مر عام على لجوء شباب الثورة في تعز إلى المقاومة المسلحة. عام كامل والثورة، التي انطلقت من تعز بالورود والأغاني قبل خمسة أعوام، تكمل طريقها مخلصة لخطابها وقيمها: الحرية، الحرية أولاً والحرية أخيراً. قبل أيام كتب المترجم اليمني مصطفى ناجي: "هذه الحرب هي الثورة الحقيقية". اختطف صالح البلد على طريقته، وتعامل معنا كرهائن على مدى ثلث قرن. ترك لنا مساحة ضيقة، متهالكة شبيهة بغرف تفريغ الضغط التي توفرها بعض الشركات الدولية. حيث يصبح بمقدورك أن تدخل إلى غرفة مغلقة وتصرخ بأعلى صوتك، ومن حقك أن تكسر بعض الأواني المتوفرة للغرض نفسه، أو تخربش على الحائط. ثم ستعود إلى نفس الدوامة التي يملكها أناس آخرون، ولا تملك فيها سوى الخضوع الشامل كمسخ كفكاوي شائه. ففي تقرير للجنة الدفاع والأمن في الحوار الوطني: ٥٤ فرداً انضموا إلى القوات المسلحة اليمنية من محافظة حضرموت بين ١٩٩٤ ـ ٢٠١٠ مقابل ١٧ ألف ضابطاً، و٩٨ ألف جندياً من ذمار لوحدها "أي ربع الجيش اليمني تقريباً". بتلك التشكيلة العسكرية هيمن صالح على اليمن، واستخدمنا جميعاً كعمال في جمهوريته، أو مدرعته إذا استخدمنا تعبيراً لهيكل عن الدولة المدرعة. حاول الحوثي الهيمنة مستخدماً الطريقة نفسها. بعد سقوط العاصمة/ الجمهورية في قبضته تناسل الحوثي سلسلة خطابات عرض من خلالها الهزيمة مقابل العيش. ذكر تعز، على وجه الخصوص، أكثر من مرة بتواجدها في الجهاز الإداري للدولة، ملوحاً إلى إمكانية أن تخسر ذلك الامتياز فيما لو لم تسلم لإرداته ورؤيته الشاملة. جاء الحوثي ببديل للموظف البيروقراطي الاحترافي، والخبير الفني الذين وفرتهم تعز للجمهورية كلها. كانت بدائل الحوثي: أبو حشفة، وأبو قفشة، وأبو قاوق. عندما سقطت صنعاء كان الحوثي وصالح قد صارا رجلاً واحداً. قبل خمسة أعوام ابتكرت تعز الثورة، وتصدر شبابها ميادين الثورة في عواصم المُدن. بملايينها العديدة، وحركتها السياسية المتنوعة، أضافت تعز وزناً ثقيلاً للثورة جعلها أكثر استقراراً وقدرة على المكابدة والمواجهة. تعز هي المكان الآمن للجمهورية اليمنية، وهي التي تخرج في الوقت في الصحيح إلى المكان الصحيح. لا يدرك المرء قيمة هذه المعادلة إلا عندما يلقي نظره على محافظة عمران ـ على سبيل المثال: في العام ٢٠٠٦ خرجت عمران في حشد مهول إلى جوار فيصل بن شملان، مما دفع صحيفة الثوري إلى اختيار صورة لذلك الحشد كغلاف للصفحة الأولى معنونة بـ "من عمران يبدأ الزحف العظيم". في ٢٠١٥ خرج زحف مهيب من عمران وراح يحرق قرى اليمنيين ومدنهم من شبوة إلى تعز. لا يمكن لسياسي أن يتلاعب بمشاعر تعز، لا سياسي ولا حزب، ولا قائد، ولا حدث. الأمر الذي يجعل تعز المدينة الأكثر استقراراً، والتي لا تضل طريقها، والتي تتواجد دائماً إلى الجانب الصحيح من التاريخ بفضل تنوعها الخلاق. إذا ألقى المرء بصره إلى الخلف، ونظر جنوباً سيدرك القيمة التاريخية والسياسية والأمنية لهذه المعادلة. عام كامل، قدمت فيه تعز ثمناً باهضاً. صارت مدينة أشباح، أو "مقبرة" كما نطقتها أمي قبل البارحة. قبل عام وقف بادئ الأمر العشرات، وأعلنوا التحدي. كان الحوثي يزمجر في كل تعز مستخدماً خزاناً عظيماً من السلاح يمتد من الحديدة حتى مطار تعز، وتنظيماً ميليشوياً التحم بتنظيم المؤتمر الشعبي العام المتحول إلى ميليشيا "في جزء كبير منه". التحم الاثنان بأقذر تشكيل عسكري في العالم الثالث: القوات المسلحة اليمنية. كتبت في العام ٢٠١٠ عبر صحيفة المصدر إن جملة "قائد عسكري كبير في الحرس الجمهوري" ارتبطت خلال العشر سنوات الماضية بشكاوى نهب الأراضي، وحسب. لم تكن قوات مسلحة يمنية، ولا علاقة لها باليمنية. كانت تشكيلاً عسكرياً ضارباً، مزوداً بدعاوى مذهبية عميقة، وبإحساس بنيوي بالتفوق المناطقي والسلالي، وما إلى ذلك في خلطة سامة جعلت الجيش اليمني الجيش الأكثر تهديداً للجمهورية اليمنية. لم يقتل اليمنيين جيشٌ في العالم كما فعل الجيش اليمني. ولم يحدث أن خرج شعب في العالم مطالباً دولاً أجنبية بسرعة القضاء على جيشه الوطني، سوى في اليمن. ولا يوجد شعب في العالم ينشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي صوراً لدبابات جيشه ناصحاً طيران دولة أجنبية باستهدافها، سوى في اليمن. لم يحدث أن أصبح جيش من مئات الآلاف ميليشيا خارجة عن القانون خلال ٢٤ ساعة كما جدث مع الجيش اليمني. ولم يحدث أن امتثل جيش في العالم، خلال أقل من ١١ دقيقة، لضابط صغير في منتصف الثلاثين من العُمر، بسبب من نسبه العائلي الديني، كما لحدث للجيش اليمني. الشعوب على الحق، لأنها تملك البلدان. والجيوش على باطل إن ضلت طريق الشعوب. هذه المعادلة تضع الجيش اليمني من جنرالاته إلى آلاته في مكانهم الحقيقي من التاريخ: لصوص، وقطاع طرق، وجبناء. لا يملكون أي شرف، ولا يمثلون شرفاً لأي بلد. وكما أنهم لم يرتجفوا طرفة عين وهم يحرقون قراهم ومدنهم فإن أحداً لن يأبه لفنائهم. بدأت تعز بخطاب: الشعب والجيش إيد واحدة، الخطاب المستمد من الثورة المصرية. وانتهت بمظاهرة مشهودة في الأسبوع الأول من أبريل ٢٠١٥ تهتف: يا سلمان دُق دُق، وإحنا بعدك بالبندق. سرعان ما اشتعلت الأرض تحت أقدام الجيش اليمني الميليشوي القذر، بكل جنرالاته وأفراده وآلاته. الجيش الذي أحرق بلده وقوض أحلام أمة من الناس تبلغ زهاء ٢٥ مليوناً، وأغرق نصف مليون كيلو متر مربعاً في الظلام الدامس، في الجوع والمهانة والذل الضارب. لم يحدث أن ألحق جيش ما مثل هذه الهزيمة بأمة أجنبية، ناهيك عن بلده. لكن التاريخ كان عادلاً. حتى البحرين، وهي دولة تملك جيشاً غير قادر على السيطرة على مظاهرة شعبية، حلقت في أجواء اليمن وانهالت ضرباً على الجيش اليمني. أثبت الجيش اليمني في هذه الحرب أنه كان معداً على نحو جيد لإلحاق الأذى باليمنيين. وأن مؤسسيه وجنرالاته لم يعدوه، على أي مستوى، لمواجهة جيوش من الخارج. أولئك السلاليون المنحطون، والمذهبيون الأكثر قذارة، صنعوا من مال اليمنيين واسمهم جيشاً خاصاً بهم وسجلوه باسمنا، ولا علاقة لنا به. ها هي الفرق الخاصة من الجيش اليمني، ما تبقى منه ولم تسحقه دولة البحرين، تقاتل على نحو احترافي في ميدان الربيعي إلى الغرب من مدينة تعز. عندما تراقب ماذا تريد تلك الفرق الاحترافية في معركتها تلك، معركة الربيعي ـ الضباب، ستصاب بذهول وحيرة. تهدف تلك الفرق لقطع آخر طريق يوصل مدينة تعز بباقي المُدن. خلال الأيام الفائتة، عندما تم دحر الجيش اليمني، وهو خليط من الحوثيين والطائفيين والمناطقيين والسلاليين بدرجات سامة، عن الجهة الغربية في تعز شهدت المدينة لأول مرة منذ عام دخول الطماطم والبطاطا والصحف. ودخلت أمي إلى المدينة، فرأتها خرابة. ولما هاتفتها كانت محبطة ومهزومة، قد فقدت حس الفكاهة. قالت بهدوء وكأنها تقرأ من كتاب: "أني فوق السقف، تعز غدرة الباري، والقوارح من جهة الضباب، فرحنا فتحوا الخط، قد الحوثيين يشتوا يقطعوه من جديد. الله يحرق قلبك ويعمي بصيرتك يا علي" لم أسألها عن "علي" الذي تقصده، ولكنها فيما يبدو كانت تقصد الكثيرين! تعز لا تتعرض للخذلان، هذه الجملة ليست صحيحة. تعز تقاوم، وترفض، وستنتصر. قبل عام من الآن كانت المقاومة تسيطر على جزء من شارع ٢٦ سبتمبر. لكنها الآن تفرض كلمتها على أغلب جبال وشوارع ومديريات المحافظة. لقد نسفت أحلام الحوثي وسحقت تشكيلاته العسكرية. قدمت تعز خيرة أبنائها، لكنها أدخلت أيضاً الرهبة والرجفة إلى أماكن بعيدة. وفي أماكن مظلمة ونائية في جبال الشمال سُكبت الدموع وانتعشت الآلام. تستطيع تعز أن توصل رسالتها إلى أبعد مكان، وستفعل. لأنها محافظة عصية، وشجاعة، وملهمة، ونبية، وقدرها أن تقود. لا بد أن تلعب تعز الدور الذي وضعه فيها التاريخ، فهي لم تختر أن تكون في المقدمة. هذه الحتمية التاريخية الصعبة تجعل من خيارات تعز محدودة. تذكروا هذه المعارك: دفع شباب تعز، بسلاح الكتف، عشرات التشكيلات العسكرية من وسط المدينة إلى الأطراف، وحرر المركز، ثم انطلق غرباً وشرقاً. ألحق هزيمة مرة وقاسية بالحوثيين في جبل صبر، وفي المسراخ. اقتحم شباب تعز قصر صالح، ووضعه تحته السيطرة، وعاد بأقدامه الحافية إلى مقر اللواء ٣٥، وحرر جامعته، ووقف في وسط النهار حافياً وبسلاح الكتف، وخاض معركة شريفة ونبيلة تنتمي إلى أكثر قيم الثورة السلمية رهافة وصدقا: الحرية. التحالف لم يخذل تعز، هذه جملة غير صحيحة. فتعز لا تخوض معركة لصالح التحالف، بل لصالح ثورة فبراير، لقيم العدالة والمساواة والإخاء والحرية. قدر المقاومة واضح: أن تضع حداً لانتصارات المحتل والغازي، وأن تكلفه الكثير، وتكسر إرادته. هذا ما تفعله تعز، لقد كسرت إرادة صالح والحوثي. انخرطت تعز كلها في العملية المقاومة، وتصدرت المشهد اليمني، مغطية حتى بمعاركها الصغيرة "معركة المقهاية" على معارك كبيرة في شبوة والجوف وصنعاء. قال محمد المجاهد، مؤلف كتاب "تعز غصن نظير في دوحة التاريخ، إن السلطان توران شاه عندما عيي نصحه الأطباء بقضاء وقت للاستجمام، واختاروا له تعز. وهي تعز التي تشفي، تشفي السلاطين والناس الطيبين، والأعداء. ولكل تمنح شفاء على طريقتها وبما يناسبه. ها هي تقاتل: يأتيها "أبو حشفة" من جبال عمران، فتضع حداً لحياته العابثة. لا تريد أن تزهق روح أحد، لكنها تفعل ذلك مع "أبو حشفة" حتى تتمكن من الذهاب إلى قريته وذمار، فتعالج والدته وتستكمل تعليم أولاده. تلك مهمتها القدرية.. التحالف لم يخذل تعز، فتعز تخوض معركتها لا معارك التحالف العربي. الشرعية لم تخذل تعز، فتعز هي الشرعية نفسها. زود التحالف العربي مقاومة تعز بالذخيرة من وقت لآخر. ذلك أمر يؤخذ في الحسبان. كما تحلق مقاتلات التحالف العربي بشكل يومي فوق تعز مقدمة خدمة للمقاومة على الأرض. قدم التحالف العربي مدرعات ودبابات للمحافظات التي هي أضعف من أن تنقذ نفسها، وتدخلت كتائب الجيش الوليد في المدن الهشة التي، لأسباب معقدة تاريخية واجتماعية، لا تميل إلى المواجهة والنزال والرفض. لذلك سرعان ما ستهوي تلك المدن والمحافظات في فوضى وفشل إذا ما رُفعت عنها اليد. وضعها التاريخ في ذلك المكان، ووضع تعز في مكان آخر. انظروا إلى أبين: لم يمض على تحريرها سوى وقت قصير حتى سقطت مرة أخرى في قبضة ميليشيا دينية لا يتجاوز تعداد أفرادها الـ ٥٠٠ فرداً. ثمة مدن لا تقوى على قول الحقيقة إلا من خلف المدرعات. ومدن تقاتل حافية. من أراد أن يلتحق بتعز فليفعل، فهو ينضم إلى الجانب الصحيح من التاريخ. من أراد أن يساعد تعز فليفعل، فهو يسجل شرفه الخاص من خلال التحاقه بالمعركة الأكثر شرفاً من أراد أن يكون صديقاً لتعز فليفعل، فهو يكسب صداقة البلدة التي هي صديقة لكل البلدان ومن أراد أن يختار طريقاً آخر فليفعل.. تعز هي الشرعية، فهي مدينة كل اليمنيين. وهي الشرعية، فحتى المدن والقرى البعيدة التي لا أثر لأجهزة الدولة فيها .. يوجد فيها أناس من تعز، عمال وحرفيون ومهاريون وعابرو سبيل. تعز هي المحافظة الضاربة في عروق اليمنيين، وفي تاريخهم، وفي مدنهم وقراهم، وهي التي تصل إلى الأماكن التي لا تصل إليها السلطة البيروقراطية للدولة، ولا أجهزتها.. م. غ.