قلعة القاهرة.. معلم تاريخي يولد من جديد
بقلم/ محمد شرف
نشر منذ: 17 سنة و أسبوعين
الأربعاء 12 ديسمبر-كانون الأول 2007 04:56 م

ما انفك اليمن يحتل مركزا أصيلا في ضمير التاريخ وحركة التحضر الإنساني، يمثل لاعبا محوريا لا يقبل الثانوية أو الهامشية، ليس في لحظات نهوضه وانتصاراته فحسب، بل وحتى في أسوأ حالات ضعفه وانكساراته والتي تجلت في تعاقب الهجمات والأطماع الاستعمارية المختلفة عليه، والتي تعكس وتخبر عن عبقرية وأهمية المكان بمعطياته الطبيعية والإنسانية في حسابات كل الدول العظمى من الفرس والروم والأحباش وحتى الانجليز والأتراك.

إنه وطن الهامات الشوامخ، التي تكللت بأنفَس تيجان المجد وقلائد الجمال التي حيرت كل مؤرخ وباحث وشاعر ورحالة, فكل لؤلؤة وكل جوهرة أنفس من الأخرى، وكل مدينة قصيدة أعظم من الأخرى.

يحار العقل وتفتن الألباب وتكبل الأقلام ويتكرر السؤال: من هذه الفاتنة الفريدة؟ فتقول هذه المرة إنها الحالمة تعز مدينة الاستثناء الجميل مدينة السحر والجمال الموشى بعبق التاريخ والعلم والشعر والأدب والفن والغناء، مدينة النحل المنتجة التي تمثل أحد أهم شرايين هذا الوطن العظيم. والحديث عن هذه المدينة النبيلة حديث يحسب مغامرة، لذلك سيكون حديثنا في هذا التقرير عن أهم معلم تاريخي من معالم هذه المدينة، هذا المعلم هو حصن تعز.

وحصن تعز يمثل النواة الأولى لمدينة تعز. كما أن هذا الحصن بمثابة ذلك التاج الموضوع على رأس ملكة الجمال ليزيد من هيبتها وجلالها.

* التسمية

حصن تعز، أو قلعة القاهرة، أو دار الإمارة، أو دار الأدب، كلها أسماء لهذا المعلم التاريخي الضارب بجذوره في عمق التاريخ السحيق. واسم تعز خصت به في الأساس القلعة المتربعة فوق الأكمة التي عرفت فيما بعد بـ"القاهرة"، ثم ظهرت المدينة بهذا لاسم كما تذكر المصادر التاريخية في أواخر القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي).

* الموقع والتكوينات

تقع قلعة القاهرة في السفح الشمالي لجبل صبر، على مرتفع صخري يطل على المدينة في منطقة استراتيجية تقع بين حصن صبر وجبل التعكر. وهذه المنطقة بموقعها الاستراتيجي والعسكري كانت تمثل حلقة وصل بين مدن المخاء والجند وعدن وجبا وزبيد والتعكر. أما تكوينات القلعة فهي جزءان: الجزء الأول في شمالها الغربي ويسمى "عدينة"، وتعلوه "المغربة". ويوجد في "عدينة" حديقة وسد ماء وعدد من القصور والأبراج. أما في "المغربة" فيوجد إضافة إلى القصور والأبراج عدد من مدافن الحبوب وخزانات المياه وما يزال بعضها قائما حتى اليوم. أما سور القلعة فقد تواصل مع سور تعز القديمة والذي كان له أربعة أبواب رئيسة وهي: الباب الكبير، باب الشيخ موسى، باب المداجر، وباب النصر. وفوق كل باب برج مخصص لحراس المدينة. كما يوجد تحت البوابة الرئيسية للقلعة من جهة الجنوب منطقة "المؤيد" وتتكون من مدرسة بناها المؤيد في عام 702هـ، وقبة صغيرة وبركة وبقايا متنزه الملك المؤيد، ولم يبق من المدرسة سوى "صرحة" صغيرة، أما المنتزه فما زال باقيا بصورة أوضح حتى اليوم، غير أن يد الإهمال فيه ظاهرة، فالقبة تكاد تتساقط دون إثارة أي قلق من الجهات المختصة، بل سمح بالبناء في الساحة التي يفترض أن تكون حرما له مع العلم الكامل بأهميته.

ويتداول الناس مقولة خاطئة: إن القبة تمثل ضريحا لحبر من أحبار اليهود يسمى "الشبزي" قبل 200عام، مع الإشارة إلى أن قبر هذا الحبر يوجد في منطقة جنوب شرق القلعة، أما في منطقة المؤيد فلا يوجد أي قبر أو دليل على وجود قبر.

* البدايات الأولى للقلعة

بالعودة إلى المراجع التاريخية لهذه القلعة فإن ما وجد عن تاريخ هذه القلعة ينحصر في مجموعة من النقوش وعدد من الشواهد الأثرية التي تم العثور عليها في القلعة وعدد من المواقع القريبة منها، وهي شواهد تتضمن تماثيل فخارية ورخامية ومباخر يعود تاريخها إلى الحقبة القتبانية، ومذابح من الحجر الكلسي وبقايا أحجار عليها كتابات بالخط المسند وأخرى باللغة الآرامية السامية التي يرجع تاريخها إلى القرن العاشر قبل الميلاد إضافة إلى بعض النقوش التي ذكر فيها الملك كرب آل وتر يهنعم، في القرن الـ3 الميلادي، كذلك وجدت فصوص من العقيق وخاتم يحمل عنقود من العنب ونقش موجود في الباب الرئيسي للقلعة مكون من ستة أحرف حور منها أربعة حروف بالخط العربي والحرفان الآخران ما زالا على حالهما بالحرف الآرامي. وكل هذه الشواهد والمعطيات التاريخية ترجع تاريخ القلعة إلى عصور ما قبل الإسلام.

غير أن حديث التاريخ يظل بعيدا عن قلعة القاهرة حتى قيام الدولة الصليحية قبل نهاية العقد الثالث من القرن الخامس الهجري وتحديدا في 439-532هـ، الموافق لـ1045-1138 عندما بادر السلطان عبد الله بن محمد الصليحي شقيق الملك علب -المؤسس- ببناء قلعة القاهرة وأقر ذلك المكرم احمد بن علي الصليحي عند توليه الحصن ثم جاء آخوه أبو الفتوح بن الوليد الحميري ليتولى قيادة الحصن باعتباره موقعا شديد الأهمية.

وبالتأكيد رافق ذلك استيطان وتجمعات سكنية لذوي المصالح في سفوح الحصن من مختلف الجهات ليصبح الحصن مقرا للملوك الذين بنوا فيه عددا من القصور لسكناهم وعائلاتهم وتارة كان بعض مباني القلعة يمثل سجونا للمعارضين للحاكم. وهكذا تمشيا مع حركة النهضة العمرانية التي شهدتها المدينة خلال الحقبة الصليحية والحقبة الأيوبية ثم الحقبة الرسولية والطاهرية. والملموس أن الحصن لعب أبرز الأدوار في نشأة وبناء المدينة العتيدة حتى بدايات الحقبة الرسولية. وإذا كان السبق في بناء الحصن للسلطان عبد الله محمد الصليحي فقد كان السبق أيضا للأيوبيين في بناء المدينة عندما وصل شمس الدولة توران شاه أخو الناصر صلاح الدين الأيوبي إلى اليمن سنة 569هـ الموافق 1173م ويتخذها عاصمة لملكه، لكنه لم يلبث أن غادر بعد ثلاثة أعوام ليحل مكانه أخوه المعز طغتكين الذي شرع في بناء أول المدارس في تعز ثم انتقال المدينة نهائيا إلى بني رسول عام 626هـ، حتى أن الملك المظفر خطى خطوته الأولى في اتخاذها عاصمة لدولته التي وصلت إلى عز ازدهارها وقوة سلطانها ليمتد نفوذها إلى أرض الحجاز. وقد وصفها المؤرخون والرحالة بأنها قلعة عظيمة وجميلة من قلاع اليمن وأبراج شاهقة آية في الجمال والقوة، منهم ابن بطوطة وياقوت الحموي وادوار فيكودي والكابتن الهولندي بترمان وغيرهم الكثير من الرحالة والمؤرخين القدماء.

* إعادة الترميم

تدهورت القلعة في فترات متلاحقة بسبب الاضطرابات بعد انتهاء الحقبة الرسولية على أيدي المماليك ثم العثمانيين ثم تهدمت قصورها خلال الحرب الطاحنة بين الإمام المنصور حسين ابن المتوكل وأخيه احمد عامل تعز ولم تحسم هذه الحرب إلا بعد وفاة المنصور حسين على يد ابنه الإمام المهدي عباس لينتزعها المصريون عام 1840م ثم سقطت بيد الأتراك مرة أخرى 1879م ثم ازدهرت المدينة إبان حكم سيف الإسلام الإمام احمد بن الإمام يحيى عام 1938 إلى أن أعيد ترميمها في مطلع القرن الـ21م بلفتة كريمة من الأخ محافظ تعز الأسبق احمد عبد الله الحجري الذي ترك بصمات واضحة في ترميم القلعة وبجهد ذاتي وهذه نقطة تحسب للأخ الحجري في هذا المضمار.

وبالتحديد فقد بدأ العمل في الترميم في مطلع العام 2000 واستمر أربع سنوات وقد قام الأخ المهندس إسماعيل احمد الشيخ بالإشراف والتنفيذ على ترميم الجزء الشمالي الغربي من القلعة (عدينة) حيث أعاد الحياة لحديقة القلعة وأقام الأبراج التي كانت متهالكة وكذا تجديد بناء السد الذي يمتد طوله 60 مترا، وعرضه 11 مترا وعمق يتراوح بين 2.5 و3.5 مترا وقد كان مدفونا تحت الأنقاض. وقد أضاف المهندس عددا من الحمامات وبوفيه، إضافة إلى بعض الزخارف المعمارية في قباب الأبراج جمنون، وكذلك ترميم السور في هذا الجزء من القلعة. وقد التزم المهندس الطابع المعماري القديم مستخدما في ذلك المواد الأولية من "القضاض" اليمني المعروف، الذي يعمل على ترابط الأحجار بدل الاسمنت، إضافة إلى مادة "النورة"، ليحس الزائر لهذا الجزء وكأنه يعيش في العصور الغابرة. أما الجزء الجنوبي والشرقي (المغربة) منها فإن المقاول المنفذ له لم يلتزم تماما بالطابع الأصلي القديم للقلعة بل أعاد ترميم معظم أجزاء السور بطابع جديد، ومهما يكن من أمر فإن عملية الترميم في هذا لجزء لا تزال قائمة حتى الآن. غير أن الترميم توقف في آخر مراحله في قطاع "عدينة" وذلك نتيجة للتغيرات في قيادة المحافظة، وإذا لم يتم تداركه من قبل الجهات المختصة ممثلة في محافظ المحافظة الأخ صادق أمين أبو راس فإن ما أعيد ترميمه في الفترة السابقة سيتهالك وتذهب كل تلك الجهود والمخصصات المالية سدى، خاصة وأن الجهة الممولة هي المجلس المحلي وصندوق التحسين في المحافظة مع العلم انه تم ترميم 85 بالمائة من القلعة ولم يتبق سوى 15 بالمائة، يتوقع المهندسون إلانتهاء منها في القريب العاجل إذا ما تم صرف مستحقاتهم، وإذا ما تم ذلك فإن القلعة ستكون من أبرز المعالم التاريخية والسياحية في تعز.

صحيفة السياسية