مدينة مأرب تحتضرأغلقوها أمام أفواج السياحة ودعوها ترحل بسلام
بقلم/ سعيد علي اليوسفي
نشر منذ: 17 سنة و 11 شهراً و 25 يوماً
الإثنين 24 إبريل-نيسان 2006 07:15 م

مأرب برس - خاص

مدينة مأرب المدينة التاريخية القديمة هي أشهر وأقدم مدينة في جنوب بلاد العرب تقع على الضفة الشمالية لوادي ذنة الذي يقع في الجهة العليا منه سد مأرب العظيم ومن وجود السد والمياه المتوفرة استمدت مدينة مأرب عظمتها التاريخية حيث أنها كانت عاصمة لدولة سبأ التي اعتمد اقتصادها بشكل كبير جدا على الزراعة.

تعرضت المدينة لظروف عدة منها انهيار سد مأرب بعد آخر ترميم له على يد أبرهة الحبشي والذي بدوره أدى إلى هجرة سكانها في بدايات العصر الإسلامي وشاركوا في الفتوحات الإسلامية وكان هنالك استقرارهم وبقت مهجورة لفترة زمنية ليست بالقصيرة , لكنها سكنت مجددا تقريبا في القرن السادس الهجري , وأقام قاطني المدينة الجدد منازلهم على التل الذي يقع في الجزء الشرقي من المدينة فوق الركام وكانت طرق بنائهم رديئة جدا مقارنة مع ما وجد من آثار السبأيين لكنهم أي ساكني المدينة الجدد استخدموا بعض الأحجار المتوفرة في المعابد والمباني السبائية القديمة لتشييد مساكنهم الجديدة .

وبذا يعتبر ما قاموا به طريقة ساعدت في الحفاظ على الآثار القديمة لدولة سبأ كما أن بنائهم لمساكنهم فوق أنقاض العاصمة السبائية حافظ أيضا في إخفاء هذه الآثار عن أعين المتطفلين الانتهازيين الذين برزوا بشكل جلي في الفترة الأخيرة .

هذا ما دفعني لكتابة هذا الموضوع وكلي أمل أن يجد طريقة إلى النشر لعله يصل إلىمن بيده الحفاظ على البقية الباقية من آثار مدينة مأرب القديمة.

في الأيام الماضية كنت في زيارة لمدينة مأرب قد يظن أحدكم أنني سأقوم الآن بعرض ترويجي لمدينة مأرب لكن هذا من الإثم فلن أكذب عليكم وسأصدقكم القول وحتما ستصدقونني لأنها الحقيقة المرة.

كانت الوقفة الأولى أمام ما تبقى من السور في الجهة الشمالية للمدينة القديمة بجوار المقبرة لنعاين الجدار عن قرب ولكن كانت المأساة نجد الحفر التي حفرت بشكل مثير للإشمئزاز من أولئك الطغاة الذي اعتدوا على كرامة هذا السور ولم يحموه وهو الذي طالما حمى مدينة مأرب في وجوه الغزاة أصبنا بالإحباط جراء ما رأينا من تدمير واضح للسور ونزع لأحجاره التي مثلت حقبة زمنية مشرفة في تاريخ القديم .

تابعنا السير متجهين نحو المدينة ونحن نحمل الأمل في أن المدينة ستشبع نهمنا وتروي ظمأنا لكن المأساة تجددت بشكل يوحي بإغتيال البسمة من وجوه الجميع الذين سادهم الوجوم وعجزوا عن التعبير وأضحى كل واحد يلتفت إلى جهة أخرى لعله يجد ما يرد بصره ببقائه شامخا حتى خزان المياه الذي شيد في أواخر القرن الماضي يبدو كشيخ عتي يكاد أن يقع على وجهه بعد أن أخذ منه الصبية المشاغبون عصاه التي يتوكأ عليها, فقد نهبت كل الأحجار التي يعتمد عليها الخزان وإلى الشمال مسجد سليمان الذي يبعد عن الخزان بضعة أمتار تقف بجوار المسجد أعمدة منتصبة ترفع هاماتها عالية شامخة شموخ الجبال وراسخة في الأرض لا تستجدي أحدا يحميها لمتانتها وصلابتها ويعتقد أنها ما يظهر من معبد أو قصر قديم وأمام هذه الأعمدة الشامخة يستلقي مسجد سليمان يأخذ إغفاءة طالت قليلا , تطأ أرضه ولا تحس بأي خشوع – استجدي عفوك يا رب – كغيره من المساجد بل ولا رهبة كالرهبة عند دخولك لأي من المعابد فمسجد سليمان - الذي أطلق عليه هذا الاسم مع أنه لا يمت بصلة لسليمان – هو عبارة عن بناء بأحجار يعتقد أنها جلبت من المباني القديمة في المدينة والمعابد الأخرى والسد وغيرها.

في داخل المسجد الذي لم يسلم هو الآخر من النهب حتى أن الأخشاب التي تغطيه من الأعلى سرقت لتكون حطبا لمن لازالوا يقطنون بالقرب منه أما الجدران فحدث ولا حرج فأحجارها هي الأخرى غدت محجرا للعابثين.

الجدار الشرقي للمسجد يبدي لك تمازجا غريبا بين الحضارات فتجد الأعمدة الخرسانية المسلحة تقف نشازا بين الأعمدة التاريخية القديمة وتلاحظ كأن هذه الأعمدة ضيف غير مرغوب فيه من كل نفس تهوى الجمال وتحبه.

أما الأرضية للمسجد فلم تكن أحسن من السقف أو الجدران فهي مغطاة بالطين والأوساخ التي توحي بأن هذا المعلم لا يمت إلا شيء يشعرنا بالمهانة ونحاول الانتقام منه برمي القاذورات والأوساخ.

الشعور بالغثيان والدوار هو الشعور المسيطر لكن وجود شاحنة محملة بالأحجار تجعلنا كمن يصحو من نوم أهل الكهف نتلفت فيما بيننا لم يكن بيد أحد منا القدرة بالقيام بشيء ما حيال ذلك , بالتأكيد أن أصوب قرار هو الابتعاد وكما يقولون أول حلول المشكلة هو الصمود أمامها إلا هنا فالهروب هو الأسلم لئلا يقع شيء على رأسك المتخم بالأسى والحسرات.

تتشتت النظرات بين المعالم التي علي اليمين والمدينة الرابضة على التل إلى اليسار والمدينة أقرب وتكون الخطوات على الطرقات المتعرجة بطيئة نظرا للإنحدار إلا ان التطلع والرغبة في معرفة المزيد تشدك للصعود لتعرف المدينة من الداخل ولكن من أن تصل إلى القمة حتى تتمنى أنك بقيت في الأسفل ولم تتعب نفسك بتسلق التل المدينة لم تعد سوى بقايا جدران هنا وهناك نهبت من جدرانها السفلى الأحجار التي تثبتها مما أدى إلى وقوعها وبقت بعض الجدران واقفة تحمي نفسها من المعتدين فهم يخافون نقمتها من أن تسقط فوقهم وثمة جدران أخرى لا أدري لماذا بقت محافظها على قوامها الرشيق لكن بعد انبعاث هذا التساؤل كان مصرا على أن يجد إجابته فلم تتوانى الإجابة حتى خفت مسرعة بإخباري بأن ثمة من يحافظ على مسكن أبيه ويمنع الإعتداء عليه مما وفر على تساؤل آخر. 

لفت انتباهي كوات صغيرة تطل من الطوابق العليا للمنازل بحيث ترى من على الباب كانت جميلة جدا وأخبرني أحد الإخوة أن ثمة حبلا يكون جوارها مربوطا بالباب بحيث يشد من الأعلى ليفتح الباب.

كما لفت إنتباهي حفرة عميقة دفعني فضولي للتوجه نحوها لعلي أجد ما يشفي نهمي فوجدت ماسرني , وجدت جدران على بعد بضعة أمتار وهذا مما بعث لدي بارقة أمل أن المدينة التي ذكرتها النقوش لازالت تقبع تحت هذا التل .

كان المسير في التعرجات الضيقة للمدينة تارة بين جدران شاهقة وأخرى بين ركام من الطين وهنا وهناك معالم شتى لكن هي الأخرى لم تكن أحسن حالا من سابقاتها .

في الجهة الشرقية من التل تكون إطلالة جميلة تشرف بها على الجنتين اللتان تحاولان بخطى حثيثة للعودة على ما كانت عليه ذلك الشيء الوحيد الذي يبعث النشاط فيك مجددا .

كانت الوجهة الأخيرة الآن الناصرة و دار الضيافة كلا المبنيان يمثلان حقبة زمنية حديثة فالناصرة مثلت للكثير من أبناء مأرب مركز الحكم والحكومة حتى سبعينيات القرن الماضي ودار الضيافة كان ينزل بها ضيوف مأرب الرسميين نزل بالدار الكثير من الرحالة ووصفوا مأرب وصفا شيقا ولكن المأساة الأكبر ألا تجد هناك إلا ركام نعم ركام تعجز عن أن تقول شيء عن ذلك الركام , يعجز اللسان عن قول شيء , لا أبيح سرا إذا قلت لكم أن الناصرة كانت مبنى منتصبا هنا قبل فترة لا تتجاوز بضعة أشهر واليوم غدت ركام ماذا يمكننا عمله؟ لا شيء !! فقط تطول النظرات الساهمة في الجو ولا يردها سوى غراب يلوح في السماء يرسل نعيقه ونباح كلاب كانت تبحث في المخلفات التي ترمى في مكان غير بعيد عن المدينة بل عند مدخلها حيث كانت الوقفة الأولى.

لم يبق لدينا سوى البئر القديمة بجوار ركام الناصرة لم أحدثكم عنها فهي حافظت على أحجارها من كل معتد.

في اللحظة نفسها أخبرني أحد المختصين أن ثمة مباني أخرى حطمت وأراني صورها في كتاب يحمله معه .

آن الأوان لمغادرة مدينة مأرب القديمة فالوقت ظهرا والشمس حارة جدا ووجهتنا إلى مدينة مأرب الجديدة لم تكن المسافة طويلة وكانت اللافتات تشير هنا وهناك "الفندق السياحي" , "المطعم السياحي", "المكتب السياحي" شعرت بالقلق وقلت شامتا من حالي أي مستقبل سياحي ننتظر , لا أشمت بكم لكن حقا ماذا تنتظرون ؟

في الأسابيع الماضية قام دولة رئيس الوزراء بإعلان مناطق في صنعاء كمحميات تاريخية وثقافية وهذا أيضا كان دافع للكتابة في هذا الموضوع .

فماذا يمنعك أن تكون مدينة مأرب محمية ثقافية أو تاريخية أو أي مسمى لا يهم فمدينة مأرب القديمة ستصبح أثرا بعد عين ما لم تجد خيرين يحمونها من العبث المستمر.

جسر شهارة المعلق.. قبلة سياحية جديدة في اليمن
آثار مأرب تحكي قصة جنتي مملكة سبأ ومجدها الحضاري
عدن .. جنة اليمن السعيد ..مدينة ترقد في حضن البحر وتتوسد الجبل
رحلة في بيئة النباتات الطبية في اليمن
مأرب .. أرض مملكة (سبأ) وحاضرة أساطير بلاد اليمن السعيد
مشاهدة المزيد