ما يجري هو تدفيع الشعوب العربية ثمن الربيع العربي..
اللّهم كُنْ لليمن ولا تكن عليها، وانصرها ولا تنصر عليها، وأعنها ولا تُعِنْ عليها، وتولّها أنت فلا يتولاها غيرك.. ادفع عنا سمّ الثعابين، وداء الكلب، وجنون البقر، ووباء القرود..
يبدو أن القوم قد استعدوا وأعدوا، فليس إلا الأقلمة أو الفيدرالية على هذا النمط الجديد، وأما خيارات أخرى فلم يك إلا الانفصال ومن ثم فالأمر ليس منه بد كأن تشرب الخمر في حال أنت مضطر كي تبقي على حياتك.
والأمر إن سار ولم يحجزه العقلاء فسيكون سُنّة سيئة لها ما بعدها لن يكون دونها بحر وبر، وسيحمل وزرها عند الله سبحانه وتعالى ثم عند الأمة من ابتدأ فمهّد وسوّى الطريق ثم كان أول من فتح الباب وولج.
وإذا اليمن قُسمت وتفرقت على ما هو معدٌ الآن على الطاولة فإن التي تلي مباشرة هي المملكة السعودية فذات المخطط هو وعلى نفسها التناقضات الداخلية والأسباب، ولعل الجزار، وهو ذاته المخرج في جولته القادمة، لن يتعب كثيرا في الأبجدة والهندسة على الخريطتين الجغرافية والسياسية، فيكفيه سحب صورة لما سبق فقط وإجراء قليل من الرتوش والتعديلات إذا استدعى الأمر.
ولن ينتهي الامر عند هذا الحيز بل الى كل الإقليم العربي، حيث التناقضات الداخلية قد طُبخت بمهارة، وهي الآن ناضجة على أطباق عدة من مذهبيات، وأعراق، وقوميات، وتعدد أديان.. وغيرها، وسيكون خريفا عربيا مختلفا، ليست فيه هند بأفضل حال من سُعدى..
على أننا لا نتمنى البتة ولم يكن في وعينا قط أمنية أن تتفكك هذه أو تُقسّم تلك في عالمنا العربي والإسلامي حتى نعود على شفا حفرة من النار بعد أن انقذنا الله منها، سوى أنها صرخة ملذوع على نحو: (ويلك ثكلتك أمك ادفع عن سعد أو تهلك سعيدا)..
يعصرني الألم كثيرا عندما أسمع من بعض من نطلق عليهم رموزا أو تجمعهم كلمة النخبة وهم يُحَسِّنون الفيدرالية ويبشرون بجناتها المستقبلية وأنها العاصم والسبيل الذي ليس منه بأس.. يزم أحدهم شفتيه وهو أنموذج لبعضه ثم يستدعي من عقله المتخم ملف الفيدرالية فيمضغ لسانه ويتقعر، مشيدا بتجارب اتحادية عدة أهمها الولايات المتحدة الامريكية ثم في الادنى الامارات العربية المتحدة.. مختتما مداولته
بـ أمامنا أن نحاكي ونستلهم لا أن نستدعي ذات التجارب..
كان الناس ينفرون من كلمة الفيدرالية أو حتى التفكير بها كخيار أول، لكن بعد أن ظل هذا المثقف الحيوي وذاك السياسي المتوهج يكتبون ويطرحون ويناقشون تطبّع الناس ثم استأنسوا..
والفيدرالية كنظام سياسي ابتكرته الحاجة ومتطلبات البيئة هناك تُعد في وقتها، وحيث تناسب ابتكارا سياسيا عجيبا ويستحق الاشادة والإعجاب كآلية ناجحة لاستيعاب التغاير والتناقض والتنوع البنيوي..
ونجاحها مرده أن الكل جديد، الارض والإنسان ثم الافكار وصولا الى ما يسمى بالعالم الجديد، زد على الرغبة المشتركة في التعايش والحاجة الاقتصادية المحركة، ومع ذلك فالتحديات جمة أمام هذا الاتحاد لتقويضه لولا القوة العسكرية الضاربة للمركز، ثم القوة الاقتصادية العملاقة التي تُسَوِّي الحفر والفجوات وتملأ الفراغات المختلفة على جغرافيا الاتحاد.
كذلك كان التكوين المعرفي والثقافي لإنسان هذا الاتحاد ومخزونه في الوعي المتراكم في جانب الحاجة الاقتصادية فحسب واكتفائه بالرغبة نحو الإشباع المادي، ثم انشغاله على مدار اليوم في العمل والإنتاج، فلا تكاد تجد لديه ساعة من فراغ تشغله في مجال آخر، حتى قيل إن اغبى الناس سياسيا هو مواطن هذا الاتحاد ومثله..
وفي المقابل فالمجتمع العربي ـــ وأنموذجه هنا اليمن ـــ نسيجه واحد في كل الجوانب وقواسمه مشتركة، وهو سليل حضارات وأمجاد، وصراعات، وثأرات، وطبيعته فيها تهور وشطط ما زالت البداوة تحفر فيه والعصبية لديه أساسا للحكم وموجها، وهي المرجعية والسبيل الأوحد للصدارة الاجتماعية.
وما زالت القبيلة هي الفاعل الاول الاقوى والدائم فإما هي السائس أو تصنع من يسوس.. إن غضب رأس القبيلة ارتفع حوله ألف سيف لا يسألونه فيما غضب - على حد قول العرب.
والمواطن هنا في بعضه ما زال أميا لا يحسن القراءة والكتابة، وفي بعضه الآخر مثقفًا أميًّا، إن أحسن القول فلا يحسن الرأي، يُعمَى عليه كغيره، يُقاد ويوجَّه كثور هائج، تحمله الحميّة، والانفعال، وسوء الرأي والتدبير الى أن يُورد شعبه المهالك..
فهل تصلح الفيدرالية على مجتمع كانت الصراعات فيه وما زالت على الشرف والسيادة والحكم هي الاساس، وعند من أذنه لم تزل مُصغية لجده كليب لا تصالح ألف لا تصالح، واطلب الثأر حتى تصبح الدنيا مسالخ.
فمن يضمن أن لا يثور الباشا في إقليمه يطلب المستحيل ويعاضده من جهته محمد المنصور على مملكته هو الآخر، والفضلي هناك ينشد سلطان ابيه، وابن الشائف على إقليمه يستجيش الحمية، يطلب التتويج.. بعد أن يكون هذا التفكيك الناعم قد حصل على أساس من الخصوصية والتجانس والتقارب وصولا الى المنعة تجاه المركز..
بل إن الفيدرالية في صورة الأقاليم أبعد وأشد عنها فيما لو كانت على أساس ولايات أو محافظات، فهناك حيز جغرافي حجزه إقليم، الامر هنا أقرب الى مكون سياسي بذاته له خصوصيته وظروفه ووضعه، ومع التقادم القريب ستكون هناك هوية تصنعها القوانين الداخلية المختلفة عن غيرها في الاقاليم الاخرى، وكذلك العادات السياسية والتقاليد الاخرى التي ستتجذر وتترسخ بدورها حتى تصنع نمطا مختلفا تماما، وسياجات وثقافات أخرى بين الاقاليم وبعضها.
ماذا لو أن عصابة ما تقطعت في مأرب أو صنعاء أو ذمار لبعض من أبناء حضرموت أو عدن وقام حينها اقليم حضرموت مثلا بإغلاق حدوده عن ابناء إقليم آخر تنتمي أو وقع فيه فعل العصابة، أو نشب صراع بين قبيلتين على الحدود، أو كان ذلك فعلا متعمدا من مخابرات خارجية معادية تستهدف الفتنة.. أيكون عندها مركز الأقاليم بقادر على الحركة السلسة في تسوية الامر؟.
وهب أن اقليما ما وتبعا لهاجس الشرف والرغبة في السيادة لدى مواطنه ذهب للخروج من الاتحاد وقد استكمل بنيته التشريعية والمؤسسية عموما بل وصوتت مؤسساته التشريعية واستفتى اقليمه على ذلك.. أيكون بمقدور أحد منعه؟.
فإن قيل الدستور مرجعية سيُقال يومها الشرعية الشعبية تسقط القانونية وعند الاحتدام تحضر الشرعية الدولية..
إننا في مجتمع قياداته المختلفة متقلبة وبنت المزاج النفسي، ففي لحظة طيش أو في مقيل قات يمكن أن تصنع تحولات خطيرة..
على الاشقاء في العربية السعودية والدول العربية إدراك أننا الثور الابيض في حال تأقلمنا ومن ثم فليحرصوا على بقاء اليمن جسدا سويا وإلا فإن الوباء سيعم..
وعلى الامريكي هو الآخر أن يعي وهو بمبضعه يؤقلمنا أنه بذلك يأتي على أمن بلاده على هذه الجغرافيا، فليس إلا فتنة تلد فتنا، وتركيم كراهية أخرى للأمريكي اللدود..
أمامنا النظام البرلماني المفتوح على حكم محلي وخصوصيات محلية مع بقاء سلطات مركزية ذات شوكة ونفوذ..
وفي الأخير ثمة حقيقة يجب أن لا تغيب..
هذه المجتمعات العربية مهما تعاطت مع الحريات والديمقراطيات فإنها تبقى ذات طبيعة لا تنفع معها إلا دولة مركزية وذات شوكة.. وإلا فإن القادم سيجعل من كل شيخ او متنفذ احمقا رئيسا على دولة حدودها عند انتهاء قدميه..