لماذا لم تفلح الانتخابات في منع قيام ثورة في اليمن ؟
بقلم/ ناصر الطويل
نشر منذ: 12 سنة و 10 أشهر و 20 يوماً
السبت 07 مايو 2011 05:05 م

في إطار الجدل المصاحب للثورة اليمنية التي اندلعت منذ ما يزيد على شهرين، كثيرا ما يسمع المرء تساؤل رئيسي فحواه .. لماذا لم تَحُول الانتخابات المتتالية التي تجرى منذ قيام الوحدة دون قيام الثورة ؟، وغالبا ما يتم طرح هذا التساؤل من قبل الطرف الذي يناهض الثورة، أو يعمل على التشكيك فيها، .. وفي بعض الأحيان يأتي في سياق المقارنة بين الأوضاع السياسية في كل من: تونس ومصر وليبيا وسوريا بالأوضاع في اليمن، لجهة أن اليمن تتميز بوجود تعددية حزبية، وتنتظم فيها انتخابات تنافسية، مما وفر لها آلية للتغيير لا توجد بالشكل الذي هي عليه في تلك الدول.

وإين كان السياق الذي يطرح فيه هذا السؤال، وأين كانت المقاصد التي تقف خلفه، فإنه سؤال جدير بالمناقشة والتحليل، فلماذا فعلا لم تمنع التعديدية الحزبية والانتظام النسبي في إجراء الانتخابات من اندلاع ثورة تطالب بالتغيير في اليمن ؟

منحة تفتقد إلى إرادة

لا نحتاج إلى التذكير بان النظامين الحاكمين في شطري اليمن قبل الوحدة كانا نظامين شموليين يقومان على نظام الحزب الواحد: الحزب الاشتراكي في الجنوب، وتنظيم المؤتمر الشعبي العام في الشمال، وقد تم التوافق أثناء الترتيب لإعادة تحقيق الوحدة على أن يبنى النظام الجديد على أساس التعددية الحزبية، وكان ذلك مطلب ألح عليه قادة الحزب الاشتراكي نتيجة لقناعات تأكدت لديهم بعد أحداث (13) يناير الدموية عام 1986، ولم يكن بوسع الرئيس على عبدالله صالح إلا القبول به خاصة وأنه جاء في ظل مناخ دولي يطفح بالتبشير بالديمقراطية والانفتاح السياسي، ومن هنا فان منشأ التعددية والقبول بالانتخابات كان توافق جزء من النخبة الحاكمة، ولم يكن نتيجة لإرادة مجتمعية أو شعبية واسعة.

ومنذ عام 1993م حتى اليوم، انتظم إلى حد ما إيقاع العملية الانتخابية، فقد تم إجراء ثلاث دورات من الانتخابات البرلمانية (1993، 1997، 2003)، ودورتان من الانتخابات الرئاسية (1999، 2006)، ودورتان من الانتخابات المحلية (2003، 2006)، وقد شهدت تلك الانتخابات قدر كبير من التنافس بين الأطراف المشاركة فيها، والكثير منها كان يحظى بمشاركة ممثلين عن الرقابة الدولية، وفي بعض الأحيان بقدر من الرضا من اؤلئك المراقبين.

فلماذا والحال هكذا لم يتم تحقيق التغيير عن طريق آلية الانتخابات ؟

بنية النظام السياسي

للإجابة على ذلك يلزم توضيح الفروق الجوهرية الفاصلة بين الانتخابات اليمنية وتلك الانتخابات التي تتم في الدول الديمقراطية المتقدمة، .. ويأتي في مقدمة ذلك الإطار العام الذي تتم فيه الانتخابات، وهو أمر حيوي وحاسم، .. ففي الدول المتقدمة يوجد فصل بين النظام السياسي وجسم الدولة، فهناك حدود مرسومة تفصل بينهما، كما يوجد فصل بين قوة الدولة ومؤسسات المجتمع المدني والتي شكل الأحزاب السياسية أحد مكوناتها.

فقوة الدولة تلتزم بالحياد وعدم الانحياز تجاه أين من الأحزاب المتنافسة في العمليات الانتخابية، فالحزب الحاكم في بريطانيا أو الولايات المتحدة على سبيل المثال، لا يستطيع أن يستخدم وسائل الإعلام الرسمية أو المال العام أو الجيش في مواجهة منافسيه من الأحزاب الأخرى، وليس بإمكانه ـ مثله مثل بقية الأحزاب ـ إلا الاعتماد على إمكاناته الذاتية، وقدرة برنامجه السياسي والانتخابي على اقناع هيئة الناخبين.

أما في اليمن فالوضع على خلاف ذلك تماما فقد شهدت العقود الأخيرة تغولا واسعا لسلطة الدولة على حساب مؤسسات ومكونات المجتمع، وبداخل جسم الدولة اتسع النظام السياسي وتمدد حتى لكأنه لم يعد هناك فروق ولا حدود تفصل بينه وبين الدولة بكل مكوناتها، وبداخل النظام السياسي تتجمع السلطة بيد رئيس الجمهورية، حتى أنها من الناحية العملية تكاد تكون مطلقة وبلا قيود. 

ويمثل الحزب الحاكم امتدادا سياسيا للنظام الحاكم وواجهة له، ويقوم بوظيفتي الحشد والتعبئة عندما يطلب منه ذلك، وغالبا ما يعتمد في مشاركته الانتخابية على إمكانات الدولة ومقدراتها لأنه مندمج بالكلية فيها، وعلى ذلك فان التنافس في الانتخابات هنا مختلف عما يتم في الدول المتقدمة، إذ أنه يجري هنا بين أحزاب المعارضة المشاركة في الانتخابات بإمكاناتها الذاتية من جهة، وبين الحزب الحاكم الذي يتحرك بسلطة الدولة بكل طاقاتها ومقدراتها بما فيها الجهاز الإداري، ووسائل الإعلام الرسمية، وأجهزة الجيش والأمن، وهيبة وسطوة الدولة، أي أن التنافس من الناحية العملية لا يتم بين الأحزاب، وإنما بين الدولة من جهة وبين أحزاب المعارضة من جهة أخرى.

وفي مثل هذا الحال فان نتائج الانتخابات لا تتحدد بشكل كلي وفقا لتفضيلات هيئة الناخبين، وإنما بناء على عدد من العوامل منها: إرادة ورغبة الحاكم في ترك هامش للاحزاب المنافسة، وحجم القوة التنظيمية والجماهيرية للأحزاب المشاركة، والتوازنات القبلية المحلية، حيث يتمتع عدد من مرشحي بعض أحزاب المعارضة والمستقلين، بثقل اجتماعي أو جماهيري كبير يمكنهم من التغلب على الاختلال العام في ميزان القوة.

 

دائرة مغلقة

الجوانب الإجرائية الخاصة بمراحل التصويت وفرز النتائج في كثير من الأحيان تتسم بقدر من السلامة وربما النزاهة، خاصة في المدن والمناطق الحضرية، ومع ذلك فان دورها ليس حاسما في سلامة نتائج الانتخابية، لان التأثير السلبي على إرادة الناخبين يأتي من الاختلال في الإطار العام الذي تتم فيه، والذي اشرنا إليه في السابق، أي من خلال توظيف إمكانات الدولة ورمزيتها في التأثير على السلوك الجمعي للناخبين بإطلاق الوعود بتنفيذ مشروعات حكومية في جانب التنمية والبنى التحتية، أو التهديد بالحرمان منها، وباستغلال نفوذ مشائخ القبائل، وممثلي السلطة المركزية والمحلية، وبالتحسين الوقتي للأجور، وتنزيل الدرجات الوظيفية، ومعاشات الضمان الاجتماعي ..الخ.

وفي ظل مثل هذا الواقع، ومع ازدياد التوظيف المشروع وغير المشروع لإمكانات وسلطة الدولة من قبل النظام السياسي لصالح الحزب الحاكم، أخذت ثقة قطاع كبير من المواطنين بمدى جدوى الانتخابات تتراجع، فلم تعد تمثل لهم آلية ممكنة لأحداث تغيير سياسي جذري وهام في البلاد، وتأكد للكثير من أنها أصبحت تقوم بوظيفة عكسية، فبدلا من أنها وسيلة لتشكيل عضوية المؤسسات المنتخبة وفقا لإرادة الناخبين، صارت تقوم بالعكس أي تمكين السلطة من إعادة رسم خريطة القوى السياسية وفقا لرغبتها.

وعلى هذا فقد كانت الأحزاب الأساسية المشاركة في الانتخابات تصارع في أكثر من جبهة، فهي تحاول إقناع أنصارها بجدوى الاستمرار في مسار الانتخابات وعدم اليأس منه، وتقاوم تأثير الفتاوي التي يصدرها بعض فصائل التيار (المقبلي والسلفي عموما) المتحالفة مع السلطة والتي تعمل على نزع المشروعية الدينية للانتخابات، وتكافح للحفاظ على نزاهة الإجراءات الانتخابية والحد من الاستخدام السلطوي لأساليب الترهيب والترغيب في التأثير على اتجاهات الناخبين.

عبء على الموارد

مع اطراد العمليات الانتخابية ازداد تجيير النظام السياسي لإمكانات الدولة وتوظيفها في عملية الحشد الانتخابي، ولاسيما في الانتخابات الرئاسية وبصورة لا تحتملها موارد البلاد المحدودة، فقد تحولت مواسم الانتخابات إلى مناسبات إنفاق وتبديد موارد البلاد بصورة هستيرية لكسب الولاء والأنصار والمؤيدين، وإرباك عملية التنمية من خلال الوعود بإقامة مشاريع مختلفة خلال أيام الحملات الانتخابية، وهي مشاريع لم تكن مدرجة في الخطة الخمسية، ولا توضع وفق أولويات محددة ومتوازنة.

وفي مثل هذا الوضع تبلورت القناعات لدى الأحزاب السياسية وبعض المنظمات الدولية المهتمة بالتحول الديمقراطي في اليمن، بان الاستمرار في مثل هذا الوضع يشكل عبث، ويضر بالعمل السياسي السلمي، وانه مسئول إلى حد كبير في ظهور حركات اجتماعية عنيفة تحمل مطالب انفصالية أو مذهبية، واتجهت الجهود إلى ضرورة إدخال إصلاحات جوهرية دستورية وقانونية تعمل على تحييد أجهزة وإمكانات الدولة من عملية التنافس الانتخابي، وبناء على توصيات دول الاتحاد الأوربي التي أعقبت انتخابات 2003، والتي وقعت عليها الأحزاب السياسية بما فيها الحزب الحاكم، وبعد شد وجذب انخرطت الأحزاب في جولات متقطعة من الحوار ، واتفقت على عدد من الخطوات التي تضمنتها عدد من الاتفاقات واتجهت إلى التهيئة لحوار شامل،.. وبعد شد وجذب انتهت تلك الجهود إلى لا شيء بعد رفض السلطة استكمل السير في خط الحوار الوطني، .... وإعلانها المضي قدما في إجراء انتخابات وتعديلات دستورية من طرف واحد، .. وهو ما يعني أن سبيل معالجة الاختلالات التي تعاني منها العملية الانتخابية هو الآخر قد أغلق.

وهكذا تحولت الانتخابات في الأخير إلى آلية عقيمة، فشلت في التعبير عن إرادة الناخبين وترجمتها في الواقع العملي، ولم تتمكن من توصيل البلاد إلى الهدف النهائي منها وهو تحقيق التداول السلمي للسلطة.. والأكثر من ذلك أنها صارت عبء كبير على موارد البلاد، وفي ضوء عقم هذه الآلية.. وإصرار السلطة على عدم إصلاحها .. تحول الناس إلى خيار الشارع والثورة.