاف والاستيضاح في عشرات النقاط والحواجز.

أثناء عبورنا على نقاط التفتيش الكثيرة والممتدة على طول الطريق من الوديعة إلى مأرب ثم إلى صنعاء، شعرنا بهيبة الدولة اليمنية الجديدة، وشعرنا بأنّ الجندي اليمني بدأ يستعيد كرامته التي فقدت منذ أكثر من ثلاثين عاماً، حيث خلت الطريق من بعض مظاهر التسول العسكري.

للأمانة شعرنا أن اليمن بدأت تتغير وأنّ النظام البائد انزاح تماماً عن صدر اليمن وإلى غير رجعة من خلال تعامل من قابلناهم من الأمن والجيش المرابطين على طول الطريق من مثلث العبْر إلى مأرب ومن مأرب إلى صنعاء، ومن خلال الاستعدادات الأمنية لهذه النقاط، فقد كانت قديماً النقاط الأمنية المبثوثة على طول هذا الطريق الآنف الذكر، ليس لها هدف أمني واضح سوى تشليح المسافرين، أو التسول بطريقة أو بأخرى، لكنْ في هذه المرة رأينا كثبان الرمال المعدّة حول هذه النقاط، والأماكن المهيئة للجنود، للراحة وتناول الطعام، ورأينا الأسلحة الثقيلة والمتوسطة تزين هذه النقاط، وهو ما جعلنا نجزم أنّ هذه نقاطا عسكرية فعلاً، وليست عبارة عن جماعات متسولة أو قاطعة طريق، كما عهدناه في النظام البائد.

لم يعكّر هذه النظرة المتفائلة سوى أننا على المنفذ اليمني رأينا زحاماً شديداً بسبب أن المنفذ يعمل بطريقة بدائية جدا، لا تجد فيه حتى لوحة إرشادية واحدة، وإنما \"المنفذ\" إن صح التعبير، عبارة عن أكشاك صغيرة متهالكة جداً، مكسوة بالأتربة والغبار، وهو ما سبب زحاماً شديداً جدا، ورأينا - فيما رأينا - عراكاً بالأيدي امتد إلى استخدام السلاح بين جندي وآخر من المسافرين، لولا أنّ البعض تدخل وأوقف هذه الفتنة، وغادرنا المكان ومحاولات الصلح جارية.

فيما على الجهة الأخرى، من المنفذ، أعني الجانب السعودي، على العكس من ذلك تماماً، فمع طول الطابور الذي تجاوز أكثر من 2 كم تقريبا إلا أنه تم إنجاز إجراءات سفرنا في غضون أقل من ساعتين وفي هدوء وانسيابية تامة.

لم نغادر المنفذ اليمني إلا بفضل من الله ثم بفضل أحد الضباط المعروفين لبعض من كان معي في الرحلة، الذي أصرّ على أخذ وثائقنا وأنجزها بُعيد صلاة الظهر، ورفض أخذ أي مقابل لذلك، وغادرنا المنفذ اليمني بسلام وتركنا من خلفنا من الأمم في هرج ومرج لا يعلمه إلا الله.

وصلنا مساءً إلى العاصمة صنعاء، بتاريخ الخميس : 2/12/1433هـ، واتجهنا في وقت متأخر من الليل إلى السوق لشراء بعض الأغراض المنزلية الضرورية، ومع أنّ الوقت متأخر إلا أنّ ثمة سكوناً وهدوءاً يكسو العاصمة صنعاء، على غير عادتها، سرعان ما انكشف هذا الهدوء في الأيام والليالي التالية من خلال سماعنا لأصوات الأسلحة المتوسطة وربما الثقيلة حوالي العاصمة، وحين سألنا عن ذلك قيل لنا أنها أعراس على الطريقة اليمنية المعتادة، رغم أنّ من يسمع تلكم الأصوات يظنها حربا ضروساً شبت بين طرفي الصراع، فأي عرس هذا الذي تستخدم فيه معدلات 12/7، وأخواتها، لكننا سلّمنا بالخبر، فللتعبير عن البهجة في اليمن طريقة خاصة!.

لم أتألم لشيء كما تألمت لما آل إليه وضع ما كان يسمى بحزب الحاكم أعني المؤتمر الشعبي العام، لقد حُكِم على المفسدين فيه بالإعدام الاقتصادي والسياسي والمعنوي، وتمزق الحزب شذر مذر، وتصدعت أركانه وانكشف عواره، ونخر السوس إلى أمعائه، آلمني ما آل إليه وضع الحزب المهترئ والمنقسم والمنشق على نفسه، وتحولتُ شخصياً إلى مدافع عن بعض قياداته ورجالاته، ممن يعاديهم ويحاربهم بعض الأطراف والأجنحة الأخرى في ما يسمى ب\"المؤتمر الشعبي العام\"، نفسه، فلم يعد المؤتمر مؤتمراً ولم يعد شعبياً ولم يعد عاماً.

ومن الجدير بالذكر أننا أثناء تجوالنا في شارع هائل، المكتظ بالباعة والبضائع، سمعت بأذني، أحد الباعة يصيح بأعلى صوته وبكل ما أوتي من قوة قائلا: عليك يا علي عبد الله صالح لعنة الله وملائكته والناس أجمعين، فيما كل من حوله في السوق يقولون آمين آمين بأعلى أصواتهم، بدوري ترحمتُ على قيادة المؤتمر الشعبي العام بعد سماع هذه الدعوات من هؤلاء البسطاء، المظلومين والمقهورين، ممن أتاحت لهم الثورة الشبابية التعبير عن آرائهم وأتاحت لهم الأمل في التغيير، وحررت الثورة هؤلاء البسطاء من ربقة الإعلام البائد المتسلط، وعلمت أنّ الله يمهل ولا يهمل، وأنه إذا أراد إسقاط الظالم أسقط هيبته أولا من القلوب.

من خلال لقاءاتي ببعض أنصار المؤتمر أدركت أنّ هذا الحزب لم يعد مؤتمراً بل متآمراً ولم يعد شعبياً بل بات عبارة عن عصابة، ولم يعد عاماً، بل بات جهازاً سرياً خاصاً، فجلّ من لقيتهم من أنصار ما كان يسمى بالمؤتمر تحول إلى حوثي اثنا عشري، حتى سمعت من بعض أقاربي المؤتمريين من يترض على عبد الملك الحوثي، ويتمنى لو حكم اليمن عبد الملك الحوثي!!!، ولا غرابة فالناس على دين ملوكهم، فقد قالها المخلوع لبعض محاوريه، أنا حوثي!!!، ثم تُرجمت هذه الأقوال إلى تعاون مشترك على المستوى الإقليمي وعلى المستوى الداخلي والخارجي، بين قيادات مؤتمرية وحوثية وإيرانية، تناقلت هذا التعاون كثير من وسائل الإعلام ووكالات الأنباء.

بالطبع هذا الانطباع خاص بي، لكن مالا يستطيع أن ينكره القارئ للمشهد اليمني أنّ المؤتمر الشعبي العام، تشظّى وتشقق وتمزق وتضعضع وتزلزل زلزلة كبيرة أودت بكل قياداته ورجالاته، فبعض قياداته إما يعيش خارج اليمن يلتهم بعض المليارات التي جمعها زمان المخلوع، و آخر إما منكوس مهزوم مغلوب على أمره يعيش في بيته، يربي الكلاب والقطط، وإما آخر بدأ يبحث له عن دور جديد، في المشهد الجديد، وإما وطني حر أبي انضم إلى الثورة الشعبية، من أول يوم ولدت فيه هذه الثورة، والحق يقال أنّ هذا الصنف الأخير كثرة كاثرة من أبناء المؤتمر وأنصاره، نسأل الله تعالى أن يبارك فيهم وفي جهودهم.

وجدتُ أثناء إقامتي في العاصمة صنعاء حركة وظيفية كبيرة، بعد الثورة، سيما في الوسط الأكاديمي والجامعي، لقد حرص نظام المخلوع أن يدير العمل التعليمي والأكاديمي في الجامعات من خلال الخلّص من مواليه من الأمن القومي والأمن السياسي، وكان من المحال في عهد المخلوع أن يخترق أحدٌ الجامعات اليمنية ما لم يكن من خلّص الموالين للعائلة، أو ممن يؤمن جانبه، ولذا أبعدت كل القيادات الأكاديمية الوطنية، في شتى التخصصات العلمية، فاتجهت هذه التخصصات إلى خارج اليمن بحثاً عن لقمة العيش.

بيد أنّ الوضع بعد الثورة الشعبية قد تغير كثيراً، صحيح أنّ هذه القيادات الأمنية لا زالت تتربع على كراسي الجامعات اليمنية، إلا أنها بدأت تشعر برياح التغيير القادمة، فسارعت إلى قبول عدد من الملفات في شتى التخصصات، ومكرهٌ أخاك لا بطل، على أن رياح الثورة الشبابية هبّت نحو عدد من الجامعات اليمنية أبرزها جامعة صنعاء، وجامعة الحديدة وجامعة حجة ومأرب وحضرموت وغيرها من الجامعات اليمنية .

مررتُ على مدينة باجل، فرأيتها اتسعت كثيراً عما كانت عليه، إلا أنه ينقصها كثير من الخدمات وتعاني من نقص حاد في الكهرباء والمدارس والمستشفيات والمياه، سيما وأنه يقصدها كثير من الزوار من عدد من المحافظات المجاورة لها، من ريمة وبرع والمحويت وحجة وصنعاء، والكدن والضحي، ومع كونها ملتقى عدد من المحافظات اليمنية، إلا أنها تفتقر إلى أبسط مقومات المدينة.

ما يشرح الصدر بعد الثورة الشعبية السلمية أنّ محافظة الحديدة عموماً من خلال زيارتي الخاطفة لها، شعرت أنها بدأت تتحرر من ربقة المشائخ العتاة الظلمة، وبدأ الناس يتفيؤون نسائم الحرية والسلام في هذه المحافظة المكلومة، قبل الثورة السبتمبرية وبعدها، وإلى يومنا، ووجدتُ في هذه المحافظة، صحوة إسلامية واسعة وكبيرة، تقلق كثيراً من صغار الطغاة والمستبدين وكبارهم .

ما يعيق مسيرة محافظة الحديدة في الفترة الراهنة هو ارتفاع نسبة الأمية بشتى أشكالها، بشكل مخيف، مع ارتفاع هائل في معدلات الفقر والعوز والبطالة، وهو ما يجعلني أتوقع أن رياح التغيير السياسي والثقافي لن تصل محافظة الحديدة إلا متأخرة، رغم كل الجهود المضنية لشباب الثورة لاستنهاض هذه المحافظة، عروس البحر الأحمر، إلا أنّ الأمية المتفشية، وعلى نطاق واسع من ريف المحافظة، بالأخص، قد يؤخر ساعة التغيير الشامل في المحافظة.

أثناء سفري من الوديعة إلى صنعاء ثم إلى الحديدة، أثلج صدري نسائم الحرية الإعلامية التي حُرمها الشعب اليمني لفترة طويلة من الزمن في زمن العائلة، فلم نكن نسمع إذاعة القرآن الكريم إلا من بلاد الحرمين، ولم أكن أتوقع أن أسمع يوماً إذاعة للقرآن الكريم من يمن الإيمان والحكمة، زمان المخلوع عجّل الله بهلاكه، فقد خاض المخلوع حرباً شاملة على الإسلام، وسلك كل سبيل لتجهيل الناس بدينهم، إلا أنّ هذا انتهى بنهاية هذا النظام وزواله.

ومن إنجازات الثورة الشبابية إنشاء إذاعة للقرآن الكريم f m ، كما أنّ الإذاعة والتلفزيون اليمني لاحظت أنهما بدئا يستعيدان دورهما الوطني في التعبير عن الإرادة الشعبية، وهمومها ومشكلاتها، ولم تعد وسائل الإعلام بعد الثورة ملكاً خاصاً بالحاكم، من خلال ما لمسته من برامج هادفة على القناة اليمنية الأولى والثانية وقناة سهيل ويمن شباب وقناة الإيمان، التي بدأت فيما أظن تعيد النظر في سياستها الإعلامية، وتقف بجوار شعبها، لا بجوار جلاديه.

ليس هذا فحسب بل تمكنتُ من الحصول على كثير من الأعمال الفنية اليمنية على فلاش u s b فرأيت أن ثمة ثورة فنية كبيرة واسعة وشاملة، رافقت الثورة اليمنية السلمية، لعلّ من أهم أسباب نجاح هذه الثورة السلمية، رفقتها الصالحة للثورة الفنية الرائعة، روعة الثورة الشبابية السلمية، وتنوع هذه الوسائل الفنية من المسرح إلى الأنشودة إلى الزوامل الشعيبة الثورية، إلى الموالد السياسية، إلى الحوارات والنقاشات والمنتديات الثقافية.. الخ .

أثناء زيارتي لليمن حاولت السؤال عن القوات المسلحة اليمنية وهل وصلت رياح الثورة الشبابية السلمية إليها؟ فعلمت من بعض المصادر أن سياسة جادة برعاية الرئيس هادي تجري لإعادة تأهيل وتطوير القوات المسلحة لتكون حارسة للثورة والجمهورية وحامية للإرادة الشعبية، وأنّ جهوداً حثيثة تجري لفك الارتباط بين قواتنا المسلحة ونظام العائلة، على أني لا أعلم درجة هذا التغيير الذي يجري في الوسط العسكري، إلا أنّ الثورة الشبابية السلمية يقيناً هبّت رياحها المباركة على كل أرجاء اليمن ولن تقف أمام بوابة أحد.

بعد نحو أسبوعين عدت إلى بلاد الغربة وكلّي أمل وتضرع إلى الله تعالى أن يصلح شأن اليمن فصلاح اليمن سياسيا واقتصاديا وأمنياً وإيمانياً صلاح للأمة كلها، بإذن الله .

على أني أشاطر القارئ القول بأنّ التغيير يسير بشكل بطيء نوعاً ما، وفي بعض الأحيان يكون أقل مما يؤمل، وأيضاً أشاطر القارئ القول بأن ثمة إخفاقات للثورة اليمنية من أبرزها عجز الثورة وحكومتها التوافقية عن القضاء على غول غلاء الأسعار المخيف والمفزع في اليمن، وضعف سيطرة الدولة على بعض المناطق والمحافظات، وعدم وضع حد لبعض المتنفذين والمخربين من بقايا النظام، وعدم وجود حلول عاجلة لإيواء النازحين والمشردين من أبناء صعدة وحجة وإب، إلا أني أحسب أنّ الثورة الشبابية السلمية الظافرة، وضعت الشعب اليمني بأسره بمختلف شرائحه ونخبه الثقافية وقواه السياسية على أول الطريق المستقيم، وأخَذت بيده ليسير على طريق التغيير، ومن سار على الدرب وصل .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،،

Moafa12@hotmail.com