|
صحيح أن تنظيم القاعدة مخترق من قبل أجهزة الأمن اليمنية، لكن في المقابل، فإن تلك الأجهزة ليست في منأى من اختراق القاعدة لها، فكثير من عناصرها تم إلحاقهم ـ بعد حرب صيف 94م وإقصاء الاشتراكي من السلطة ـ في القوات المسلحة والأمن. ومن دون شك، فقد استفاد التنظيم من عناصره تلك، برغم الضربات التي تعرض لها، ومع ضعف الدولة في بسط سيطرتها على المناطق القبلية النائية.. فإن ذلك يشكل بيئة خصبة لنمو شجرة القاعدة، التي لا تثمر سوى المزيد من القتل والعنف
العملية الأخيرة لتنظيم القاعدة في محافظة مأرب (2/7)، أعادت اليمن مُجدداً "وبقوة" إلى صدارة الأحداث وواجهة الإرهاب.
ويمكن القول إنها أنهت حالة الهدنة "أو التفاهم" التي بقيت سارية المفعول بين السلطة والتنظيم إلى وقت قريب، السلطات اليمنية التي طالما أكدت سيطرتها واحتوائها لتنظيم القاعدة، سواءً عبر جلسات الحوار في أقبية السجون، أو قتل العناصر الهاربة والخطيرة على الأمن، أو إعادة تأهيل الكثير من عناصر التنظيم من خلال دمجهم في المجتمع، وتوفير فرص عمل كريمة لهم وحتى تزويج بعضهم، وضم البعض الآخر لصفوف الجيش والأمن، للاستفادة من خبراتهم القتالية، كما حصل في صعدة وغيرها.
هذه السلطات تجد نفسها اليوم في حرج شديد أمام شركائها الدوليين الذين قدموا الكثير من المساعدات لليمن وضخوا لها الكثير من الأموال في سبيل وقف نشاط هذا التنظيم والتخلص منه نهائياً، لكن يبدو أن جهود الحكومة اليمنية لم تُثمر النتائج المرجوة في القضاء على القاعدة ومحاصرة نشاطه وتعطيل فاعليته، وهو بالتالي ما سيجعل شركاء اليمن في مكافحة الإرهاب، يُعيدون النظر في طريقة تعاونهم الأمني مع الحكومة، وكيفية تنفيذهم لبرنامج مكافحة القاعدة، بالنظر إلى محدودية قدرة النظام في التعامل مع هذا الخطر وعجزه في احتوائه.
حتى اللحظة ما تزال قضية تنظيم القاعدة في اليمن من أكثر القضايا الأمنية غموضاً وأشدها تعقيداً، نظراً لتزايد الشبهات حول وجود أطراف داخل النظام، ترتبط بعلاقات خاصة مع عناصر من القاعدة، وتحاول الاستفادة من بقاء التنظيم حياً ولو في أدنى فاعليته، تلك الشبهات تعززت مع تفجير المدمرة الأمريكية كول في ميناء عدن في أكتوبر 2م، وهو ما دفع بالمحققين الأمريكيين آنذاك للمطالبة بإدراج بعض الشخصيات اليمنية العسكرية والقبلية في قائمة التحقيقات.
بيد أن السفيرة الأمريكية في ذلك الوقت "باربره بودين"، تدخلت لمنع مثل ذلك الإجراء لماله من عواقب تسيء لعلاقة البلدين، لكن السفيرة الأمريكية لم تنس وهي تغادر اليمن بعد انتهاء فترة عملها، أن تؤكد في مؤتمر صحفي أن لدى الأجهزة الأمنية اليمنية من المعلومات حول تفجير المدمرة كول الشيء الكثير، وأن ما تحتفظ به تلك الأجهزة أكثر مما تم الإعلان عنه.
وبالفعل، ظهرت بعد ذلك بعض المعلومات التي كشفت أن الرجل المسئول عن التخطيط لضرب المدمرة كول، والملقب بـ"أبو عمر الحرازي"، كان يحمل تصريح مرور رسمي "من وزارة الداخلية"، ممهور بتوقيع الوزير السابق "محمد حسين عرب"، يسمح له بالمرور من جميع النقاط دون تفتيش.
وفي المعارك التي خاضتها السلطات ضد ما كان يُسمى بجيش عدن-أبين في جبال حطاط العام 23م، اتضح فيما بعد أن قائد تلك المجموعة المدعو خالد عبد النبي، هو أحد رجال الأمن السياسي الذي دفعت به السلطات لاختراق تلك الجماعة، وقالت بعض المصادر إن الرجل انقلب على السلطة وصار أميراً لجماعة جبل حطاط، وفيما ذهبت السلطات تؤكد مقتله إثر المعارك التي نشبت بين الجانبين، كان الرجل يعيش في العاصمة صنعاء، تحت كنف أجهزة الأمن.
وهو الآن يمارس حياته الطبيعية في منطقته بمحافظة أبين، ويتهم السلطات بعدم وفائها بالالتزامات التي قطعتها على نفسها، بتسوية أوضاع الكثير من الشباب الذين خرجوا من سجون الأجهزة الأمنية، بناء على تفاهمات معها على نبذ العنف والإرهاب، مقابل تسوية أوضاعهم وحصولهم على فرص عمل تؤمن لهم حياة آمنة وكريمة.
كانت أول عملية إرهابية قام بها تنظيم القاعدة في اليمن ضد سائحين أجانب، تلك التي وقعت في الثامن والعشرين من ديسمبر 1998م في مديرية "مودية" محافظة أبين، والتي سقط فيها عدد من السائحين المختطفين (معظمهم من الجنسية البريطانية)، تلك العملية كانت بقيادة المدعو أبو حسن المحضار، زعيم تنظيم القاعدة في اليمن، والذي أعدمته السلطات بعد محاكمته.
ولم يكن دافع الخاطفين في تلك العملية، الحصول على مكاسب شخصية أو اجتماعية، بل مطالبتهم بإطلاق سراح بعض العناصر الجهادية المحتجزة لدى الأجهزة الأمنية، وإخراج الكفار من البلاد حسب وصفهم، ورفع الحصار المفروض عن العراق.
وقد قيل إن المحضار أوصى بأن يكون خليفته في قيادة التنظيم المدعو أبو علي الحارثي، وهذا الأخير تم تصفيته في نوفمبر 22م، بواسطة طائرة أمريكية من دون طيار على أحد الطرق الطويلة في محافظة مأرب، بالاتفاق مع السلطات اليمنية التي أنكرت بادئ الأمر حدوث مثل تلك العملية، وقالت حينها في خبر بثته عن الحادث إن سيارة لأحد المهربين انفجرت، وهي محملة بكميات كبيرة من السلاح، لكن الأمريكيين كشفوا حقيقة تلك العملية، الأمر الذي دفع بالسلطات اليمنية للاعتراف بأنها سمحت للطائرة الأمريكية باختراق الأجواء اليمنية لتنفيذ تلك العملية، بعدما تعذر إيجاد السبل للتحاور والتفاهم مع تلك العناصر.
وتُعد عملية مأرب الأخيرة، التي راح ضحيتها سبعة من السياح الأسبان ويمنيان، ثاني عملية ينفذها تنظيم القاعدة ضد السياحة في اليمن، وكان التنظيم قد شهد فترة هدوء تخللت الأعوام 2004م ـ 2006م، لكنه عاد إلى الواجهة من خلال عملية الهروب، التي نفذها 23 فرد من عناصره من سجن الأمن السياسي بصنعاء مطلع فبراير 2006م، عبر نفق تم حفره وصل بين زنزانة السجن وحمام مُصلى النساء في مسجد مجاور. غير أن عدداً منهم عاد لتسليم نفسه بعد مفاوضات قامت بها أطراف قريبة من القاعدة وأجهزة الأمن، وقد بلغ عدد هؤلاء 9 أشخاص، في حين ما يزال سبعة منهم فارين، وخمسة تم تصفيتهم في عمليات مختلفة، وواحد قُتل في الصومال في مواجهات عسكرية للمحاكم الصومالية مع الأمريكان، وآخر محتجز لدى السلطات الكينية.
فيما عدا محاولتي تفجير مُنشأتي النفط في مأرب وحضرموت، اللتين وقعتا في 15/9/2006م، قُبيل الانتخابات الرئاسية بأسبوع، والتي قيل إن عدداً من قائمة الـ23 الهاربة من سجن الأمن السياسي، قام بتنفيذها، فإن تنظيم القاعدة لم ينفذ أية عملية إرهابية طوال العامين 2004م و2005م.
ومع أن الحكومة اليمنية خاضت حربين متتاليتين في صعدة ضد جماعة الحوثي "الشباب المؤمن" خلال العامين: "الأولى في يونيو 2004م، والثانية في مارس 2005م"، إلا أن تنظيم القاعدة لم يحاول استغلال تلك الأحداث لشن عمليات ضد النظام، بل الأغرب من ذلك، ما ذكرته بعض المصادر من أن مجموعات كبيرة من عناصر التنظيم جيء بها من عدة محافظات يمنية، لتشارك في الحرب إلى جانب الحكومة.
وفيما يتعلق بالحادث الإجرامي الأخير في محافظة مأرب، الذي راح ضحيته تسعة قتلى، فإن الكثير من الملابسات والغموض أحاط به من كل جانب، فمن ناحية كانت بعض الصحف الأهلية "القريبة من السلطة"، قد بدأت قبل حوالي الشهر من هذا الحادث المروع، بإعادة البحث والقراءة في الملفات السابقة للقاعدة، وأخذت تُنقب عن أسرارها وتكشف عن جزء من علاقاتها الداخلية، وحصلت تلك الصحف ـ عبر اتصالات مباشرة بقيادات في التنظيم ـ على معلومات مثيرة تستحق الوقوف عندها.
ففي إحدى تلك الصحف، قال المدعو رشاد محمد سعيد الملقب "أبو الفداء"، وهو مسئول سابق في حكومة طالبان، وكان له دور في الحوار مع بعض المعتقلين على ذمة القاعدة، إن أي عمل عسكري يمكن أن يُقدم عليه بعض هؤلاء "القاعدة" داخل اليمن، سيكون مجرد انتقام أو ردة فعل، وأكد استياءه من ممارسات بعض عناصر الأمن ضد شباب الجهاد، وأعاد التأكيد على أن أي أعمال يُحتمل أن يقوم بها شباب القاعدة لن تكون بالمستوى الذي يُخشى منه، لقلة حركتهم بسبب مطاردة الأمن اليمني لهم من جهة، ولعدم وجود تأييد لمثل هذه الأعمال، باعتبار أن اليمن ليست موضع استهداف لتنظيم القاعدة أصلاً.
وأعادت تلك الصحيفة نشر قصة هروب مجموعة الـ23 من سجن الأمن السياسي بصنعاء مطلع فبراير 26م، وسردت القصة كاملة على لسان زعيم تنظيم القاعدة الجديد ناصر الوحيشي، المطلوب لأجهزة الأمن، ولم تكشف الصحيفة عن كيفية اتصالها به وحصولها منه على تلك المعلومات.
وفي وقت لاحق، ذكرت بعض الصحف أن أجهزة الأمن اعتقلت خلية للقاعدة في محافظتي عدن وتعز، مكونة من ستة أشخاص على خلفية انفجار استهدف محطتي كهرباء في عدن، وقيل إن من بين المقبوض عليهم عناصر عربية، وأضافت أن أربعة منهم اعتقلوا في عدن بعد أن كانوا وجهوا تهديدات تلقتها السلطات بتنفيذ تفجيرات ضد مصالح حكومية ومواقع يرتادها غربيون، إلى ذلك كشفت مصادر صحفية أخرى عن خلافات حادة بين عناصر تنظيم القاعدة حول فكرة تنفيذ عمليات عنف مسلحة ضد مصالح حيوية يمنية وأجنبية، بالإضافة إلى استهداف شخصيات أمنية تتولى ملف القاعدة في اليمن.
وقالت المصادر "الصحفية"، إن الخلافات بين عناصر القاعدة أرجأت تنفيذ عمليات إرهابية وشيكة، غير أنها لا تزال فكرة قائمة، وأضافت أن مسئولين كبار في الدولة التقوا في وقت سابق شخصية قيادية من القاعدة، وعُرضت عليه وثائق ومخططات وخرائط ضُبطت بحوزة عناصر من القاعدة كانت تخطط لاستهداف مواقع في محافظة عدن وأمانة العاصمة، وأن السلطات طلبت منه القيام بدور الوساطة للحيلولة دون تنفيذ عمليات داخل البلد.
وأخيراً، نشرت إحدى الصحف بياناً للقاعدة ـ قبل عملية مأرب بيومين فقط ـ يتحدث عن حملات الاعتقال التي طالت عناصر التنظيم بُعيد زيارة الرئيس صالح لأمريكا، ويذكر بمقتل "أبو علي الحارثي"، زعيم تنظيم القاعدة السابق مع خمسة من رفاقه، ويؤكد أن التنظيم كسب الكثير من الشباب إلى صفوفه خلال الفترة الماضية، وينصح في الوقت ذاته من تم استدراجهم "من عناصر التنظيم" من قبل السلطات، فصاروا عيوناً على إخوانهم، أن يكفوا عن أدوارهم الرخيصة، ويختم البيان بذكر أربعة مطالب هي:
- إطلاق سراح جميع الأسرى والمعتقلين في سجون الأمن السياسي.
- عدم الوقوف في وجه الراغبين في الخروج إلى الجهاد في العراق.
- عدم التهاون والمساندة بأي صورة من الصور لأعداء الإسلام من الأمريكان وحلفائهم.
- إعلان الحكام توبتهم ورجوعهم إلى شرع الله.
وخلاصة الأمر، أن ما نشرته تلك الصحف المحلية خلال الفترة التي سبقت عملية مأرب، يوحي بوجود قصد وهدف مدروس من وراء تسريب تلك المعلومات التي خرجت في معظمها من داخل تنظيم القاعدة نفسه. وكشفت بوضوح وجود مخطط يُعده التنظيم لاستهداف مصالح حيوية يمنية وأجنبية، وقد أكد الرئيس نفسه أن الأجهزة الأمنية كان لديها معلومات منذ حوالي أربعة أيام قبل الهجوم الإرهابي، حول احتمال حدوث أعمال إرهابية وتفجيرات، لكن أين ومتى ـ يقول الرئيس ـ هذا الذي كان غائباً عن هذه الأجهزة.
لكن عضو مجلس الشورى اليمني، عبد الله أحمد المجيديع، كشف عن معلومات لديه تثبت اجتماعاً لبعض عناصر القاعدة خططت لعملية استهداف السياح الأسبان، مُشيراً في الوقت ذاته إلى أن مدير الأمن السياسي بمحافظة مأرب، أبلغ الجهات الأمنية باجتماع عناصر القاعدة، إلا أن معلوماته لم تؤخذ على محمل الجد. وهذا ما يزيد الأمر غموضاً ويُلقي بظلال من الشك حول العملية برمتها، وقد نقل شهود عيان لأحد المواقع الإخبارية اليمنية تحركات مشبوهة لسيارة عليها حمولة كبيرة من العلف، ترددت منذ الصباح الباكر بجوار مكان الحادث، وقبل حدوث العملية بثلاث ساعات تقريباً، جاءت سيارة أخرى نوع فيتارا سوزوكي، وجرى بينهما حوار سريع، ثم انطلق كل لحال سبيله، ويقول شهود العيان إن تلك التحركات المشبوهة كانت واضحة حتى للمواطن العادي، فكيف لرجال الأمن؟
صحيح أن تنظيم القاعدة مخترق من قبل أجهزة الأمن اليمنية، لكن في المقابل، فإن تلك الأجهزة ليست في منأى من اختراق القاعدة لها، فكثير من عناصرها تم إلحاقهم ـ بعد حرب صيف 94م وإقصاء الاشتراكي من السلطة ـ في القوات المسلحة والأمن. ومن دون شك، فقد استفاد التنظيم من عناصره تلك، برغم الضربات التي تعرض لها، ومع ضعف الدولة في بسط سيطرتها على المناطق القبلية النائية، بالإضافة إلى بقاء تلك المناطق خارج نطاق الخدمات الحكومية، فإن ذلك يشكل بيئة خصبة لنمو شجرة القاعدة، التي لا تثمر سوى المزيد من القتل والعنف والدمار
* عادل أمين / مدير تحرير صحيفة العاصمة اليمنية
في الإثنين 09 يوليو-تموز 2007 05:40:56 م