ليلة سقوط الجمهورية 2
بقلم/ د.مروان الغفوري
نشر منذ: 10 سنوات و أسبوعين و 3 أيام
السبت 01 نوفمبر-تشرين الثاني 2014 08:13 ص

لم يكن الأمر بحاجة إلى بطل ليكتشف أن الحوثي خطر على الجمهورية، وأن الجمهورية هي المنجز الإنساني الأكثر أهمية منذ الثورة الفرنسية 1789. في القرون الثلاثة الماضية كانت الجمهورية، عالميّاً، تتوعَك، تضطرب، تختلس ملامح الملكيّة أو تنمو إلى إمبراطورية. بقيت للجمهورية ميزتها التاريخية: القدرة على تصحيح ذاتها "ألمانيا مثالاً". أما الأصوات التي تسخر من القول إن الجمهورية في اليمن انهارت وصعد نظامٌ جديد بطرياركي، أحادي، كنَسي يملك فيه فردٌ واحدٌ خيوط كل الأشياء، ولا يمكن تغييره فهو يملك امتيازاً سماوياً، تجري هذه الأصوات خارج الواقعية الحضارية وتبدو غير واعية بالوضعية العالمية المعاصرة ومعنى أن يكون المرء حُرّاً، كلّي الاختيار، كُلّي الإرادة. إذ لا يمكن أن تعالج الجمهورية بصب مزيج من الكنائس والبارونات على عاصمتها! بصرف النظر عن درجة اعتلالها. ففي اللحظة الأكثر قلقاً واهتزازاً في تاريخ اليمن احتاج اليمنيّون إلى حلول تنبع من المستقبل فإذا بالماضي يتدفق عليهم من الكهوف والجبال، من الكتب الصفراء، ومناحات التاريخ.

ها قد أصبح عبد الملك الحوثي يملك كل شيء، لا تدركه الأبصار وهو يدركها، ويقدر على فعل حتى الأشياء التي لم يكن يطمح إليها لأنها كانت إلى ما قبل أيام مستحيلة عليه. لقد استطاع الحوثي أن يكتشف المخبأ الذي لجأ إليه القشيبي، وقتله. كما اقترب من الجنرال علي محسن عبر رجال الأخير وكاد أن يقتله. أما طه الظفري، نجل واحدة من أكثر الأسر الهاشمية إيماناً بالاختيار الإلهي للحوثي، فقد كان مديراً لوزارة الدفاع ليلة سقوط صنعاء، وكان الشخص الذي بحوزته تلفونات الوزير، وحقيبته. كانت اليمن كتاباً مفتوحاً، وكان الحوثي يكتب نصّ الولاية على طريقته. وخلال ساعات صاح عبد الملك على طريقة بن غوريون: حدودنا حيثُ تقف دباباتنا. أما الرواية التي قدمها محمد عبد السلام، الناطق الرسمي للحوثية، إلى قناة الجزيرة فقد تحدثت عن مستوى عالٍ من التنسيق بين الميليشيات التي أسقطت صنعاء وبين الدولة. ولأنه من غير الممكن عمليّاً الحديث عن دولة في اليمن فإن التنسيق جرى بين الميليشيا من جهة والرئاسة والجيش من جهة أخرى. لم تكُن رواية عبد السلام احتيالاً سياسياً، فبعد 21 سبتمبر لم يعُد الرجل مضطراً لاختلاق مثل هذه القصّة.

فقبل السقوط بأياماجتمع هادي بكبار جنرالات الجيش وأبلغهم أنه يريد خطة عسكرية للمواجهة. كان اللواء الجائفي، قائد الحرس الجمهوري، يجلس في مواجهته في حين يتوزع الآخرون على جانبيه. بينما هادي يعبث بكشف من ثلاث صفحات "إي فور" سأله الجائفي بسخرية "الآن تطلب منّا إعداد خطة مواجهة وهم على أبواب صنعاء؟" فرد عليه هادي ببرود: إذا كنت غير قادر على المواجهة فما عليك سوى أن تستقيل. فقد الجائفي هدوءه المعتاد وقال لهادي بصورة مباشرة: اسمع يا فخامة الرئيس، احمِ ظهورنا من الشرطة العسكرية والأمن المركزي واترك الأمر علينا. مرّت لحظات صمت قطعها هادي وهو يلوّح بالأوراق التي بيده "هذا كشف بالأفراد والضباط الخونة الذين سلّموا كل معلومات الجيش إلى الحوثيين". كان كشفاً رهيباً يعادل حجم كتيبة من الجيش، قال هادي إنهم جواسيس للحوثي. استلم وزير الدفاع الكشف المشار إليه، وأعطاه إلى طه الظفري. وطه الظفري هذا لم يكن سوى الشباك الذي يطل من خلاله عبد الملك الحوثي على الجيش. كانت الحركة مقصودة من قبل هادي. ففي ذلك الاجتماع جلب شخصيات لا علاقة لها بالنشاط العسكري وكان يهدف إلى إيهام الجميع بأنه عازم على حماية صنعاء.

الخطة التي أعدتها "هيئة عمليات القوّات المسلّحة" للدفاع عن صنعاء سرّبت إلى الحوثيين. وبحسب مصدر رفيع في الجيش فقد كانت تحركّات الحوثيين كلها معتمدة على خطة الدفاع التي أعدتها الهيئة. "دخلوا صنعاء وهم يعرفون كيف يتحركون ومن أين يهجمون، كانت الخارطة كلهم معهم، ولم يكن هناك جيش" أضاف بلكنة بائسة. وعندما سألته عن موقف وزير الدفاع قال إنه أصدر أوامره إلى كل الجيش بعد التدخّل. وحتى تلك الخطة التي سرّبت للحوثي عمل وزير الدفاع على تجميدها. تواصلتُ مع مصدر في اللجنة الأمنية العُليا فأخبرني أن وزير الدفاع في الاجتماعات الأخيرة للجنة، بينما كان الحوثيون يخترقون شمال العاصمة، كان يقول إن الله سيفرجها. ثم ينهي الاجتماع ويغادر بصحبة طه الظفري، الرجل الذي سيذكره التاريخ باعتباره كلمة السر الكُبرى في انهيار الجمهورية.

في العمليات التي قامت بها جماعة الحوثي في عمران، ثم صنعاء كانت تصرّ على أن تتسلم الشرطة العسكرية المعسكرات والمنشآت. والشرطة العسكرية هي مؤسسة تتبع وزارة الدفاع ويقودها اللواء الركن عوض بن فريد، وهو أحد العسكريين الذين يعتمد عليهم الحوثي في عملياته، وفي الوقت نفسه تربطه بكبار راديكاليي الحراك الجنوبي علاقات صلبة. كان الجائفي، قائد الحرس الجمهوري، مدركاً للفجوة الأمنية الخطرة التي تشكلها "الشرطة العسكرية". فهو، كعسكري رفيع، يعلم الطريقة التي ساهمت من خلالها الشرطة العسكرية في إنهاء وجود اللواء 310 في عمران. فقد كانت المفاوضات في صنعاء، آنئذٍ، على أن يخرج جنود وضباط اللواء 310 بسلاحهم الشخصي، وتتسلم الشرطة العسكرية اللواء بكل عتاده. ما إن بقي بضعة عشرات في المعسكر حتى انسحبت الشرطة العسكرية بصورة مفاجئة ودخل الحوثيون اللواء من كل بواباته. في تلك الأثناء، وهذا الجزء الأكثر تراجيديا في سيرة سقوط اللواء 310، كان وزير الدفاع في الإمارات، وكان قائد اللواء القشيبي في مكان آمن داخل اللواء، غرفة تحت مبنى الاتصالات. هاتف القشيبي رئيس هيئة الأركان اللواء الأشول تمام الساعة السادسة مساء وصاح به "هل هذا هو الاتفاق، الحوثيون يقتحمون اللواء ويقتلون من بقي من الأفراد في العنابر". سأله الأشوال عنن مكانه فقال إنه في مكان آمن. استمرت عملية البحث عن القشيبي قرابة الساعتين، ووزارة الدفاع تغط في نوم عميق. الطيران الذي غادر صنعاء لإنقاذ اللواء جاءته أوامر من الجوية، بحسب رواية الأشول، بالعودة. وفي تمام الثامنة والنصف هاتف رئيس الأركان مرّة أخرى القشيبي ليسأله عن مكانه، وينصحه بالتواصل مع قائد الشرطة العسكرية في عمران. همس القشيبي على الهاتف "أنا على بعد أمتار من الشرطة العسكرية، ولا أستطيع أن أتحدث إليهم لأن الحوثيين منتشرون في كل مكان". طارت جملة "على بعد أمتار" في السماء. المصادر الأمنية الرفيعة التي تحدثتُ إليها تؤيد الفكرة التي تقول إن الأشول بادر بنقل المعلومة إلى وزير الدفاع، وكان على الهاتف على مدار الدقيقة، والأخير بدوره نقلها إلى الحوثيين". مرّ وقت قصير قبل أن يعثروا على المكان الآمن، وهناك وجدوا القشيبي، وصلبوه بطريقتهم. كانت آخر عبارة سمعها القشيبي في حياته، بحسب الرواية الأكثر صلابة، سمعها القشيبي هي "هل تعرف جرف سلمان"؟ أما الشرطة العسكرية فدخلت تتجول في اللواء، وتقلب جثث القتلى، وتتبادل السلام مع ميليشيا الحوثي. بدا كأن جنود اللواء الذين قتلهم الحوثيون ينتمون إلى عالم آخر، أو أنهم غير مرئيين.

تجاهلت وزراة الدفاع الأمر بعد ذلك كلّياً، وذهب هادي يضلل الناس، بمن فيهم نفسه. وأكثر من ذلك حاول أن يمنع الناس من أن تتذكر حقيقة أن القشيبي سبق وقدم استقالته إلى هادي أكثر من مرّة وكان الأخير يرفضها قائلاً "لن يتصرف الحوثي باليمن كما يشاء، أنا الرئيس". وكان يعدّ لنحره، إذ ذهب بعد ذلك يقول للسفراء إن القشيبي كان قائداً متمرّداً. أما الوزراء الثلاثة الذين اجتمعوا ليدوّنوا خطاباً رسميّاً يدينُ اقتحام المعسكر وقتل قائده فقد فوجئوا بوزير الدفاع يقف على رؤوسهم ويقول بصوت آلي خشن "خففوا صيغة البيان، لا داعي لأي تصعيد، وليس هناك ما يستحق الإثارة".

مرّة أخرى..

بعد عشرات السنين سيحتفظ الرجلان بمكانيهما: عبد الملك الحوثي ملكاً، وآمراً، وصالح هبْرَة موظفاً مأموراً. وحتى فيما لو حدثت ظواهر طبيعية مدمّرة، ومات نصف البشر أو نجوا من الموت لن تتغير مواقع الرجلين: الملك والمأمور. وليس لذلك من تفسير سوى أن الله يحب عبد الملك، ولا يحب هبرة. غير أن الأمر الأكثر جللاً في هذا المشهد هو أن هبرة لن يراجع إلهه قط في هذا الشأن. في السرّ ستنمو طبقة جديدة من المؤمنين تعاتب الإله: لماذا تحبّ عبد الملك أكثر منّا. وعندما يعثر مسلحو عبد الملك على هذه الفئة المؤمنة سينتهكون حياتها بوحشية، وسيقال لهم "كانت تلك هي إجابة الإله، فحذاري من مساءلته مرّة أخرى". هذه ليست مقطوعة درامية، فقبل أيام عاد أحمد عوض بن مبارك إلى القاهرة حزيناً ومحنيّاً. التقى الرفاق الجنوبيّين وأطلعهم على المعلومة التي دفنها بعيداً عن أعينهم وآن أن يطلعهم عليها بعد أن اختلس الحوثي مجده في اللحظات الأخيرة.

طبقا للرواية الأخيرة لبن مُبارك ففي اللقاء الذي جمعه بالحوثي في صعده ألمح بن مبارك إلى ما أسماها "الإرادة الجنوبية" ومرّ على فكرة استعادة الدولة. ويبدو أنه كان ينقل تلك الكلمات كرسائل هادوية لمساومة الحوثي. لم يكن هادي يضغط على الحوثي أو يهدده، كان فقط يساومه، وهُنا يكمن لغز سقوط الجمهورية إلى حد بعيد. يقول بن مبارك إن الحوثي اعتدل في جلسته وخاطبه بصورة مباشرة مشيراً بسبابته تجاه صدر بن مبارك. قال الحوثي إن أمر الشمال محسوم، وأنه الشخص الوحيد المخوّل بالحديث عن المصير السياسي للشمال. أما الجنوب فإن مسألة انفصاله "أبعد من عين الشمس"، وأنه على أهبة الاستعداد لخوض حرب في الأراضي الجنوبيّة حتى آخر مجنّد يملكه، وآخر طلقة مدفعيّة. حدث ذلك قبل سقوط صنعاء بساعات. نقل بن مبارك الرسالة إلى وزير الدفاع وهادي، وبدا كأن الرجلين لم يسمعا ما قاله فلم يكونا مشغولين بأمر الجنوب، ولا بأمر الشمال. بدلاً عن ذلك فقد اتخذ هادي ووزيره طريقاً آخر. ففي تمام الساعة التاسعة مساء، 20 سبتمبر 2014، هاتف وزير الدفاع السياسي المعروف صلاح باتيس "إصلاح، حضرموت" قائلاً: أنا الآن في القيادة العامة، كي تتأكدوا أننا اتخذنا قراراً بالمواجهة العسكرية، أبلغ أصحابك بذلك وأخبرهم بأن عليهم أن يصمدوا في أماكنهم. غير إن الإصلاح كان قد خسرَ كثيراً، وبات أمر انسحابه مجرّد مسألة إجراءات. بدا لهُم أن هناك مذبحاً كبيراً وأن ثمّة من قرر نحرهم عليه قرباناً. أما الحوثيون فلم يجدوا مانعاً من أن ينحروا أي يمنيّ أياً كانت صفته، فلديهم ما يكفي من الذرائع. فهم يقتلون اليمنيين كأنهم لا يعرفونهم. يتعاملون مع اليمني، منذ مئات السنين، على طريقة الظواهر الاستعمارية الإحلالية. فقبل مئات السنين سئل الإمام عبد الله بن حمزة، من الأئمة الذين حكموا اليمن، عن سبب نحره لليمنيين فرد غاضباً "قتل جدّي الإمام علي ثلاثين ألفاً في نهار واحد، كانوا كلهم من المسلمين، ومن قتلاه من حضر بدر المسلمين فما بالكم بهؤلاء الأوباش". كان يقصد بالأوباش الشعب اليمني.

في نهار اليوم 20 سبتمبر انطلقت المدفعية من فرق الجيش المرابط في كل من عطّان، ونقُم مستهدفة مقرّ الفرقة الأولى مدرع. كان وزير الدفاع يصرّ على حسم أمر الفرقة بسرعة بعد صمودها مسنودة بالتشكيلات المسلّحة التي قدمها الإصلاح والقبائل والمتطوّعون. وكان هادي قد أعطى موافقة على تلك الفكرة قائلاً إنه يريد أن ينتهي من ذلك الكابوس إلى الأبد. في تلك الأثناء كان أحد وزراء حكومة باسندوه في زيارة قصيرة للسفير الأميركي في صنعاء. جاءه اتصال مفاجئ من شخصية مرموقة أخبرته أن الجيش يهاجم الفرقة الأولى مدرّع من أكثر من جهة، وأن هناك حالة من الذهول والحيرة والشلل. نقل الوزير هذا الخبر إلى السفير الأميركي فهاتف الأخير الرئيس هادي مباشرة، وكان أول سؤالٍ طرحه عليه ـ طبقاً لرواية الوزير ـ هو: هل فرق الجيش المرابطة في عطّان ونقُم لا تزال تحت قيادتك أمّ أنها تمرّدت؟ أجاب هادي "لا تزال تحت قيادتي ولا يوجد أي تمرّد". سأله السفير الأميركي: لماذا تقصف الفرقة المدرعة إذاً؟ ارتبك هادي، طبقاً لرواية السفير الأميركي، وقال إنه لا يعرف، وأنه سيسأل من يعرف! فيما يخص هذه الحادثة، إطلاق النار على الفرقة المدرّعة، بدت المصادر العسكرية في الفرقة المدرّعة مترددة عندما سألتها وأعطتني إجابات غير واضحة، مفضّلة فيما يبدو عدم تأكيد أو نفي الحادثة بشكل نهائي لأسباب غير مفهومة.

نجا الجنرال من موت محقق. كان العقيد خالد العندولي مقرّباً من الجنرال علي محسن. في الساعات الحرجة استطاعت جماعة الحوثي أن تخترق تحصينات الجنرال وجداره الناري عبر الضابط المقرّب منه "العندولي". في تقدير القيادات العسكرية التي سردت لي القصة فإن العندولي عندما رأى كل القادة، بمن فيهم الرئيس، يبيعون الدولة والجيش والعاصمة قرر أن يشترك في العملية ووشى بقائده. لا يزال مصير الرجل مجهولاً وفي الغالب، بحسب أكثر من رواية عسكرية، فقد اتجه إلى صعدة وقدم ولاءه لقيادة الميلشيات هناك. قائد عسكري آخر فرّ أيضاً في تلك الساعات. فقد كان قائد هيئة عمليات القوات المسلحة من أكثر العسكريين حماساً لتنفيذ خطة الدفاع عن صنعاء. وعندما وقف أمامه وزير الدفاع معلناً تجميد كل فعل عسكري وبشكل نهائي، في الوقت نفسه كانت جيوش الحوثي تقتحم صنعاء أدرك الرجل أن قائده الأعلى سيبيعه للميليشيا كما فعل مع كل شيء. فر قائد عمليات القوات المسلّحة من صنعاء، واختفى بعد ذلك.

في كل الأوقات كان هادي ووزير دفاعه يتحركان في مدارات أخرى لا علاقة لها بالشمال ولا بالجنوب. فالرجل الذي فرّ من عدن صبيحة يوم من أيام العام 1986 وهو في وافر شبابه لن يعثر على بطل بداخله وهو يتخطىّ السبعين. المعلومات الدقيقة التي حصلت عليها من مصادر عليا تقول إن المملكة السعودية بعد أن وعدت هادي، عقب سقوط عمران، بثلاثة مليارات دولار منها 700 مليون دولار لشراء ترسانة عسكرية وترميم سرب المقاتلات فإنها ـ المملكة، سرعان ما حوّلت مبلغ 234 مليون دولاراً. من هذا المبلغ دفع هادي ووزير دفاع 96 مليون دولاراً لشراء قطع غيار من روسيا البيضاء، وأخفوا الباقي، أي 138 مليون دولاراً. حدثت هذه السرقة عندما كان الحوثيون يقتحموشملان ويفرضون إيقاعهم على شمال العاصمة. ترك وزير الدفاع أمر الجيش لسكرتيره الإمامي طه الظفري وراح يتدبّر مصادراً جديدة للدخل. إننا بصدد قصة تقول إن قائد الجيش انشغل أثناء سقوط الدولة بالسرقة، وهذا المشهد السينمائي كان على الدوام حكراً على مهمشي الحروب والعبيد وكلاب السكك، تلك التي تختطف لقمة من حقيبة جريح أو تسرق نعلاً من جندي قتيل.

يتذكر هادي جيّداً موقف اللواء الجائفي من حرب عمران، واحتلال صنعاء. الجائفي هو آخر القادة العسكريين الكبار الذين استمروا في المشهد حتى الآن، وهو أمر يزعج هادي كثيراً، وكذلك الميليشيا. يريد هادي نظاماً عسكرياً يتحكم به طه الظفري عبر شبكته الخاصة! في الأيام الماضية اشتكى هادي للسفراء من قائد الحرس الجمهوري قائلاً إنه ضابط متمرد، مستخدماً في وصفه العبارات نفسها التي كان يصف بها القشيبي.

هادي هو الأمثولة الأكثر إدهاشاً، وإثارة للعار والخجل. فعندما عرض عليه رئيس الحكومة باسندوه مد جسور دبلوماسية مع إيران حتى يمكن التعامل مع المأزق الحوثي بشكل أكثر جدّية ومعقولية فإن هادي رفض الفكرة تماماً وراح يشي برئيس حكومته لدى خصوم إيران مرّة أخرى. غير أن هادي عاد مرّة أخرى وطلب التواصل الرسمي مع إيران عبر وسيط "عُمان". بين الفكرة التي طرحها باسندوة والرغبة التي أبداها هادي للاتصال بإيران سجلت الأوراق حادثاً مدويّاً. فقد زار وفد إيراني رفيع، من مسؤولي وزارة الخارجية الإيرانية وآخرون، اليمن فرفض هادي استقبالهم. لم ينس هادي أن يبلغ السعودية أنه رفض استقبالهم، وأن يبلغ الحوثي أنه فعل ذلك تمويهاً! طلب الوفد اللقاء برئيس الوزراء باسندوه فرحّب بالأمر. وجد باسندوه نفسه فاقداً للغة، عاجزاً عن الحركة وفضّل الصمت العميق. ذلك أن رئيس الوفد فاجأه بقوله "فيما يخص السفينة جيهان، والمعتقلين الإيرانيين لديكم، للأسف كل اتصالاتنا بالرئاسة اليمنية فشلت، فقد كنّا نحَال على أبناء الرئيس وهؤلاء كانوا يطلبون فدية مالية. في المرة الأخيرة وصلت الفدية زهاء عشرة ملايين دولار، ونحن نرى في هذ الأمر ابتزازاً لا يتسق مع الأعراف الدبلوماسية"..

سقوط عمران أثار شهية هادي ووزير دفاعه. كما كشف خارطة القيادات العسكرية التي قالت لا لسقوط عمران. هُنا اقتضت الخطة المجيء بالحاوري لقيادة المنطقة العسكرية السادسة. التغيّر المهم في الأيام الأخيرة للحاوري أنه كان ضمن مشائخ همدان الذين وقعوا وثيقة صلح وولاء لـ / مع الحوثي. يدين الحاوري بولاء شديد لصالح، وكان أحد الضباط الثلاثة الذين اشتركوا في اغتيال الحمدي بحسب عشرات الروايات المدوّنة. كانت صنعاء على مرمى حجر، وكان الوقت مناسباً لأن يوضع الرجل المناسب في المكان المناسب. المصادر العسكرية الرفيعة التي تحدثت إليها قالت إن اختيار الحاوري جاء بعناية شديدة وبتنسيق مع حوثيي الجيش. بعد جريمة شملان، ورؤية العالم لجثث الجنود في الشوارع اجتمع هادي بهيئة الاصطفاف الوطني وقال لهم على طريقته "للأسف، عيّنت الحاوري لأنه أقنعني أنه ضد صالح. سبق أن سبّ صالح أمامي، لكنه خدعني. الحاوري عميل لصالح، خدعني، والآن لا يمكن تغييره". بينما كانت جيوش الحوثي تقتحم شمال العاصمة أعاد هادي الجنرال محسن إلى الفرقة الأولى مدرّع تلفونياً. ذهب الرجل إلى الفرقة موعوداً بدعم كبير. لكن الوقت كانت قد تأخر، وكان التلفزيون قد سقط، والتباب المطلّة على جامعة الإيمان والفرقة المدرّعة. حدثت مواجهة قصيرة أدرك معها الجنرال، ومعه الإصلاح بأن الوقت قد تأخر لفعل أي شيء وأنه القشيبي 2، وأن جهة ما ستقبض ثمن جثته. أغلقت كل معسكرات الجيش أبوابها تماماً وتحركت دبابات الحوثي كأنها تعبر في أرض بلا شعب. وبقي في نهار صنعاء، وفي ليلة، 500 فرداً في الزي الرسمي يحرسون اليمن الذي لا يعلم عنهم شيئاً.

وفي ظهيرة يوم 21 سبتمبر غادر محسن الفرقة الأولى مدرّع واتجه إلى السفارة السعودية. وبدوره هاتف السفير السعودي الرئيس هادي قائلاً "الملك يبلغك التحية ويطلب منك حماية حياة علي محسن". طلب هادي من محسن المجيء إلى دار الرئاسة، فطلب السفير حراسة خاصة. وصلت الحراسة، وفي سيارة مرسيدس ليموزين سوداء اتجه محسن من مقر السفارة إلى دار الرئاسة. بات محسن نهاره كاملاً مع هادي في دار الرئاسة في وجود بعض اللاجئين من السياسيين والإعلاميين. دار بين الرجلين حوار طويل، ومعقّد، لو دوّنه اليمنيون فسيكشف الضوء على أسوأ ساعات صنعاء. في المساء طلب هادي طائرة مروحية من القاعدة الجوية في صنعاء، لكنها كانت قد سقطت كلّياً بيد الحوثيين. رفض الحوثيون السماح لأي طائرة عسكرية بالإقلاع دون معرفة "لماذا". اضطر هادي لطلب طائرة عسكرية من خارج صنعاء، أغلب التقديرات أنها جاءت من تعِز. قامت المروحية بنقل الجنرال علي محسن الأحمر ورفاقه إلى الحديدة. من الحديدة غادر الجنرال عبر مروحية أخرى إلى الأراضي السعودية، إلى جيزان..

يدور الرجلان، هادي ووزير دفاعه، في عالم معقّد من الهمجية والمال واللصوصية والتآمر. فالدبلوماسي الرفيع الذي أخبرني قبل عام أن هادي يقرأ الكتب محاولاً أن يثير إعجابي عاد قبل أيام للاتصال بي، وليخبرني بأن الكُتب التي حدثني عنها قبل عام كانت متعلقة بالجاسوسية والجرائم. وأن هادي بالفعل مهووس بالمؤامرات والدسائس. فعندما تآمر صالح مع الحوثي اتجه هادي لمنافسة صالح على الكنز ذاته. في الأيام الأخيرة قرّر صالح العودة إلى السعودية فرحّبت السعودية بالأمر. وبحسب المعلومات التي لدي فإن السعودية قبلت الصفقة وتسعى لتزويد صالح بمبالغ مالية كافية لملمة شتات النسيج الذي اختطفه الحوثي. في الوقت نفسه أوقفت مبلغ 450 مليون دولاراً كانت جاهزة للتحويل إلى صنعاء، كجزء من التزام سعودي حديث. سئمت السعودية هادي، حتى السعودية. خرج هادي بخطاب ضد الحوثي لينافس صالح في هجاء الأخير، كما نافسه في التحالف معه. غير أن هذا ليس الجزء الأكثر سوء في فخامة السيد الرئيس.

يتبع ..

م. غ.