طلاب اليمن في سوريا.. موت الغربة
بقلم/ متابعات
نشر منذ: 15 سنة و 11 شهراً و 9 أيام
الثلاثاء 25 نوفمبر-تشرين الثاني 2008 06:55 ص

مارب برس - عدنان الصنوي وأحمد الجبر

رنّ جرس الهاتف عند الساعة الثانية ظهرا تقريبا بتوقيت دمشق، وكان المتصل مسؤولا دبلوماسيا رفيعا في السفارة اليمنية، حيث نقل إلينا خبر محاولة اقتحام قناة فضائية لحرم السفارة لتصوير ما اعتبر اعتصاما للطلاب اليمنيين المنزلين من كشوفات المنح المالية المعتمدة. وقد كان هذا دافعا إضافيا للمضي في إنجاز هذا التحقيق بمساعدة كاملة من السفير اليمني الجديد، عبد الوهاب طوّاف.

وقبل ذلك قيل لنا إن طالباً يمنياً توفي في العام 2007، ولم تتدخل أي جهة حكومية للمساعدة في نقله إلى اليمن فدفن هناك. كما قضت امرأة يمنية اثناء ولادة متعسرة فلم يجد زوجها إلا تبرعات طلابية لسد نفقات دفنها مع مولودها.

وتستضيف الجامعات السورية حوالى 2200 طالب يمني، لكن 249 طالبا شملهم قرار حكومي بإيقاف مساعداتهم المالية. تتفق السفارة والطلاب معا على أن القرار كان متسرعا وغير عادل بحق الكثيرين من هؤلاء الطلاب. وعلى أي حال، يعتقد غالبية الطلاب أن تعيين السفير طوّاف كان بداية الحلول الملموسة لمعالجة الأمور هناك، ودفعة معنوية جاءت في وقت من القلق المتزايد بشأن تدهور أوضاع الطلاب اليمنيين في سورية بالمقارنة حتى مع موفدي أشد الدول فقرا على المستوى العالمي.

ومع ذلك فمن المبكر القول إن جهود السفير وحدها قد تفضي إلى حلول شاملة وعاجلة للهم الطلابي، في ظل المركزية الشديدة في تصريف وتصنيف المخصصات المالية، إذ يوجد عشرات الطلاب ممن حرموا من منحهم المالية قسرا أو عن طريق الخطأ، وما زالوا منتظرين الرد من الداخل الذي يأتي بطيئا وانتقائيا أحيانا، ما يؤدي إلى ظهور مواقف انفعالية مضادة، كذلك الذي كان في منتصف الشهر الجاري.

يقول السفير عبد الوهاب طوّاف: "لا شيء يمكن أن يساعد على حل مشكلات الطلاب في سورية دون تفهم أوضاعهم وظروفهم الاستثنائية".

ويتوزع الطلاب اليمنيون على كافة الجامعات السورية، لكن الغالبية العظمى يتجمعون في محافظات دمشق وحلب واللاذقية على التوالي، ويتقاضون منحا مالية بمتوسط شهري 350 دولارا لطلاب البكالوريوس، و500 دولار لطلاب الدكتوراه، وهؤلاء الأخيرون غالبيتهم متزوجون ويعيلون أفراد أسرهم اليمنية هناك.

وكانت أخبار صحافية ليست كاملة الدقة قررت أن الطلاب اليمنيين في سورية يموتون جوعا، دون أي أدلة من شأنها إنصاف أحد هناك، بل كل ذلك لأن أسابيع مرت بينما لم يحصل الطلاب على مخصصاتهم المالية المعتمدة. وبالطبع هذا لا ينفي أن الطلاب يمرون بظروف بالغة الصعوبة بالمقارنة مع أشقائهم العرب، والأوضاع المعيشية الجديدة التي أنتجتها فورة سعرية لم تعهدها سورية من قبل.

المشكلة الحقيقية ليست مقتصرة على تأخر صرف المخصصات فقط، ولكنها سلسلة من الأخطاء الممتدة في صلب السياسة التعليمية ثم إلى مواعيد الابتعاث والقواعد والنُّظم التي يتعذر تطبيقها على الجميع، وكأن القانون "جاء فقط لينفذ على المستضعفين من الطلاب" بحسب المستشار الثقافي عبد الكريم داعر في تفسيره لأحد أسباب الحنق الطلابي.

وفوق ذلك فإن التفسير الأكثر وضوحا للتعثر الدراسي مرده في حالات كثيرة إلى سياسات تعليمية يمنية متمثلة في الميزات التفضيلية لخريجي المحافظات النائية، والتي استغلت في الغالب لتصدير كوادر ليست عند مستوى المؤهلات والقدرات الذهنية المطلوبة للدراسة في سورية، وربما يكون هذا هو السبب في أننا نسيِّر بعثات تعليمية بأعداد كبيرة، وفي المحصلة النهائية نحصد نوابغ أقل وفاشلين أكثر وأشد نقمة.

والأهم من ذلك -بنظر المراقبين للوضع الطلابي اليمني على وجه الخصوص- هو التوجهات الخفية لتصنيف وتسييس كل شيء، وهو بنظر الجميع توجه سخيف ومعادٍِ، خاصة عندما يتعلق الأمر بالعملية التعليمية، إذ لا يزال هناك من يحاول الركون إلى الدعم السياسي، وبالتالي الدفع نحو أن التعليم يمكن أن يكون مسرحا للصراع بوسائل أخرى.

لقد تحدث إلينا طلاب بهذا المنطق وبلهجة مشمئزة حول دور المعادل السياسي في إدارة العلاقات بين الطلاب وأثره على تدني مستويات التحصيل العلمي.

إن الوقوف على مشاكل الطلاب الموفدين إلى الخارج يدفع إلى التفكير بضرورة لم تنجز منذ عقود هي: التخطيط التعليمي الاستراتيجي. فاليمن بحيازته القليل من مستلزمات التأهيل العلمي الغربي، ولكنه بشيء من الإدارة الرشيدة قد لا يكون بحاجة إلى الجامعات العربية على الأقل في التخصصات غير النادرة.

في حلب، تحدث طلاب أكثر خبرة بالمفاجأة: " لا نريد منح خارجية بهذا القدر من المتاعب"، فهم يعتقدون أن تخصصات الماجستير والدكتوراه في المجال الطبي - مثلا- لا تقدم شيئا جديدا " إنها فترات دوام لتغطية العجز الحاصل في المستشفيات، وبعيدا من الاحتكاك المرجو بخبرات طبيّة عريقة".

البحث يجب أن يبدأ اليوم جديا في أهمية الابتعاث الخارجي لانتشال الكثير من الأبناء الغارقين في دوامة الفشل أو المهددين برعب الأخطاء المالية أو التخصصية.

يقول أحد الطلاب: "جئت بعد أربعة أشهر من العام الدراسي الأول، ليتم احتسابها عليّ سنة دراسية كاملة"، وهذا يعني -بحسب النظام المالي المعتمد- أن الطالب مهدد بقطع منحته المالية فور رسوبه لمرة ثانية".

التطبيق الفضفاض والانتقائي لهذه السياسة المالية، هو أن أيا من الطلاب لم يتلق إشارة إنذار، ولم يكن بوسعهم التأكد من ذلك مسبقا. غير أن الطلاب المصدومين بخطأ القطع وما يحاط بمحاولات التصحيح البطيئة يسبغ على الأمر قدرا أعظم من الفجيعة أو الكارثة التي يمتد أثرها إلى أقارب الطلاب المنكوبين.

قال لنا الطلاب حول زميلهم الذي قضى في ظروف غامضة في مدينة حلب: إن والده قال لهم عبر الهاتف، وهو يبكي: "عملت وسعي معه لكني لست قادرا على استقباله اليوم ميّتا وفاشلا"، كان الطالب متفوقاً، فهو أحد أوائل الجمهورية، لكنه انقطع عن الدراسة فجأة قيل إنه لظروف مالية ونفسية".

جميعهم (الطلاب هناك) يقولون أمورا كثيرة من هذا القبيل، بحيث إن القضايا كثيرة لا تعرف ما يفترض تصديقه حولها. لكن الأكيد أن بلدا مثل سورية يتسع لأي شيء إلا الأخطاء الدراسية والأمنية. حسنا، ها كم المزيد من الأخطاء: أحد طلاب الطب البشري تابع دراسته بتفوق في الربع الأول والثاني والثالث في التخصص ذاته، لكنه فوجئ بعد ذلك بتغيير تخصصه في الداخل إلى علوم طبيعية، ليبدأ رحلة معاناة من أجل تصحيح هذا الخطأ.

وفي اللاذقية هناك طالب متفوّق في طب الأسنان أنهى دراسته في العام 2006 – 2007، وما زال بانتظار أوراق تخرجه، ليس لسبب سوى أن شهادته الثانوية لم تدقق جيدا في اليمن.

وفي العام 2007، أُرسلت (الشهادة الثانوية) إلى اليمن بريديا وعن طريق أصدقاء له في صنعاء تمت مراجعة الدوائر المختصة، لكن الجامعة رفضتها مجددا بسبب إرسالها كبدل فاقد، وهو ما زال إلى اليوم مترقبا وصول شهادته الأصلية من صنعاء؛ آملا في الإفراج عن مستقبله المفترض. الأخطاء لا تنتهي عند هذا الحد، فبروتوكول التعاون الصحي بين البلدين ربما وُضع طيّ الأدراج ليكون توزيع طلاب الماجستير والدكتوراه في المستشفيات السورية على غير تخصصاتهم.

وإليكم بعض نتائج هذا العبث:

 الطالب علي البطاني يفترض أن يوزّع بحسب تخصصه (أذن أنف حنجرة) لكنه وزّع في تخصص باطنية، فكان أن جاءته حالة مرضية حرجة استحال إنقاذها ليتم نقلها إلى مستشفى آخر، حيث فارق المريض حياته هناك. رفعت الأسرة السورية قضية ضد الطبيب اليمني وخلال 6 أشهر فصل من الجامعة. ثم بطريقة ما أعيد إليها مرة أخرى.

وهذا طالب آخر في التخصص نفسه (أنف أذن حنجرة) وزع على تخصص "تخدير"، وعندما رفض هذا القرار تم إيقافه عن الدراسة وما زال كذلك حتى اليوم. هنا يتأكد لك بما لا يدع مجالا للشك أن قطار التعليم في اليمن مصاب بأعطاب كبيرة، وإذا تُركت الأمور على هذا النحو فإن الوضع لا يسير إلى الهاوية فقط بل سيعدو إليها عدوا.

إن رجال الإدارة والمالية العظام هم أولئك الذين يدركون أهمية المعادل الإنساني في التعليم واستراتيجيات بناء الأوطان، ومع أن ذلك قد يبدو اليوم سلوكا طوباويا لكنه في الحقيقة أمر بالغ الأهمية بل ومسؤول أيضاً. قال لنا ناشط طلابي، وهو يمتدح سياسات التحديث الحكومية: "لماذا نحتفظ بمثل هذه الإجراءات العقابية في التعليم، إنها سياسات -في اعتقادي- قد تشجّع على تبني سلوك الانتقام".

أضاف: "سيكون من الجنون في حال عدم القلق بشأن سلوك ما بعد الفشل الدراسي، إذ إن عدم تفهم أوضاع الطلاب المتعثرين قد يودي بهم إلى الارتماء وراء جماعات تحريضية، وربما إرهابية في نهاية المطاف".

الشيء الجيّد حتى الآن، أنه لا يبدو أن أحدا هرب من التعليم إلى الإرهاب، ولكن تسريبات سيِّئة تشير إلى أن جماعات على علاقة بـ"القاعدة" مستعدة لاستيعابهم في أي وقت، وهذا يعني أن الناشط الطلابي قد يكون يقول الحقيقة أو يومئ إليها على الأقل.

* وكالة سبأ -