|
لا ضريح أو مزار انتصب في النفوس وثناً يستحق القداسة. وما كان الابتهال بتاتاً لمعلم أثري بهتاناً يشكك في العقيدة. لكن الفقراء (أغنياء) في جبل حبشي يظهرون بلا مبرر في إرساء فكرهم الحليف وبلا رادع، ليس سعياً وراء مناجم الذهب، بل سطو على أحجار وخشب المآثر بطريقة مخيفة تقود لطمس معالم أثرية وتاريخية.
ما يحدث هنا عكس ما أقدم عليه فقراء زيمبابوي حين انتهكوا حرمة القبور، إذ كان لهم مبرر واضح ومقبول، هو ازدياد معدلات الفقر في بلاد عانت الكثير، ورغم ذلك واجهت حكومتها العبث بالتاريخ بحملات جادة، ألقي القبض خلالها على 18 ألف شخص من فقراء قرويين انتهكوا ح رمة 54 قبراً في منطقة "شامخا" الشمالية في زيمبابوي.
في حين ظل العابثون هنا بلا رادع، يتبجحون بأوقاف صالحين اتهموا -رغم خيراتهم- بنعوت جعلتهم مصدراً للخرافة والبدع.
خبر زيمبابوي يفتح نصب أعيننا التساؤل: كيف أن للقبور حرمات هناك، وهنا أضرحة دينية ومعالم تاريخية طالتها أيدي العبث بلا رقيب أو حسيب؟!.
ويصبح الخبر أكثر إيلاماً مؤلماً حين تكون بلاد مثل زيمبابوي وصفت الاستيلاء على ذهب المناجم بغير القانوني واعتبرت السطو على القبور انتهاكاً لقدسيتها وجريمة بشعة يعاقب عليها القانون، وهنا في بلد الحكمة والإيمان لم تعتبر جريمة فالعبث بالقبور والمآثر يتكرر بطرق لا أخلاقية ولا شرعية، ولا تعير للشعور والإنسانية ولا للتاريخ وزناً.
مزار صاحب الخطوة تفوح منه رائحة كريهة
منذ أعوام قليلة نبشت مقبرة ونقلت رفات موتاها لإقامة بالوعة! وقبل أشهر حطم ضريح "عبدالله الجربي" الولي الصالح الملقب بـ"صاحب الخطوة" ليلاً ونقلت أخشاب مزاره وأحجاره البالية إلى بيوت الأهالي دون حتى استنكار من أحد ، كأنما هو تبلد للشعور والفكر.
وحسب الأهالي هناك أن المعتدين أحسن حالاً ممن سواهم، فهم موظفون، أغنياء عن التلصص الممقوت ذلك، غير أن القصد واضح: طمس معالم أثرية عمدوا لإهمالها منذ زمن، علماً أن الولي "صاحب الخطوة" لديه أوقاف تحت أيديهم ومزاره طيلة أعوام مضت مهمل دون لفتة أو اهتمام حتى تحول إلى مكان يتبول الأطفال ويتغوطون فيه.
نقوش مطموسة وآثار مضاعة
"العَجِلْ" ولي صالح نقوشه طمست في كل مكان، في المزار المغلق من قبل متسلطين وبوابة الحجار الحمر أسقطوا منها أعلى صخرة في البناء كان منقوشاً عليها يد عبد الصمد المختار، وابن علوان، مع خاتم الأخير، يقول الأهالي في حكاية يرونها أن الشيخين تقابلا وتصافحا في أول لقاء جمع بينهما.
مزار "العسقلاني" كغيره من المزارات مغلق منذ 4 سنوات، وآثار في مزاره ذهبت ولم تعد كمكتبته رحمه الله، وبيضة النعامة مضاعة كغيرها من ذكرى الصالحين بعد أن ظلت لأعو ام معلقة فوق قفص ضريحه حين كان الناس يأتون إليه من بقاع شتى في طقوس روحية ومدائح دينية وموالد كانت تسمى بـ "الجماعي" تقام كل عام.
وحسب أهالي قدماء كان ذلك اللقاء المسمى بـ"الجماعي" سبباً للتعارف والتآلف الروحي وتقارب المتباعدين وجو روحي في زمن يفتقر إلى المواصلات والاتصالات، إذ كانت تلك الطقوس بدائل لاجتماعات دينية وروحية، وحتى الأسواق صارت سوقاً واحداً ومؤشراً في تبادل العادات والحرف المتباينة آنذاك.
الشهيدة التي نزفت ماء
هي شجرة أثرية ومعمرة اجتثت من مكانها بفكر دخيل ماله من قرار. حصن السيدة أروى بنت أحمد الصليحي والذي إهماله واضح للعيان، وهو يتربع قمة أحد جبال المديرية ومن هناك يروي لنا سفراً من تاريخ وعظمة الإنسان اليمني عبر الأزمان. ينظر لشجرة "التالوق" والتي تجندلت كشهيد (قيل أن عمرها جاوز 380 عاماً). كانت قد غرست فوق بئر ماء بيد صالحة وحكيمة، وحين قطعوها بعظمتها سقطت صامدة، وكأنها حين هوت كانت تردد قوله تعالى: "قل أرئيتم إن أصبح ماءكم غوراً فمن يأتيكم بم اء معين".
الشجرة الأثرية في –بني خيلة- قطعها العابثون رغم عمرها الأثري وطولها الذي يبلغ 60 متراً، وسماكة قطرها 4 أمتار، و امتداد فروعها الذي قارب الـ 400 متر مربع، جيولوجيون ومهندسون أكدوا أن نقص ماء البئر ونزفها في الشتاء كان بسبب قطع شجرة التالوق تلك، وقالوا أيضاً أن ضمور عروقها أدى إلى تسرب الماء وتهريبه من حوض التخزين والاستغلال.
سراديب "علقمة" كنوز للجن
ومن المواقع الأثرية في جبل حبشي جامع الشيخ أحمد بن علوان في "يفرس"، والذي أخذ الحيز الأكبر من الاهتمام والشهرة كموقع أثري وتاريخي، نظراً لمكانة صاحبه، وفي منطقة ذي الجنان ضريح ومزار الشيخ بن علوان..
حصن السيدة أروى وحصن الوافي، وحصن شرياف، ومسعد الحضرمي، وجمال الدين الغريب، ومسجد عبد الصمد، وحصن الوجيه، وحصن البراق، وحصن القمة اليهودي الذي تروى عنه روايات مزجت فيها الحقيقة بالخيال والتاريخي بالأسطورة.
تقول الحكاية أن "علقمة" ساحر يهودي خسفت به الأرض لظلمه، وبقيت كنوزه تحرسها الجن في قرية الكافر بجبل حبشي، وسط الحصن توجد دار كبيرة هدمت وأخذت أحجارها من ق بل أهالي المزيار هناك لغرض البناء، وعلى بعد ربع كيلو متر من جنوب الدار توجد قبة "علقمة" المقبور فيها، وقد تم بناؤها قبل 450 عاماً، وتوجد بركة هناك تتجمع فيها المياه بنيت فوق سراديب وغرف عديدة، كان "علقمة" يستخدمها لتخزين مدخراته.
وهناك كلام لبعض الأهالي أنهم حاولوا حفرها بغرافة "شيول" فاهتزت الأرض من تحت أقدامهم وهربوا مع سائق "الغرافة"، وفي الجهة الشرقية مغارة كبيرة يتم النزول إلى قاعها عبر درج، حفرت في الصخر.
وهناك في أسفل المغارة غرفة للمياه وهناك باب لا ينفتح، يؤدي إلى مغارة متصلة بالدار، وإلى جانبه العديد من الغرف يوجد بالجهة الشمالية مسجد "النزيه" الذي بني أيام "علقمة" وتم تجديده قبل عشرين عاماً.
حكايات مدهشة يرويها الأهالي فحسب قولهم أن المسجد بني فوق أكبر كنوز "علقمة" في أحد السراديب تحت المسجد، ويقوم على حراسته الجن والشياطين الذي كان يستخدمهم "علقمة" في أعماله الشريرة.
ويقول أنس الجبلي أن المواقع المتناثرة في القرية كلها متصلة بدار "علقمة" عبر سراديب محفورة بعمق يصل إلى 6 أمتار تحت الأرض، وكان "علقمة" اليهودي رجلاً متسلطاً استخدم السحر لإرهاب الناس وتسخيرهم لخدمته، وقد سيطر على تلك المنطقة قبل مئات السنين باستخدام سحره ودجله.
قصص غريبة ومثيرة تروى عن "علقمة" وسحره الفتاك و جبروته الذي كان سبباً لهلاكه حين استجاب الله لدعوة امرأة ذبح طفلها كقربان للجن، وكانت هي أول من فضحت ظاهرة اختفاء الأطفال في تلك المنطقة الأثرية حالياً.
الفساد صوفي هناك
أضرحة دينية، معالم تاريخية، مواقع أثرية مفعمة بكلاسيكية روحية تبدو لمستسيغها نكهة لأدب صوفي صار أطلالاً عابقة كجو صيف بعد المطر، ورائحة تراب خالطه رذاذ القطر، لغة وجد مبعثرة على مخيلة هائمة أثري بالكثير –سياحياً، روحياً، أثرياً- من السيدة ذات العيون الزرقاء في روايتها مع رجل عدن.ذاك جبل حبشي تزين سطحه القباب، لكنها قباب صامتة تبدو كجرح شهيد م تعفن وقد تلاشى ضجيج الطقوس الروحية والمدائح الدينية من حوله، ولم يبق سوى ذكرى أليمة ينخر الإهمال والعبث ما بقي من أطلالها.
الولي المختار يندثر مسجده
"عبد الصمد المختار" وليّ صالح، خرج من المغرب للدعوة، وله أوقاف عدة، لكن مزاره أصبح مسرحاً للعبث ومسجده عرضة للاندثار حسب جيولوجيين.
مصاحفه ومفارشه مزقتها مياه تسربت من السطح وأحواض المياه هناك، والبرك المهملة، وبلا جدوى، يعاد بناء الجامع الذي يقع جوار ضريحه "بقرية الأنجد ببلاد الوافي" حسب ما دونته الآثار إلى عام 1182م، وفي القرية المجاورة حصن الوافي المشهور، طالته أيدي العبث بحثاً عن كنوز رآها أحدهم في منامه.
وفي الجانب الغربي لـ"مسجد الولي الصالح" يقع جبل "تالبة" حيث مناطق تاريخية ومعالم، منها "شرياف" أثرية لكنها في أسطورة تروى كانت مملوكة مع الجن التي تصلب وتحنط من يزورها في أوقات خلاف العادة، وذلك حول أحجار تبدو مصورة كإنسان، وجوار حصن الملكة حكاية عن عروس مصلوبة إلى جوار عشيقها على حجر "شرياف".
ثقافة التسليح ومسؤولية غائبة
طمس المعالم التاريخية والأثرية وإهمال بعضها، عبث ساعد على اضمحلال فكر روحي وإنساني كان سائداً في المنطقة، حيث وجد الإخاء وروح التآلف، ليبدو في ظل فجوة فتحها التأثر بفكر سلفي وهابي –منبوذ عند البعض- لطخ أفكاراً وأزاح مبادئ.
وهكذا كان عمداً إلغاء معالم ثقافة مضت، لإحلال ثقافة العنف والتشدد، ثم أن هذه المعالم التاريخية الأثرية والمزارات السياحية جانب مهم كجزء لا يتجزأ من المستقبل السياحي في اليمن..
أليس الأجدر –يا محافظ تعز- تشكيل رقابة محلية أو تفعيل الرقابة لحماية الآثار هنا؟ أليس الأحرى بالجهات المختصة الحد من هذا العبث بالآثار أو الأوقاف والأضرحة ومنع الأهالي من الوصول إلى أراضي الوقف وإصلاح المعالم السياحية مقابل ما تحت أيديهم من أراض وأوقاف؟ إذا كانت هناك حياة لمن تنادي.
* نقلا عن صحيفة الغد
في الأحد 28 سبتمبر-أيلول 2008 01:46:07 م