جحيم العنوسة في العراق
بقلم/ ماهر حميد عبدالله
نشر منذ: 17 سنة و 4 أشهر و 19 يوماً
الثلاثاء 12 يونيو-حزيران 2007 08:33 ص

خلّفت الحروب الثلاث التي خاضها العراق على مدى الأعوام السبع والعشرين الماضية وراءها عواقب ومصائب كثيرة وإفرازات اجتماعية انعكست سلبا على واقع المجتمع العراقي، ككل دون أن تنال من شريحة وتستثني أخرى فبدأت بحصد أرواح الشباب العراقي في معارك دامت سنوات وانعكس ذلك على حياة الزوجات والأبناء وعلى الأمهات والآباء وحتى الأجداد فيما كان أثرها السلبي على البنت أكبر نفسيا واجتماعيا.

وفيما كانت العائلة العراقية تتبع أسلوب تزويج الابن وهو يؤدي الخدمة العسكرية ولا يتمتع سوى بثلاثة أيام (إجازة الزواج التي تمنحها الوحدة العسكرية له في زمن الحروب) إنما تفعل ذلك كي تحظى بذرية تخلد اسمه خوفا على الابن أن يقتل في الحرب وينتهي ذكره أو نسله وكثير من العائلات فقدت أبناء في الحرب لم يدم زواجهم سوى أياما وربما ساعات، وهذه مشكلة تركت مئات الفتيات العراقيات أسيرات سجن جديد نصبت قضبانه قضية فقد أو مقتل الزوج (العريس) سريعا.

الفتاة.. وزواج الضرورة

ومع تراكم المشكلات والمخاوف اندفع الأهالي في المناطق المهددة بالعنف الطائفي نحو القبول بأمور حتى من النوع الذي قد لا يناسب الفتاة، تقول سيدة عراقية طلبت عدم ذكر اسمها "كثير من العائلات العراقية في بغداد وأماكن أخرى الآن يزوجون بناتهن مبكرا خوفا من هجوم المليشات أو أن تنتهك أعراضهن وعسى أن يحظين بزواج بعيدا عن أماكن سكناهم المهددة" مشيرة إلى حالات اعتداء على الأعراض تشنها مليشات في غير منطقة، تعتدي على فتيات باكرات لتصبح الاعتداءات المتكررة خطرا محدقا يهدد مصير العائلة العراقية، وتضيف "إن الفتاة العراقية باتت تفكر الآن بالفترة التي ستمضيها وهي تنتظر الزوج، إذا غابت الأم أو غاب الأب عن الدنيا من الذي سيتكفل بها؟ كما أنها تنظر إلى أقرانها ممن في سنها وقد تزوجن وأنجبن".

"أنا أرفض أن أسميها (عنوسة)" بعبارة مختصرة بادرت فتاة عربية في الخامسة والثلاثين من العمر تعمل في حقل الصحافة ومن اللاتي فاتهن قطار الزواج، محتجة على استخدام عبارة (عنوسة) "لماذا لا نقول انه مصير تقرره الفتاة والى أي حد تبقى بهذا الحال؟".

تقول إحدى السيدات "اعتقد أن كل فتاة تخشى العنوسة وتقلق؛ فقبل الاحتلال كانت الفرص عديدة وللفتاة حرية الاختيار بين من يتقدم لها ولو أنها قليلة بسبب الحروب التي نالت من أعداد كبيرة من الشباب أما الآن حتى وإن كبرت الفتاة وأصبح عمرها فوق سنة الخامسة والعشرين فليس لها نصيب في الاختيار".

الخوف من عنف الشارع

لعب العنف الطائفية دورا في انشغال العائلات بإنقاذ أبناءها من الموت المحدق على قارعة الطريق، فانخفض عدد الزيجات وتدهور أحوال العوانس وازداد أعدادهن، تقول إحدى الفتيات الجامعيات "إذا تعرف الشاب على فتاة زميلة له في الجامعة من غير طائفته (كأن يكون شيعيا يريد خطبة فتاة من المذهب السني والعكس صحيح) هي مشكلة قد تغلق الباب بوجه هذا الزواج وهو في أول أيامه، في وقت لم يكن هناك تحسس في التعامل مع هذا الأمر قبل الاحتلال وليس كما هو عليه الأمر الآن".

كما لعب استهداف الكفاءات من قبل مجاميع مسلحة تلعب دورا إقليميا تخريبيا في البلاد، في انخفاض أعداد الشباب العزاب داخل حدود البلاد فبدأوا يقلون في وقت كثرت أعدادهم خارج أسوار البلاد.

كانت الكتب الدراسية في منتصف السبعينيات تشير إلى أن العراق سيصبح تعداده في مطلع عام 2000 قرابة 30 مليون نسمة ولكن ها نحن والعام 2008 على الأبواب وتعداد نفوس العراق لم يتجاوز 28 مليون نسمة أي بنقص (مليوني نسمة) عن عام ألفين عدا الزيادة المفترضة في عدد السكان للأعوام الثمانية الأخيرة والنقص الحاصل هو في عدد الذكور لأكثر من 80 % والإحصاءات تشير إلى أن نسبة الذكور إلى الإناث في العراق لا تتجاوز 40%.

تقدم العمر وتقديم التنازلات

يوما بعد أخر وبتقادم العمر تبدأ الفتاة العراقية تتنازل عن أمالها فبعد أن كانت تمني النفس برجل ثري ذو جاه ومال وسلطة وسمعة في مراحل مبكرة من عمرها ،تبدأ مع تقدم العمر بالتنازل غير المشروط ،في وقت يتزايد حزن الأهل الكتوم وهم لا يملكون فرصة الإلحاح لان أمر تزويج الفتاة أمر خارج أرادتهم وهم يترقبون ضياع فرص الزواج من بين أصابع الفتاة الواحدة تلو الأخرى يقابلها في الجانب الآخر إصرار الشباب على الابتعاد عن فكرة الزواج مفضلين إتباع مصطلح الاستقلالية الوارد إلينا من خارج تقاليد المجتمع والذي لعبت الظروف المادية البحتة المتمثلة في المهر، الشقة، العفش الخ.. دورا في تفاقم الحالة، تتوجه حجم مسؤولية الزواج التي يبتعد عنها الكثير من الشباب الذكور هذه الأيام كما يلعب الانفلات الخلقي وانتشار بيوت الدعارة في بعض أنحاء العراق خصوصا العاصمة دورا في العزوف الشبابي عن الزواج.

العنوسة في العراق نسب مخيفة

كما هو الصعود في نسب أرقام القتلى والمهجرين من العراق عن أقرانها في دول الجوار (سلبا)، شكلت نسبة العوانس في العراق رقما مذهلا، فقد نشرت إحدى الصحف السعودية مؤخرا، إحصائية حددت من خلالها نسب (العنوسة) في الوطن العربي فأشارت إلى "أن الخليجيات يسجلن أكبر نسبة عنوسة في العالم العربي، ففي حين تسجل فلسطين أقل نسب العنوسة 1% تأتي بلاد الشام (سورية، الاردن، ولبنان) في المرتبة الثانية 5% وتنفرد عُمان عن باقي دول الخليج العربي ومعها المغرب بـ 10% ويتضاعف الرقم في السودان والصومال ليصل إلى نسبة 20% أما السعودية واليمن وليبيا فقد سجلت نسبة عنوسة فيها بلغت 30% ويرتفع قليلا في كل من البحرين والكويت والإمارات ليصل إلى 35%. 

أما في العراق فقد تخطى الرقم بحسب الصحيفة السعودية حدود المعقول ليدخل في حيز الكوارث البشرية بنسبة عنوسة تبلغ 85% من الفتيات العوانس اللواتي صنعتهن آلات قاتلة كالحروب والحصار والاحتلال في حين ذكر (مركز الدراسات الاجتماعية في مصر) " ن أعلى نسبة من تأخرن عن الزواج هي في العراق إذ تبلغ (58%) نتيجة الظروف الاستثنائية التي بقيت شاخصة بالداخل العراقي منذ فترة طويلة ناهزت (الثلاثين سنة ونيف) وهذا يعني أن هذه النسبة 58% تمثل العنوسة عند النساء في العراق" مشيرا إلى أن العنوسة في العراق اليوم هي ظاهرة اجتماعية عامة تتواءم مع الوضع المعيشي المتردي الذي يقترب من حافة الهاوية والذي مازال له الأثر السلبي على الناس.

ولم تكن الضغوط الاجتماعية والمادية في العراق هي الحاجز الأول بل يلعب عدد الحروب التي خاضها العراق مع إيران التي بدأت في الرابع من أيلول 1980 سبقتها حروب متفرقة خاضها جيش العراق في الشمال الكردي في حقبتي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حيث تذكر الإحصاءات الرسمية العراقية والتي صرح بها مسؤلون من أعلى سلم السلطة بأن عام 1974-1975 سجل مقتل وإصابة 60 ألف من أبناء الجيش العراقي في معارك وقعت مع متمردين في شمال العراق، ليبدأ معها سلم العوانس بالارتفاع بفقدان عشرات الآلاف من الشباب المؤهل للزواج وما خلفه موتهم من بداية التعثر في عجلة الإنجاب التي انعكست بعد عشرين عاما حروب الـ 23عاما.

تقول الفصول الدراسية المخصصة للإحصاءات الحكومية في حقبة السبعينيات أن العراق مؤهل أن يصل في عام 2000 إلى 30 مليون نسمة حيث تذكر نسب الإحصاء السكاني التي تجرى كل عشرة أعوام كان أخرها عام 1997 أن نسبة زيادة السكان في العراق تبلغ أكثر من 300 ألف نسمة سنويا، وبعد مرور سبعة أعوام من نهاية عام 2000 حتى يومنا هذا، فإن العراق ما زال عند عتبة 28 مليون (إحصاء تعتمده وزارة التجارة على مفردات البطاقة التموينية المخصصة للعائلة العراقية) أي بنقص مليوني نسمة جلّهم من الشباب ممن طحنتهم آلة الحروب، هذا عدا عن الزيادة المفترضة ما بعد عام 2000. 

منذ أيلول 1980 وحتى يومنا هذا فقدَ العراق ملايين الشباب المؤهل للزواج بين قتيل ومعاق وأسير ومشرد ومفقود تبعها فقدان أكثر من مليون عراقي ذهبوا ضحية الاحتلال والانفلات الأمني والذبح الطائفي، الأمر الذي فاقم من مشكلة العنوسة في العراق والتي تنبئ بانهيار سكاني في المستقبل المنظور بعد أن كان العراق يعد من الدول ذات الكثافة السكانية في الوطن العربي وغرب أسيا فكانت بغداد تحوي بين جنباتها 6 مليون نسمة يمتدون على مساحة 6400 كم مربع.