الديمقراطية والديمقراطيون في تونس
بقلم/ محمد كريشان
نشر منذ: سنتين و 11 شهراً و 21 يوماً
الأربعاء 05 يناير-كانون الثاني 2022 06:14 م
  

في انتخابات 1999 كتب الصحافي التونسي لطفي حجي سلسلة مقالات في مجلة «حقائق» الأسبوعية تحت عنوان «ديمقراطية بلا ديمقراطيين»حاول أن يبين فيها أن عقلية الشعب التونسي وثقافته هي عمليا ضد الديمقراطية وحقوق الإنسان.

وقبل يومين، كتب الأكاديمي التونسي والوزير السابق المهدي مبروك مقالا تحت نفس العنوان تناول فيه كيف حدث ما حدث من استيلاء الرئيس قيس سعيّد على كل السلطات «دون مقاومة، باستثناء تحرّكات رمزية تظلّ قيمتها منحصرةً في أوساط ضيقة لا تجد صدىً واسعاً لها في الرأي العام» معتبرا في مقال نشره في صحيفة «العربي الجديد» إلى أنه «كان علينا في تونس أن نرتطم بجدار الانقلاب، لنكون أكثر تواضعاً بعد زهو العشرية المنصرمة التي كنا نردّد فيها ما قيل عنا إنّنا حالة استثنائية» متسائلا إذا كان من الممكن «أن تكون ديمقراطياً وأنت مستعدٌّ دوماً لهدم معبد الديمقراطية، حتى يسقط على من فيه، لمجرّد التخلص من الخصم الذي غدا عدواً».

بين المقالين أكثر من عشرين عاما يبدو أن لا شيء كثيرا تغيّر خلالها رغم الهزة العنيفة التي أحدثتها الثورة التي أطاحت مطلع عام 2011 بحكم الرئيس بن علي وما أفرزته لاحقا من حياة ديمقراطية استثنائية في بلادنا العربية. طوال حكم الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة (1956-1987) وزين العابدين بن علي (1987_2011) لم تكن الاحتجاجات المطالبة بالحريات والديمقراطية سوى تحركات محدودة اقتصرت في الغالب، رغم كل التضييقات، على توقيع العرائض وتنظيم الندوات وكتابة المقالات وبعض فعاليات الأحزاب والجمعيات وإن تطورت الاحتجاجات بشكل متصاعد لتشمل أحيانا اضرابات الجوع. وفي كل ذلك، كانت أسماء المعارضين والناشطين معروفة، كما نظمت محاكمات شهيرة طوال هذه الأعوام ليساريين وإسلاميين زج بالكثير منهم في السجون لسنوات طويلة.

لم تعرف تونس هبّات شعبية كبرى إلا في محطات محدودة فارقة مثل الاضراب العام في يناير/كانون الثاني 1978، أو ما عرف بـ«انتفاضة الخبز» في نفس الشهر من عام 1984. كلاهما جاء على خلفية اجتماعية واقتصادية، تماما كما كانت الثورة التي أطاحت بالرئيس بن علي والتي قامت ضد الحيف الاجتماعي والفساد منادية بالشغل والكرامة قبل أن تتطوّر لاحقا لرفع شعارات سياسية تطالب بالديمقراطية والحريات.

ومع انطلاق تونس تدريجيا في تشييد بنائها الديمقراطي الفعلي بداية من 2011 وشروعها في إرساء المؤسسات وتنظيم الانتخابات الحرة وإزحة كل العراقيل أمام العمل الحزبي والجمعياتي وحرية التعبير والتظاهر وغير ذلك، بالتوازي مع ثورة اتصالات رهيبة سمحت بانخراط فئات عريضة جدا في التعبير عن آرائها السياسية في مواقع التواصل الاجتماعي وفي المنابر الاذاعية والتلفزيونية التي تكاثرت في وقت قياسي، اتضح جليا أن لدينا مشكلا حقيقيا يتمثل في غياب نخبة أو طبقة سياسية تؤمن حقا بالتعددية والديمقراطية واحترام مبدأ التداول السلمي على السلطة والقبول الواعي بما تفرزه صناديق الاقتراع.

ومثلما كتب ذات مرة الوزير السابق خالد شوكات فإن العائلات السياسية الكبرى في تونس، وهي الدستوريون (نسبة إلى الحزب الدستوري للحبيب بورقيبة) والإسلاميون واليساريون والقوميون، لم تنشأ وتترعرع على أسس ديمقراطية سليمة فقد كان كل واحد منها يظن أنه هو الأصلح والأفضل لحكم البلاد مع نظرة دونية لغيره تكاد تخرجه من الوطن أو الدين أو الأمة، حسب موقع كل واحد. ولهذا، لمّا احتكم هؤلاء جميعا إلى صناديق الاقتراع لم تكن لدى معظمهم، إجمالا وبدرجات متفاوتة، عقلية القبول بما تفرزه هذه الصناديق والسعي لاحقا لتغييره بالعمل الدؤوب بين الناس، كما لم تكن، لدى معظمهم، أيضا إجمالا وبدرجات متفاوتة، قناعة العيش المشترك وإدارة الخلافات بشكل عقلاني متحضر إلى أن يأتي الموعد الانتخابي المقبل. كان نفَس هؤلاء قصيرا فجعلوا عمر تجربة البلاد الرائدة قصيرا، وحين كان العالم محتفيا بتونس فإنه في الحقيقة إنما احتفى بها كدكان مزدان الواجهة دون الالتفات إلى حقيقة البضاعة المعروضة فيه.

مقابل هؤلاء السياسيين، كانت «نخبة» البلاد في قطاعات مختلفة على نفس الشاكلة، إن لم تكن أسوأ، وحين جاء انقلاب قيس سعيّد على الدستور اتضح انكشافها أكثر. برز من هؤلاء شامتون ومحرّضون وانتهازيون، مع آخرين صامتين أو حائرين تائهين، كما برزت تشوّهات غريبة كأن تتجاهل «رابطة حقوق الإنسان» العريقة ما يجري من انتهاكات جسيمة، ويتبرّم البعض من سياسيي البلاد وهو مفتون ببشار الأسد، وكأن يسعى مثلا صحافي إلى تأليب الرأي العام ضد زملائه لمجرد الاختلاف معهم، أو أستاذ إعلام جامعي إلى التحريض ضد نقابة الصحافيين!!

من حسن الحظ أنه بقي في تونس رجال ونساء ديمقراطيون حقا مستعدّون للدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان والوقوف ضد الظلم، مهما كانت هوية ضحاياه، وهو ما كشفته قضية اعتقال وزير العدل السابق نور الدين البحيري. المؤلم أن هؤلاء تقريبا هم أنفسهم من وقفوا ضد بورقيبة وبن علي، مما يدل على أن هذه النوعية من المناضلين، ليس فقط لم تتكاثر هذه الأعوام، بل تكاد تكون مهددة بالانقراض.