لم تكن ثورة 11 فبراير اليمنية قبل ست سنوات معزولة عن سياقها التاريخي والاجتماعي، بل كانت امتداداً وتراكماً تاريخيا لثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر العظيمتين، اللتين صنعتا الهوية اليمنية الجمهورية الموحدة، بتخليص الأولى اليمنيين من الاستبداد والكاهنية الإماميه، أي الاستعمار الداخلي، فيما خلصتهم "أكتوبر" من الاستعمار الخارجي ومشتقاته المريضة. ست سنوات مضت، لثورة كانت على وشك الانتقال وحصد ثمارها يمنا اتحاديا ديمقراطيا مدنيا، بتضحياتٍ قليلة، لولا الاقتتال والفوضى التي خلفها الانقلاب المشؤوم للثورة المضادة "الطائفية" على ثورة فبراير السلمية المدنية التي أبهرت العالم بسلميتها في بلد قبلي مسلح، والتي كانت تعبيراً حقيقيا واضحاً عن جوهر الأمة اليمنية الحضارية الضاربة في عمق التاريخ الحضاري، الممتد أكثر من ستة آلاف عام من التأسيس الأول للدولة والنظام والقانون المعيني والسبئية إذ لا تزال نقوش المسند شاهدةً على عظمة تلك اللحظة التاريخية لأمةٍ عظيمةٍ سبقت العالم كله بقوانين الجنسية والحكم الإداري، وأطلقت على نفسها بالشعب وحكمته إمرة عظيمة ذكرها القرآن الكريم في أنصع صورة للحكمة والرشد السياسي.
أمة هذا تاريخها لن تضل الطريق، مهما طال السير نحو استعادة تلك الحكمة والرشد السياسيين، والسير نحو مستقبلها المنتظر، على الرغم من كل هذه التحديات الكبيرة التي نراها، لكنها حتما لن توقف عجلة التاريخ التي حرّكتها جموع اليمنيين يوم 11 فبراير لتستأنف السير نحو المستقبل المنشود الذي خرج اليمنيون جميعهم من أجله أول مرة، بتلك الصورة المشرقة والمضيئة.
صحيح أن الانقلاب الدموي ضاعف التضحيات، وأخّر عجلة السير نحو حلم 11 فبراير الكبير، لكن هذا الحلم لا يزال الهدف الكبير لكل اليمنيين الذين يرون في ثورتهم حاديهم نحو تحقيق كل أحلامهم الوطنية المشروعة بيمن اتحادي ديمقراطي مدني عادل، لأن أدبيات فبراير كانت الخلاصة الوطنية الكبرى لكل ثورات اليمنيين وحركتهم الوطنية وسرديتها التاريخية التي جرّبت كل محطات النضال، فلم تجد مثل أدبيات فبراير تأسيساً وطنياً مكتملا.
مع هذا، يتساءل اليوم بعضهم عن ثورة فبراير، أين هي مما يجري على الأرض، ويتناسى الجميع أن هذا الجاري هو استكمال نضالي مسلح لمسار هذه الثورة، وأن شبابها اليوم هم الذين في الميدان، جيل فبراير الذي توزّع بين المنافي والميادين والسجون، ويقود اليوم معركة استعادة الوطن وشرعيته، ويقود معركة وطنية كبرى بكل تفاصيلها العسكرية والسياسة والإعلامية والحقوقية، كل هؤلاء هم المؤمنون بثورة فبراير.
ليس هناك اليوم من يمني يؤمن بثورتي سبتمبر وأكتوبر لا يرى في ثورة فبراير سوى مسار جديد لاستكمال أهدافهما العظيمة وسرديتيهما الوطنية الواضحة التي انقذت الجمهورية من توريث محقّق، وكشفت ما تبقى من كهنوتية نخرت ثورة سبتمبر وعطلت ثورة أكتوبر من الداخل، وحولتهما إلى مجرد شعارات ترفع في المناسبات الاحتفالية مفرغة المضمون.
لا تناقض في أن يرى اليمنيون في "فبراير" مسارا مكملاً لثوراتهم الأولى، ولا تناقض في ذلك سوى عند الذين وقفوا في وجه هذه الثورة دفاعا عن مشروع التوريث الصغير الذي كان يرتب له المخلوع علي عبدالله صالح وكانوا جوقة فيه، حتى أتت جحافل الإمامة واختطفت مشروعهم التوريثي، وأعادته إلى أصله الأول، وهو الكهنوتية الإمامية التي انبرى لها ثوار فبراير في ميادين الشرف والبطولة، يذودون عن جوهر مشروع اليمن الجمهوري الوطني الاتحادي الذي ينشدونه، يمن المواطنة المتساوية والحرية والكرامة.
على الرغم من كل جراحهم وتضحياتهم اليوم، يخرج اليمنيون ميممين وجوههم شطر فبراير وسرديتها الوطنية الكبرى، بوصفها تأسيساً وطنياً ومدنياً ديمقراطياً حرا، مستلهما الهوية الوطنية اليمنية الأولى، متخطياً كل الجراحات والآلام، مشدوداً نحو المستقبل، تاركاً الماضي بكل أوجاعه خلفه، ها هو اليمن اليوم يتعافى بفضل أبنائه وأشقائه الذين أدركوا خطأ وقوفهم ضد روح "فبراير" اليمانية التي كانت وستظل روحاً لكل العرب، وأماناً لكل جيرانه الذين يمثلون عمقا استراتيجيا لليمن، كما هو اليمن بالنسبة لهم، يمن يسوده الاستقرار والتنمية والعدالة والكرامة، يكمل مع أشقائه العرب، والخليجيين تحديداً، بعضهم بعضا، في شراكة وجوار يحترم الخصوصيات، وتبنى عليها مصالحهم المشتركة في الدفاع عن أمن المنطقة واستقرارها وازدهارها، ولا يتأتى ذلك كله إلا بيمن جمهوري اتحادي مستقر، عنوانه وبوابته فبراير وأهداف ثورته.