ما لا يعرفه العرب عن فوائد زيت الزيتون وعجائبه في جسم الإنسان الضالع: وفاة شابة ووالدتها غرقاً في حاجز مائي غلاء عالمي لأسعار الغذاء إلى أعلى مستوى ست مواجهات شرسة ضمن بطولة الدوري الإنجليزي الممتاز إستعدادات كأس الخليج.. لجنة الحكام باتحاد كأس الخليج العربي تجتمع على هامش قرعة خليجي 26 أول رد من المجلس الرئاسي لوزارة الدفاع السعودية بخصوص مقتل وإصابة جنود سعوديين بحضرموت تقرير: مليون يمني ألحقت بهم أمطار هذا العام أضراراً متفاوتة وضاعفت مخاطر الإصابة بالكوليرا ضبط عشرات الجرائم في تعز والضالع خلال أكتوبر حزب الإصلاح يتحدث لمكتب المبعوث الأممي عن مرتكزات وخطوات السلام وأولوية قصوى أكد عليها المسلمون في أميركا صوتوا لمرشح ثالث عقاباً لهاريس وترامب
لن تقومَ لليمن قائمةٌ وللمشروع الإمامي عرقٌ واحد ينبض. هذه هي الحقيقة التي أستطيع الجزم بصحتها بعدما كل ما رأينا خلال السنوات الماضية، ولن أقول: بعدما كل ما قرأنا، فما حدث خلال الثمان السنوات الأخيرة فصولٌ عملية من كتاب جديد يخط سطوره الحوثي، الطبعة الإمامية الجديدة، كما خطّ آل حميدالدين، وقبلهم آل شرف الدين والحمزات وصولا إلى الرسي سطورًا قديمة من البغي والعدوان ضد اليمنين
لن نتشعبَ في الحديث أكثر، المنظور النفسي لعملية الحصار لمدينة تعز ــ كواحدةٍ من وجوه العدوان والبغي ــ هو ما سنتوقف عند تفاصيله هنا، وفق الأدوات المتاحة لنا. وقبل ذلك نتوقف عند ثلاثة فصول حوثية منذ بداية الانقلاب وحتى اليوم.
الفصل الأول: "لا يحق لكم البقاء بيننا"
منذ اللحظات الأولى لانقلاب الكيان الإمامي البغيض نتذكر عملية الطرد والمضايقة لأبناء تعز داخل مدينة صنعاء، وحملات التحريض التي طالتهم أكثر من غيرهم، على مستوى التحريض عليهم بمكبرات الصوت في الشوارع العامة. ولسان حال الجماعة: "ليس لكم الحق أن تعيشوا بيننا". هذه عملية ممنهجة تمت من اللحظات الأولى للانقلاب، لإعادة التوزيع الديموجرافي وفق مساقات مذهبية، تم مثلها في العراق وسوريا ولبنان. وزادت هذه العملية أكثر عقب تشكل المقاومة الوطنية بتعز التي قادها الشيخ حمود المخلافي، فتمت مضايقة أبناء تعز عامة بصنعاء بتهمة "المخلافية"، وكان أي "مخلافي" في صنعاء محل تهمة مباشرة من قبل كرادلة الكيان الإمامي البغيض.
على أية حال.. عاد الكثير من أبناء تعز من صنعاء إلى محافظاتهم، وقد فهموا ــ كما فهم الآخرون ــ نصيحة الهالك حسن زيد "الذي معه بيت في القرية يرممه"، فيما نزح آخرون منهم بعد ذلك إلى مارب، وبعضهم غادر الوطن. وهنا يكون انتهى الفصل الأول من فصول الملهاة الإمامية تجاه أبناء تعز، والذي نستطيع القول معه: بقي في الحياة متسع.
الفصل الثاني: "لا يحق لكم أن تعيشوا"
في 22 مارس 2015م اجتاحت قوات الحوثي مدينة تعز، بآلياتها العسكرية، وهي المدينة "المدنيَّة" المتفنِّنة في مدنيتها وسلميتها وثقافتها، وبدون أي مبرر يُذكر، سوى الكراهية الخاصة لهذه المدينة، وكعادة أبناء تعز في المظاهرات مارسوا هوايتهم المفضلة في الاعتراض على هذا التعدي بمعارضة سلمية يوم 24 مارس؛ أي بعد يومين فقط، والمظاهرات عادتهم التاريخية، فقد دشنوا أول مظاهرة سياسية ضد الإمام يحيى في ثلاثينيات القرن الماضي، في وقت لم يكن الشعب كله يعرف شيئا عن مفهوم المظاهرات، ناهيك عن "المظاهرات السياسية"؛ بل الإمام نفسه لا يعرف شيئا عن ذلك، ولا يعتبر المظاهرات إلا "فساد" على حكم آل البيت..إلخ.
أفسد الحوثيون جمال المدينة، بمظاهرهم المقززة، وبسلوكياتهم البشعة، ثم بعمليات القتل والنهب والاغتيالات التي طالت أبناء المدينة بعد ذلك، مستعينين بعدد من الألوية العسكرية المتمركزة حول المدينة التي قصفت المدنيين المناوئين للحوثي داخل المدينة، وبلغت المعارك أشدها نهاية شهر إبريل ومايو من نفس العام.
توقفت الحركة التجارية أو تكاد، وشُلت الحياة العامة، وهاجر أبناء تعز من داخل المدينة إلى ريف المحافظة، وإلى عدن، وإلى الخارج، بمن فيهم الذين نزحوا من صنعاء بعد الطرد منها.
الفصل الثالث: "لا يحق لكم أن تبقوا على قيد الحياة"
لم يكتفِ الحوثيون بمضايقتهم وطردهم من صنعاء، ولم يكتفوا كذلك بتتبعهم والسيطرة على محافظتهم ومدينتهم الجميلة، والتضييق عليهم في معيشتهم، وفي قوتهم الضروري؛ بل لقد تبدى لهم أن ينتقلوا إلى الشعار الجديد: "لا يحق لكم أن تبقوا على قيد الحياة"، من خلال السباعية التالية التي أشار إليها الزميل العزيز الدكتور ياسر الشرعبي في المنبر اليمني للدراسات والإعلام:
1ــ تلغيم جميع المنافذ المؤدية للمدينة
2ــ توزيع القناصة على المرتفعات المطلة على المدينة
3ــ استهداف الأطفال والنساء في الأماكن العامة تحت سيطرتهم
4ــ استهداف المرافق الصحية وتجمعات الناس بالصواريخ والقذائف
5ــ اختطاف الناس من الممرات والطرقات الوعرة التي يسلكونها إلى المدينة
6ــ تلغيم المباني التي سيطروا عليها في مداخل المدينة
7ــ رفض أي عملية تدخل أو دعوة للسلام أو للحوار.
لماذا تعز تحديدا؟
الواقع أن اليمنَ ــ كلَّ اليمن ــ هو عدو الحوثي؛ بل إن كل رافض لدعوى الإمامة والأفضلية هو عدوهم التاريخي، إلا أن لتعز خصوصية عدائية لدى الحوثيين، لعدة أسباب:
1ــ تعز الكتلة الصلبة في المعادل المذهبي إذا ما نظرنا للعملية من منظور: سني/ شيعي.
2ــ تعز الكفة الأرجح في المعادل الاقتصادي إذا ما نظرنا إلى العملية من ناحية اقتصادية، على الأقل إلى ما قبل الانقلاب الحوثي، "ربما تغيرت المعادلة مؤخرا".
3ــ تعز الصوت الأندى في عملية المعارضة الفاعلة، سياسيا، عسكريا، ثقافيا، ويصعب تجاوزها في أية لعبة سياسية.
هذه ثلاثة أسباب استثنائية للعدائية الحوثية تجاه هذه الجماعة، وكل سبب منها على حده قمينٌ باستجلاب حقده عليها.
وثمة سببٌ تاريخيٌّ آخر، يرجع إلى الدور الاستثنائي لتعز في إسقاط الإمامة في ثورة سبتمبر 1962م، وإلى دور أبناء الحجرية على وجه التحديد منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وصولا إلى الدور البطولي في حصار السبعين، وغيرها.. وفي كتابي "روح اليمن.. الحجرية المال في موكب النضال" تفاصيل وافية في هذا الموضوع.
إن البشاعة التي يمارسُها الحوثي في تعز لم تنتقل إلى أرض الواقع إلا بعد أن تغلغلت داخل نفسيته الحاقدة، كحقد تاريخي متأصل. فقط عبّر عنها "وقت اللزوم".
يقسم علمُ النفس المجرمين إلى: مجرم بالصدفة، ومجرم محترف، ومجرم فاسد القيم، ومجرم عُصابي، ومجرم ذُهاني، ومجرم فِصامي، ومؤخرًا هناك ما يسمى بالمجرم الإلكتروني.
الحوثي لا يُمارسُ عدوانا آنيا/ لحظيًا كما تفعلُ أية جماعة إرهابيّة، أي أنه ليس مجرمًا بالصدفة أو العاطفة؛ بل مجرمًا محترفًا مع سبق الإصرار والترصد.. مجرمًا فاسدَ القيم، يصل إلى السّادي، من خلال استعذاب واستحلاء القهر والألم الذي يمارسُه في حق الغير.. من خلال الانحياز إلى المتعة، والابتهاج بالجريمة. يمارسُ التعدي والإرهاب على المدينة متلذذا بذلك. وهذا هو الفرقُ بين المجرم والمجرم السّادي، والأخير يُصنفُ على أنه منحرفٌ ومريضٌ نفسيا. إنه يمارسُ جريمة مركبة، في الفعل وفي الاستلذاذ بالفعل، وهو ما لم ترتكبه القاعدة ولا داعش؛ لأن الإرهابي القاعدي أو الداعشي يقضي على نفسه أساسًا قبل أن يقضيَ على خصمه، كشرط تكتيكي في عملياتهم الإرهابية، وهاتوا لي قاعديا واحدًا بقي على قيدِ الحياة بعد عمليةٍ إرهابية واحدة، فيما الحوثيُّ يقضي على خصمه أولا، ثم يمارس الاستلذاذ بذلك.
الحوثي يتعاملُ مع اليمنيين بشكل عام كمغتصبين لحقّه الإلهي المقدس، وبالتالي فاستخدام القوة والعنف والإرهاب حقٌ مشروع له في استرداد مزعوم هذا الحق، ولو سَالت له الدماءُ وأزهقت النفوس. قال جدهم الأول يحيى حسين الرسي:
أرى حقَّنا مُسْتودعًا عند غيرِنا ولا بدَّ يومًا أن تُرد الودائعُ
ويقول أيضا:
الطعن أحلى عندنا من سلوة كر الجوامس حين طال ظماها
والروس تُحصد بالسيوف ألذ من بيضاء ناعمة تجر رداها
كما قال نقيب العلويين فيما بعد الشريف الرضي، مخاطبا أبناءه العلويين في أرض أعدائهم، وكل الناس أعداؤهم:
دُونَكُمُ، فابتَدِرُوا غُنمَهَا دمًى مُباحاتٍ، وَمَالٌ مُبَاحْ
متى أرى البيضَ وقد أمطرت سَيلَ دَمٍ يَغلِبُ سَيلَ البِطاحْ
وتبعت هذه الأبيات مئات القصائد الشعرية التي تعكس نفسية إجرامية متوحشة، آخرها "دامغة الدوامغ" للأديب أحمد محمد الشامي، وزير خارجية البدر بعد ثورة 62م، ومنها متوعدًا اليمنيين:
سنجعل من حصونهم قبورًا ونبني من قبورهم حُصونــا
ثمة ملمح مهم نؤكد عليه هنا، مع أننا في غنى عن التأكيد على السّادية الإجرامية للحوثي، الكل باتَ مدركا لهذه الحقيقة، يتمثل هذا الملمح في الإجابة عن السؤال: لماذا يتعمد الحوثي قتل الأطفال؟
قبل الإجابة عن السؤال والتوقف عنده من منظور نفسي، نشيرُ أولا إلى أنّ الأطفالَ هم الرقم الأعلى في تعز: قتلا وإصابة من بين الشباب والشيوخ والنساء..! الأمر ليس مجرد صدفة؛ بل عملية مُمنهجة.
وعودة إلى السؤال: لماذا يتعمدُ الحوثي قتلَ أطفال تعز أكثر من غيرهم؟
والحقيقة: إنْ يقتل الحوثي الأطفال فقد قتل أخ له في الإرهاب من قبل. هذا الأخ هو النازية، أجاب أوسكار جروننج في وحدة البوليس النازي، والمتخصص بقتل الأطفال عن السؤال بقوله: "الأطفال ليسوا هم الأعداء حاليا، العدو هو الدم الذي يجري فيهم"..! هكذا كانوا يستهدفون الأطفال. فعل الحوثي مع أطفال تعز ما لم يفعله متوحشو الحروب الصليبية مع الشرق، من منطلق كل طفل يولد هو عدو محتمل، وحقه القتل من اليوم قبل غد. الدم الذي يجري في شرايين أطفال تعز هو العدو..!
باختصار.. إنه يقتلُ المستقبلَ كما يتوهم. إنه يبيدُ كل شيءٍ يستطيع إبادته، المجرم المنحرف يفعل ذلك حتى مع الحجر والشجر والحيوان. ولكن..! هل سينسى اليمنيون ثأرهم؟ حتمًا لا. أقلامُ الكتاب ومدوناتُ الحقوقيين وعدساتُ الإعلاميين توثق كل عملية لحظة بلحظة. "لا تقبروناش". صرخة في ذاكرة المستقبل سيمتد رنينُها لألف عام قادمة.!
إنها نفسية الملك الممسوس "أجاممنون" كما في ملحمة الإلياذة لهوميروس، معاتبا أخاه على افتدائه أحد الطرواديين الأعداء بالمال: "أطلب من الآلهة ألا يفلت أحدٌ منهم من مصيره المفاجئ المحتوم من تحت أيدينا، فلم يعد هناك أي ولد في رحم أمه، حتى هذا لم نتركه..". وهكذا يفعل المتوحشون دوما.
فرعون كذلك قتلَ الأطفالَ واستحيا النساء، طمعًا في القضاءِ على المستقبل حد توهمه، ولكن..!
الصّدمة الإيجابية
وماذا بعد؟ هل حصار الحوثي لتعز نهاية التاريخ؟؟
بالعودة إلى النصف الأول من القرن العشرين، وبتتبع جناياتِ الإمام يحيى على منطقة الحُجرية من تعز تحديدًا، من خلال نائبه علي الوزير، ثم نجله السيف أحمد، ثم الإمام أحمد بعده، نجدهما مارسا أفظع وأبشع الجرائم بحق أبناء الحجرية، وحينها تكاد الحجرية تكون هي كل تعز.
سأستعيرُ هنا ما كتبته سابقا عن الحُجرية في هذا المضمار، في كتابي "روح اليمن.. الحُجرية المال في موكب النضال".
في كتابه دراسة للتاريخ يتحدث المؤرخ والفيلسوف البريطاني آرنولد توينبي عما يسميه الصدمة في حياة الشعوب، أو التحدي والاستجابة. "فالفرد الذي يتعرَّضُ لصدمةٍ قد يفقدُ توازُنَه لفترةٍ ما، ثم قد يستجيبُ لها بنوعين من الاستجابة: الأُولى النكوص إلى الماضي لاستعادته والتمسُّك به تعويضًا عن واقعه المُرّ، فيُصبح انطوائيًّا؛ والثانية، تقبُّل هذه الصدمة والاعتراف بها ثم مُحاولة التغلُّب عليها، فيكون في هذه الحالة انبساطيًّا. فالحالة الأولى تُعتَبرُ استجابةً سلبيَّة، والثانية إيجابيَّة بالنسبة لعلم النفس. لاحظْ أنَّ ذلك ينطبقُ على حالة العرب، فإنَّهم تعرَّضوا لصدمة الحضارة، فلجأوا إلى النكوص إلى الماضي دفاعًا عن النفس".
كانت صدمة الحُجرية تجاه ما حصل لهم من قهر واستعباد خلال عشرين عاما من إمارة علي الوزير على تعز، ونصفها من ولي العهد أحمد إيجابية، من خلال الطاقة الكامنة التي تكتنز بها تلك الروح والتي تعمل على تحقيق الذات برد فعل إيجابي أكبر من طاقة التحدي نفسه؛ أي التعامل الإيجابي مع التحدي الذي واجهوه، فالعصَا الغليظة التي تُرفع أمام الجمهور تذلُّ ذوي النفوس الضعيفة؛ لكنها تستفزُّ الأحرار. ولو تأملنا حركة التاريخ وأحداثه العظمى في التحولات والصّيرورات لوجدناها قائمة أساسًا على فلسفة الفعل ورد الفعل، وقد فصلت قوانينُ الجدل الهيجلي هذه الحقيقة في ثلاثةِ قوانين تبناها ماركس وإنجلز بعده، وعليها بنوا نظريتهم وفكرهم فيما بعد.
وهكذا تتوالدُ الأحداثُ الكبرى من المتغيرات الكبرى في الحياة، سواء كانت من أحداثِ الطبيعة ذاتها التي تصنع تحديا أكبر، كما هو الشأن مع الإنسان الياباني الذي تحدى طبيعته القاسية بإبداعٍ من وحي هذا التحدي، أو من أحداث الإنسانِ نفسه، كما هو الشأن مع ألمانيا التي امتصت صدمتها إيجابيا بعد الحرب العالمية الثانية، وتحولت إلى دولة عظمى، وقد كانت في حكم الموات عقب انتهاء الحرب التي هُزمت فيها. وما ينطبق على هذه الشعوب باتساعها ينطبق أيضا على المجتمعات الصغيرة بمحدوديتها.
باختصار.. ستنتفض تعز كطائر الفينيق من جديد، متجاوزة آلامها وعذاباتها، وستعيد سيرة أجدادها الرسوليين الذين أذلوا أجداد هذه الفئة الباغية داخل عقر دارهم في صعدة، وستثبت لليمن واليمنيين أنها روح اليمن الخالدة، فيما الإمامة لعنةُ الزمنِ وعارُ التاريخ. وإنّ غدًا لناظره قريب.