الجائفي.. الموقف والانجاز
بقلم/ د . عبد الوهاب الروحاني
نشر منذ: يوم واحد و 20 ساعة و 58 دقيقة
الثلاثاء 28 يناير-كانون الثاني 2025 05:53 م

    (1)

   لا يعترف بالرمادي ولا بالألوان الغامضة، مشاكس حد التمرد، له لون واحد، وطباع واحد، ربما حادا، لكنه صادق وواضح كالشمس، صاحب قرار وموقف، يُعلي من شأن الثوابت الوطنية ويعتبرها مقدسة، جمهوري من الماء الى الماء، وحدوي حتى العظم، أعلن موقفا حازما من "الفيدرالية" التي ابتدعها حوار "الموفمبيك" (2013) بكونها "مقدمة للتمزيق وعودة للانفصال"، فرفض الحوار واستقال من تنظيمه الذي شارك في تأسيسه وانتمى اليه وأحبه، وذلك كان شأنه مع المواقف التي تتعارض مع وجهة نظره في القضايا الوطنية.

 

  الكثير من المواقف الصلبة التي اتخذها خلال مسيرته السياسية تعود لخلفية تكوينه العسكري بالذات؛ فهو نشأ وتربى في محيط وبيئة سمحت له بمواصلة تعليمه وتفوقه؛ في صنعاء مركز العلم والاستنارة كان مولده ونشأته، تعلم في مدارسها ونهل من معارف كبار أدبائها ومشايخ العلم فيها.. شاب طموح يسابق الزمن، يدرس ويعمل ويبحث عن فرص جديدة في آن ، التحق بالكلية الحربية وتخرج منها متفوقا في العام 1972م.

 

   طموحه، وشغفه في التعلُّمِ وتطوير مهاراته ومعارفه دفعه للسفر الى مصر ليلتحق بكلية الحقوق جامعة القاهرة، ويحصل على شهادة الليسانس في الحقوق. عمل في أكثر من مرفق سياسي واداري واقتصادي ضمنها ادارة بنك التعاون الأهلي للتطوير، الذي أسهم بفاعلية مع زملائه في وضع أسس وقواعد تنظيمه وتأسيسه عام 1979م.

 

   محمد الجائفي، رجل دولة ومناضل كبير، بدأت اسمع عنه واتابعه وأنا لا أزال طالبا جامعيا، وهو يشغل مطلع ثمانينات القرن الماضي محافظا لمحافظة اب، التي عاشت مرارة أحداث المناطق الوسطى، ثم وزيرا للتربية والتعليم خلال الفترة ما بين (1985-1988) ومعارك "المناهج والمعاهد".. جمعتني بالرجل (لاحقا) لقاءات ومنتديات وتجمعات سياسية واجتماعية كثيرة، علاوة على زمالتي له في مجلس الشورى منذ العام 2008م، عرفته عن قرب، صاحب رأي وموقف، يضع النقاط على الحروف، له أراء حدية بشأن المقدسات الوطنية (الثورة، الجمهورية، والوحدة)، كان يشاركنا من قت لآخر في جلسات "مقيل" نقاشية أسبوعية في منزلي بصنعاء، كما كان يشارك في لقاءات "مجلس الحكماء"، الذي شكلناه من نخبة من المثقفين والسياسيين بنتيجة انفلات الأوضاع بعد 2012م.. كنا نقف على المستجدات التي ترتبت على فوضى 2011م.. نناقش الانهيارات المتسارعة لمؤسسات الدولة.. نبحث في الممكن وغير الممكن، نستشرف الكارثة التي تتربص بالوطن، وننقب في الغيب عن نقطة أمل وضوء.

 

المخزون الوطني:

تابع تطورات الأحداث المرتبطة باليمن من نكسة 5 يونيو67، وما ترتب عليها من انسحاب القوات المصرية من اليمن الى انقلاب 5 نوفمبر، الذي أطاح بالمشير السلال، ثم تأثر كثيرا بأحداث أغسطس67 وتفاعلاتها، وارتباطها بالوضع المأساوي الذي شهدته صنعاء بين رفاق السلاح الجمهوري بسبب الانتماءات الحزبية المتعصبة، التي انعكست تأثيراتها على مجريات الأحداث شمالا وجنوبا، بما فيها التأثير على سياسة الجبهة القومية، التي تسلمت السلطة بعد انسحاب المستعمر البريطاني من الجنوب (نوفمبر67)، كل ذلك جعله يتخذ موقفا من التحزب الاعمى، وظل يبحث في مخزون الوطن الثقافي والإنساني غير الملوث بـ"الأفكار المستوردة".

 

   انشغل محمد عبدالله الجائفي بالعمل السياسي من وقت مبكر، فكان ضمن من اختير لعضوية لجنة الحوار الوطني (1979)، التي انبثق عنها "الميثاق الوطني"، واصبح عضوا مؤسسا للمؤتمر الشعبي العام (1982م)، وعضوا قياديا فيه، وأوكلت اليه مهمة تأسيس معهد الميثاق الوطني في العام 1984، فوضع قواعد وأنظمة التأهل والتدريب فيه، ثم خاض تجارب رائدة في العمل السياسي.

 

  تدرج في الوظيفة الحكومية من جندي وضابط في القوات المسلحة الى موظف مسؤول، ومن محافظ الى وزير وسفير حتى استقر به المقام في مجلس الشورى.. قدم عصارة جهده وامكاناته بعفة ونزاهة واقتدار.

 

  في اب، خاض مطلع الثمانينات تجربة مريرة مع أحداث المناطق الوسطى، التي اشعلتها "الجبهة الوطنية"، والتي "نتج عنها - كما يقول الجائفي - قتل الألاف من المواطنين ومنتسبي القوات المسلحة، وتشريد الاف من الاسر عن قراها ومنازلها، ليس ذلك وحسب وانما زرعت الجبهة في جبال وتباب وسهول اب، وتعز، والبيضاء، وريمة، وذمار أكثر من 12 مليون لغم"، كان الجائفي ينظر لأحداث المناطق الوسطى ليس بكونها "نضالا" وإنما بكونها "تخريبا"، وهو - كما قال - الوصف المناسب، الذي أول من اطلقه على الجبهة القاضي عبدالرحمن الارياني رئيس المجلس الجمهوري حينها٫ وأيده في ذلك كل رجالات الدولة، لسببين:

 

الأول: إن الجبهة الوطنية تبنت ثقافة لا تنتمي لثقافة المجتمع، ويقصد بها الثقافة الماركسية – حسب رأيه.

 

الثاني: لأن الجبهة بفصائلها الحزبية الماركسية كانت ترتكب أعمالا وممارسات لم تضر بالدولة فقط، وإنما اضرت بالمجتمع واساءت للمواطن .

 خلص محمد الجائفي لهذا المفهوم بكونه وقفَ على الأحداث وعاش تفاصيلها ليس من موقع المراقب٫ وإنما من موقع المسئول.

د. عبدالوهاب الروحاني