"احذروا ناجي، فإن الكرة الأرضية عنده صليب دائري الشكل، والكون عنده أصغر من فلسطين، وفلسطين عنده المخيم، إنه لا يأخذ المخيم إلى العالم، ولكنه يأسر العالم في مخيم فلسطيني ليضيق الاثنان معا، فهل يتحرر الأسير بأسره؟ ناجي لا يقول ذلك. ناجي يقطر، يدمر، ويفجر، لا ينتقم بقدر ما يشك، ودائما يتصبب أعداء". هكذا قال عنه الشاعر الفلسطيني محمود درويش.عشرون عاما مرت على رحيل أحد أشهر رسامي الكاريكاتير العرب، الفلسطيني ناجي العلي، مبتكر شخصية "حنظلة" التي تجسد طفلا في مخيم للاجئين.
"اسمي ناجي العلي.. ولدت حيث ولد المسيح ، بين طبرية والناصرة ، في قرية الشجرة بالجليل الشمالي، أخرجوني من هناك بعد 10 سنوات ، في 1948 إلى مخيم عين الحلوة في لبنان .. أذكر هذه السنوات العشر أكثر مما أذكره من بقية عمري، أعرف العشب والحجر والظل والنور ، لا تزال ثابتة في محجر العين كأنها حفرت حفراً .. لم يخرجها كل ما رأيته بعد ذلك" .
إنه ضمير الثورة كما كانوا يلقبونه ناجي سليم حسين العلي رسام الكاريكاتير الفلسطيني المشهور ، الذي تميز بالنقد اللاذع في رسومه، ويعتبر من اهم الفنانين الفلسطينيين، رسم ما يقدر بأكثر من 40 ألف رسم.
يقول: "كنت صبياً حين وصلنا زائغي الأعين ، حفاة الأقدام ، إلى عين الحلوة .. كنت صبياً وسمعت الكبار يتحدثون .. الدول العربية .. الإنجليز .. المؤامرة .. كما سمعت في ليالي المخيم المظلمة شهقات بكاء مكتوم .. ورأيت من دنت لحظته يموت وهو ينطلق إلى الأفق في اتجاه الوطن المسروق ، التقط الحزن بعيون أهلي ، وشعرت برغبة جارفة في أن أرسمه خطوطاً عميقة على جدران المخيم .. حيثما وجدته مساحة شاغرة .. حفراً أو بالطباشير..
وظللت أرسم على جدران المخيم ما بقي عالقاً بذاكرتي عن الوطن ، وما كنت أراه محبوساً في العيون، ثم انتقلت رسوماتي إلى جدران سجون ثكنات الجيش اللبناني ، حيث كنت أقضي في ضيافتها فترات دورية إجبارية .. ثم إلى الأوراق .. إلى أن جاء غسان كنفاني ذات يوم إلى المخيم وشاهد رسوماً لي، فأخذها ونشرها في مجلة " الحرية"وجاء أصدقائي بعد ذلك حاملين نسخاً من " الحرية " وفيها رسوماتي ... شجعني هذا كثيراً.
حين كنت صبياً في عين الحلوة ، انتظمت في فصل دراسي كان مدرسي فيه أبو ماهر اليماني ..وعلمنا أبو ماهر أن نرفع علم فلسطين وأن نحييه ، وحدثنا عن أصدقائنا وأعدائنا .. وقال لي حين لاحظ شغفي بالرسم " ارسم .. لكن دائماً عن الوطن " ..
وتوجهت بعد ذلك إلى دراسة الفن أكاديمياً ، فالتحقت بالأكاديمية اللبنانية لمدة سنة ، أذكر أني لم أحاول خلالها إلا شهراً أو نحو ذلك ، والباقي قضيته كما هو العادة في ضيافة سجون الثكنات اللبنانية .. كانوا يقبضون علينا بأية تهمة ، وبهدف واحد دائماً: هو أن نخاف ، وكانوا يفرجون عنا حين يملون من وجودنا في السجن ، أو حين يتوسط لديهم واحد من الأهل أو الأصدقاء".
درس ناجي العلي في مدرسة " اتحاد الكنائس المسيحية " ولما تعذر عليه متابعة الدراسة ، اتجه للعمل في البساتين وعمل في قطف الحمضيات والزيتون ، لكن بعد مدة ، ذهب إلى طرابلس – القبة ومعه صديقه محمد نصر شقيق زوجته (لاحقاً) ليتعلم صنعة في المدرسة المهنية التابعة للرهبان البيض .
تعلم سنتين هناك ، ثم غادر بعد ذلك إلى بيروت حيث عمل في ورش صناعية عدة، وفي عام 1957 سافر إلى السعودية بعدما حصل على دبلوم الميكانيكا وأقام فيها سنتين ، كان يشتغل ويرسم أثناء أوقات فراغه ، ثم عاد بعد ذلك إلى لبنان .
فى الفترة من عام 1960-1961 أصدر ناجى العلى بالاشتراك مع بعض رفاقه بحزب القوميين العرب نشرة سياسية بخط اليد تحت اسم "الصرخة"، وفى نفس الوقت وتحديداً عام 1960 دخل الأكاديمية اللبنانية للرسم ليدرس بها عام واحد؛ لكنه لم يكمل بها إلا شهراً واحداً بسبب مطاردته من الشرطة اللبنانية ومنذ ذلك التاريخ أصبح ناجى العلى زبوناً دائماً بمعظم سجون لبنان.
كان الصحفي غسان كنفاني قد شاهد ثلاث أعمال من رسوم ناجي في زيارة له لمخيم عين الحلوة فنشر له اولى لوحاته وكانت عبارة عن خيمة تعلو قمتها يد تلوّح، ونشرت في مجلة "الحرية" العدد 88 في 25 سبتمبر 1961.
يقول العلي : لم تصدق عيناي ما رأتا ولا كذلك قلبي الذي أخذ يتراقص فرحًا بهذا الإنجاز الكبير، شعرت بعد ذلك أن غسان كنفاني هو أب من نوع استثنائي خاص.. أب للإبداع يكتشفه ويقدمه ويشجعه على المضي في المغامرة".
في سنة 1963 سافر إلى الكويت ليعمل محررا ورساما ومخرجا صحفيا فعمل في الطليعة الكويتية، السياسة الكويتية، السفير اللبنانية، القبس الكويتية، والقبس الدولية.
ويقول:"فكرت في أن أدرس الرسم في القاهرة ، أو في روما ، وكان هذا يستلزم بعض المال ، فقررت أن أسافر إلى الكويت لأعمل بعض الوقت .. وأقتصد بعض المال .. ثم اذهب بعدها لدراسة الرسم ..
ووصلت بالفعل إلى الكويت عام 1963، وعملت في مجلة" الطليعة " التي كانت تمثل التيار القومي العربي هناك في ذلك الوقت .. كنت أقوم أحياناً بدور المحرر والمخرج الفني والرسام والمصمم في آن واحد .. وبدأت بنشر لوحة واحدة .. ثم لوحتين ..وهكذا .. وكانت الاستجابة طيبة .. شعرت أن جسراً يتكون بيني وبين الناس ، وبدأت أرسم كالمحموم ، حتى تمنيت أن أتحول إلى أحد آلهة الهند القدامى .. بعشرين يداً .. وبكل يد ريشة ترسم وتحكي ما بالقلب .. عملت بصحف يومية بالإضافة إلى عملي ، ونشرت في أماكن متفرقة من العالم ".
كنت أعمل في الكويت حين صدرت جريدة" السفير " في بيروت . ولقد اتصل بي طلال سلمان وطلب مني أن أعود إلى لبنان لكي أعمل فيها . وشعرت أن في الأمر خلاصاً ، فعدت ولكني تألمت وتوجعت نفسي مما رأيت ، فقد شعرت أن مخيم عين الحلوة كان أكثر ثورية قبل الثورة ، كانت تتوفر له رؤية أوضح سياسياً ، يعرف بالتحديد من عدوه وصديقه ، كان هدفه محدداً فلسطين ، كامل التراب الفلسطيني .
لما عدت ، كان المخيم غابة سلاح ، صحيح ، ولكنه يفتقد إلى الوضوح السياسي، وجدته أصبح قبائل ، وجدت الأنظمة غزته ودولارات النفط لوثت بعض شبابه ، كان هذا المخيم رحماً يتشكل داخله مناضلون حقيقيون ، ولكن كانت المحاولات لوقف هذه العملية . وأنا أشير بإصبع الاتهام لأكثر من طرف ، صحيح أن هناك تفاوت بين الخيانة والتقصير، ولكني لا أعفي أحداً من المسئولية ، الأنظمة العربية جنت علينا ، وكذلك الثورة الفلسطينية نفسها، وهذا الوضع الذي أشير إليه يفسر كثيراً مما حدث أثناء غزو لبنان .
تزوج ناجي العلي من وداد صالح نصر من بلدة صفورية في فلسطين وأنجب منها أربع أبناء هم خالد وأسامة وليال وجودي.
يقول: في الحرب وأنا في الملجأ قلت لزوجتي إنني أنذر نذراً لو بقيت على قيد الحياة فسوف " أفضح " هذا الواقع العربي بكل مؤسساته وبكل أنظمته على حيطان العالم العربي كله إن لم أجد جريدة، ومازلت عند نذري ، عندي رغبة في الاستمرار في الإيفاء بالنذر.
ريشة تقطر إبداعا..
"الرسم هو الذي يحقق لي توازني الداخلي وهو عزائي، ولكنه يشكل لي عذابًا كذلك".
"بالصدفة أصبحت رسام كاريكاتير ، كان لدي توجه في بداية شبابي لأن أتعامل مع المسرح ، كنت أريد أن أصرخ بالكلمة التي تنقل مشاعري واحساساتي .. دفعتني الظروف للعمل في المجال الصحفي واكتشفت أن الكاريكاتير هو الأداة المناسبة للتوصيل".
أصدر ناجي العلي ثلاثة كتب فى الأعوام (1976 ، 1983 ، 1985) ضمت مجموعة من رسوماته المختارة، حصلت أعماله على الجوائز الأولى فى معرضى الكاريكاتير للفنانين العرب اللذان أقيما فى دمشق عامي 1979 1980م.
نشر أكثر من 40 ألف لوحة كاريكاتورية طيلة حياته الفنية، عدا اللوحات المحظورة التى لازالت حبيسة الأدراج، اختارته صحيفة "أساهى" اليابانية كواحد من بين أشهر عشرة رسامى الكاريكاتير فى العالم.
"أنا إنسان عربي فقط، اسمي حنظلة، اسم أبي مش ضروري، أمي اسمها نكبة ونمرة رجلي لا أعرف لأنني دائماً حافي.. ولدت في 5 حزيران عام 1967"!
"هذا المخلوق الذي ابتدعته لن ينتهي من بعدي بالتأكيد، وربما لا أبالغ إذا قلت إنني قد أستمر به بعد موتي"
حنظلة شخصية ابتدعها ناجي العلي تمثل صبي في العاشرة من عمره، ظهر رسم حنظلة في الكويت عام 1969 في جريدة السياسة الكويتية، أدار ظهره في سنوات ما بعد 1973 وعقد يداه خلف ظهره، واصبح حنظلة بمثابة توقيع ناجي العلي على رسوماته.
ويقول ناجي العلي بأن حنظلة هو بمثابة الأيقونة التي تحفظ روحه من الانزلاق ، وهو نقطة العرق التي تلسع جبينه اذا ما جبن أو تراجع.
" ولد حنظلة في العاشرة في عمره وسيظل دائما في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء ، كما هو فقدان الوطن استثناء. واما عن سبب تكتيف يديه فيقول ناجي العلي : كتفته بعد حرب أكتوبر 1973 لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة ، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأمريكية في المنطقة ، فهو ثائر وليس مطبع".
وعندما سئل ناجي العلي عن موعد رؤية وجه حنظلة أجاب : عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته.
ويقول أيضا: قدمته للقراء وأسميته حنظلة كرمز للمرارة في البداية، قدمته كطفل فلسطيني لكنه مع تطور وعيه أصبح له أفق قومي ثم أفق كونيّ وإنساني، في المراحل الأولى رسمته ملتقياً وجهاً لوجه مع الناس وكان يحمل الكلاشينكوف وكان أيضا دائم الحركة وفاعلا وله دور حقيقي . يناقش باللغة العربية والإنكليزية بل أكثر من ذلك ، فقد كان يلعب الكاراتيه.....يغني الزجل ويصرخ ويؤذن ويهمس ويبشر بالثورة .
رسوم بطعم الموال
"أرسم .. لا أكتب أحجبة ، لا أحرق البخور ، ولكنني أرسم ، وإذا قيل أن ريشتي مبضع جراح ، أكون حققت ما حلمت طويلاً بتحقيقه.. كما أنني لست مهرجاً ، ولست شاعر قبيلة – أي قبيلة – إنني أطرد عن قلبي مهمة لا تلبث دائماً أن تعود .. ثقيلة .. ولكنها تكفي لتمنحني مبرراً لأن أحيا".
كان لدى ناجي شخصيات أخرى رئيسية تتكرر في رسومه، شخصية المرأة الفلسطينية التي أسماها ناجي فاطمة في العديد من رسومه شخصية فاطمة, هي شخصية لا تهادن, رؤياها شديدة الوضوح فيما يتعلق بالقضية وبطريقة حلها, بعكس شخصية زوجها الذي ينكسر أحيانا في العديد من الكاريكاتيرات يكون رد فاطمة قاطعا وغاضبا, كمثال الكاريكاتير الذي يقول فيه زوجها باكيا - سامحني يا رب, بدي أبيع حالي لأي نظام عشان أطعم أولادي فترد فاطمة -الله لا يسامحك على هاالعملة.
وهناك شخصية زوجها الكادح والمناضل النحيل ذي الشارب، كبير القدمين واليدين مما يوحي بخشونة عمله.
مقابل هاتيك الشخصيتين تقف شخصيتان أخريتان, الأولى شخصية السمين الذي لا أقدام له ممثلا به القيادات الفلسطينية والعربية المرفهة والخونة الإنتهازيين، وشخصية الجندي الإسرائيلي, طويل الأنف, الذي في أغلب الحالات يكون مرتبكا أمام حجارة الأطفال, وخبيثا وشريرا أمام القيادات الانتهازية.
وصفه أحد النقاد قائلا: لم تكن رسومه ساخرة، بل كانت على العكس حزينة، كانت رسوماً تتحدث عن آلام الناس ومواجعهم، وعندما لم تكن رسومه حزينة فلقد كانت جادة، تقول آراء ومواقف وتحدد بوصلة للحراك السياسي عبر مفارقات ذكية.
الغناء في أحد وجوهه فرح، غير أن الغناء العراقي مثلاً حزين، وآسر، كم تشبه رسوم ناجي الموال العراقي.
وصف الاتحاد الدولي لناشري الصحف في باريس ناجي العلي ، بأنه واحد من أعظم رسامي الكاريكاتير منذ نهاية القرن الثامن عشر ، ومنحه جائزة " قلم الحرية الذهبي" وسلمت الجائزة في إيطاليا إلى زوجته وابنه خالد ، علماً بأن ناجي العلي هو أول صحافي ورسام عربي ينال هذه الجائزة .
نماذج من أعماله
"لقد كنت قاسياً على الحمامة لأنها ترمز للسلام ..والمعروف لدى كل القوى ماذا تعنيه الحمامة ،إني أراها أحياناً ضمن معناها أنها غراب البين الحائم فوق رؤوسنا ، فالعالم أحب السلام وغصن الزيتون ، لكن هذا العالم تجاهل حقنا في فلسطين لقد كان ضمير العالم ميتاً والسلام الذي يطالبوننا به هو على حسابنا ، لذا وصلت بي القناعة إلى عدم شعوري ببراءة الحمامة "
ضجر ناجي العلي مما رسمه طوال سنوات, ورأى أنه كان مجرد أظافر تحاول هدم جبل, وتاق إلى أن يرسم رسوماً أخرى مختلفة تخاطب الأطفال والرجال الذين ما زالوا يحافظون على طفولتهم.
رسم ناجي العلي قطاً شرساً يتأهب للانقضاض على فأر, ولكن الفأر لم يخف من القط, وقال له مهدداً : الفئران هي اليوم أكثرية, والويل لك إذا لمحتك يوماً تمشي في شارع.
فاستولى على القط رعب شلّه ومنعه من التحرك والفرار, ولم يستغرب ناجي العلي ما حدث, وقال لنفسه : لا شيء في الدنيا لا يتغير, وكل صعود يعقبه هبوط.
كما رسم نهراً عريضاً, غزير المياه, يمرّ في أرض تغطيها الخضراوات وأشجار الفاكهه, فهرع الناس إلى النهر, وبنوا على ضفتيه بيوتاً ودكاكين, ولكنهم اختلفوا في ما بينهم إذ زعم كل واحد منهم أن النهر نهره, وتفاقم اختلافهم إلى حد أنهم خاضوا قتالاً مرّاً دمّر البيوت وغطى الأرض بالجثث, فلم يستغرب ناجي العلي ما حدث, وقال لنفسه : من يتح له امتلاك الكرة الأرضية بكاملها لن يقنع بها, وسيحاول امتلاك السحب أيضاً.
ورسم ناجي العلي رجلاً أشقر الشعر يهدي كرة ملونة لطفل أسمر الوجه, أسود العينين, فشكر الطفل للرجل هديته, وبادر إلى اللعب بها, وبوغت بها تنفجر مهلكة كل ما حولها, فلم يستغرب ناجي العلي ما حدث, وقال لنفسه : كأن المخلوق البشري لا يولد في القرن الحادي والعشرين إلا ليكون إما قاتلاً وإما مقتولاً.
إيمان بالقضية
"متهم بالانحياز ، وهي تهمة لا أنفيها .. أنا لست محايداً ، أنا منحاز لمن هم "تحت" .. الذين يرزحون تحت نير الأكاذيب وأطنان التضليلات وصخور القهر والنهب وأحجار السجون والمعتقلات، أنا منحاز لمن ينامون في مصر بين قبور الموتى ، ولمن يخرجون من حواري الخرطوم ليمزقوا بأيديهم سلاسلهم ، ولمن يقضون لياليهم في لبنان شحذاً للسلاح الذي سيستخرجون به شمس الصباح القادم من مخبئها .. ولمن يقرأون كتاب الوطن في المخيمات".
كان ناجي مناضلا بالأساس يتلقي التهديد تلو التهديد بالقتل ويوم هددوه بحرق أصابعه رد عليهم قائلا: «يا عمي لو قطعوا أصابع يدي سأرسم بأصابع قدمي» حتي تعريفه لفن الكاريكاتير لم يكن اعتياديا كان يقول: هكذا يجب علي الرسام أن يحك عقل القارئ، فن الكاريكارتير يجب أن يكون عدوانيا علي موضوعاته علي وجه الخصوص قد يكون صديقا حقيقيا مع الذين يتعاملون معه لكنه صديق مشاكس لا يؤمن جانبه.
كان يردد أن " الطريق إلى فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة, إنها بمسافة الثورة"
ويعتبر ناجي العلي من الفنانين الذين حطموا أرقاما قياسية في عدد التهديدات التي وصلته على خلفية أعماله الفنية وانتقاداته ومواقفه السياسية.
وظل رافضا التقسيمات والإقليميات والطائفية أو المذهبية كما في بعض أعماله "عم تسألني إذا أنا مسلم أو مسيحي؟ سني أو شيعي؟ أما سؤال بارد صحيح. مش فهَّمتك من الأول إني poor بن poor ".
رسوم ناجي أضحت مليئة بكشف تنازلات القادة الفلسطينيين، بل أصبحوا موضوع رسومه الأساسي ومحط استنفار موهبته .
كان ناجي العلي مخلصا لوطنه مردد: " كلما ذكروا لي الخطوط الحمراء طار صوابي, أنا أعرف خطا أحمرا واحدا: إنه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع على اتفاقية استسلام وتنازل عن فلسطين".
الفصل الأخير
" مهمتي التحريض، تحريض هذه الجماهير ضد واقعها المزري.وهذه هي حدودي وهذا هو دوري: كشف الواقع، التعبئة،والباقي مهمة الثوار".
يوم الأربعاء الموافق 22 يوليو 1987 وأمام المنزل رقم واحد بشارع ايفز أطلق مجهول النار على ناجي العلي فأصابه إصابة مباشرة في وجهه، نقل على أثرها إلى المستشفى وبقي في حالة غيبوبة إلى أن وافته المنية يوم 29 أغسطس عام 1987.
ودفن في لندن رغم طلبه أن يدفن في مخيم عين الحلوة بجانب والده وذلك لصعوبة تحقيق طلبه، فرحل عن عالمنا وقد تجاوز الخمسين عاما بقليل .
قامت الشرطة البريطانية، التي حققت في جريمة قتله، باعتقال طالب فلسطيني يدعى إسماعيل حسن صوان ووجدت أسلحة في شقته لكن كل ما تم اتهامه به كان حيازة الأسلحة.
عند التحقيق، قال إسماعيل أن رؤساءه في تل أبيب كانوا على علم مسبق بعملية الاغتيال. رفض الموساد نقل المعلومات التي بحوزتهم إلى السلطات البريطانية مما أثار غضبها وقامت مارجريت تاتشر، رئيسة الوزراء حينذاك، بإغلاق مكتب الموساد في لندن.
ولم تعرف الجهة التي كانت وراء الاغتيال على وجه القطع، وإختلفت الآراء حول ضلوع إسرائيل أم منظمة التحرير الفلسطينية أو المخابرات العراقية. ولا توجد دلائل ملموسة تؤكد تورط هذه الجهة أو تلك.
دفن ناجي العلي في مقبرة بروك وود الإسلامية في لندن وقبره هو القبر الوحيد الذي لا يحمل شاهدا ولكن يرتفع فوقه العلم الفلسطيني.
وكم يبدو الشاعر محمود درويش محقاً عندما يتساءل في مقدمته لكتاب ناجي الأول : "مَنْ دلّه على هذا العدد الكبير من الأعداء الذين ينهمرون من كل الجهات، ومن كل الأيام ، ومن تحت الجلد أحياناً؟".
أما عائلة الشهيد ناجي العلي، فقد أصدرت بياناً في لندن في 9-9 - 1987 إلى الجماهير العربية في كل
مكان قالت فيه :
" لقد ارتكبوا الجريمة الكبرى وهل هناك في هذا العصر أكبر من جريمة اغتيال رسام."
لقد اغتالوا ناجي الفنان الملتزم بقضية فلسطين لأن ريشته لعبت دوراً هائلاً ومؤثراً في هذا الزمن العربي الرديء".
رثاءات..
رثى الكثير من الشعراء ناجى العلى ونددوا بجريمة قتله الغادرة ومن أقوى المقاطع التى قيلت فى هذا قصيدة شاعر العامية المصرى عبد الرحمن الأبنودى "الموت على الأسفلت" التى رثى بها العلى ...
أمايه
وانت بترحى بالرحا
على مفارق ضحا
وحدك وبتعددى
على كل حاجه حلوه مفقوده
ما تنسينيش يا أما فى عدودة
عدودة من أقدم خيوط سودا فى توب الحزن
لا تولولى فيها ولا تهلهلى
وحطى فيها اسم واحد مات
كان صاحبى يا أما
واسمه
ناجى العلى.
يا قبر ناجي العلي.. وينك يا قبر
يا قبر معجون بشوط مطلي بصبر
الموت بقرّب عليك .. يرتد خوف
وإذا ما خافشي الموت .. يرتد جبر
وفي نهاية القصيدة يقول:
إصحى يا ناجي العلي.. أهي
صحيت الضفة
يقشعروا الأرض .. إصحى جاوب
الهزة
سنّ القلم من جديد وارسم بنات
غزة
عزة اللي حضنت سلوكها وعشقت
الحزة
ما ما تتش .. طب ما أنت مت ....
عرفت تتوفى؟!
وكتبت الشاعرة عائشة الرازم قصيدة عنه جاء فيها:
ناجي العلي
يطرُقُ أبوابنا
لا ريحَ في مِنْقارِها
حَبْرٌ يُراشِقُ دورَنا
لا ريحَ تَجْلِبُها العَواصِفُ والزَّوابِعُ
أزْعَجَتْ أوْ حَرَّكَتْ .. سُمَّارَنا ..
تسابق الشعراء المجيدون لرثائه، مثل: "نزار قباني"، و"أحمد مطر" في قصيدته ما أصعب الكلام..
ناجي العلي لقد نجوت بقدرة
مـــن عـارنـا، وعـلـوت لـلعـلياء
إصـعد؛ فــمـوطنـك السماء
وخلنا فــي الأرض
إن الأرض لـلــجـبناء"...!
للمُوثِقينَ على الّرباطِ رباطَنا
والصانعينَ النصرَ في صنعاءِ
مِمّن يرصّونَ الصُّكوكَ بزحفهم
ويناضلونَ برايةٍ بيضاءِ
ويُسافِحونَ قضيّةً من صُلبهم
ويُصافحونَ عداوةَ الأعداءِ
ويخلِّفون هزيمةً، لم يعترفْ
أحدٌ بها.. من كثرة الآباءِ !
وأخرج الفنان "عاطف الطيب" فيلمًا عن ناجي العلي قام ببطولته الفنان "نور الشريف"، ولكن هذا لا يمنع أن الكثيرين أعلنوا حربا شعواء على ناجي ونشروا أعماله الكاريكاتيرية التي يرونها مسيئة إلى العرب وإلى مصر تحديداً، فهذا هو حال البشر فلا اتفاق علي احد مهما كان/ ولكن من منا يغضب من قسوة الوالد علي ولده؟.
الفنان مصطفى حسين: "لقد مثل ناجي العلي القضية الفلسطينية ذاتها، لهذا كانت رسوماته ساخنة سخونة القضية، وقد تشبع بقضية بلاده بحيث كان له تأثير كبير، كما كانت ريشته بمثابة سلاح فتاك مما اضطر أعداءه لاستخدام السلاح الناري لإسقاط تلك الريشة".
وبعد وفاته كتبت صحيفة الوطن الكويتية في افتتاحيتها مقالا بعنوان "الأشجار تموت واقفة ". لا تحزنوا على موت ناجي العلي.. بل احزنوا على أنفسكم وعلى أوضاعكم وعلى أمة تقتل مبدعيها. ناجي مات بالطريقة التي اختارها هو وبكامل وعيه وبإصرار عجيب ..
وأخيرا.. فبين الميلاد بفلسطين عام 1936 والوفاة في لندن عام 1987 رحلة طولها واحد وخمسون عاما، رحلة قصيرة زمنيا، ولكنها ملئية بدروس الوفاء والإخلاص إنها رحلة الشهيد الفنان ناجي العلي ، الذي قال عن وفاته الصحفي مصطفى أميـن: "إن الرصاص الذي أُطلق على ناجي العلي هو أشبه بطلقات المدافع التي تنبئ بوصول شخصية عظيمة! أهلا بناجي العلي في شارع المجد".
عن / محيط
في الخميس 30 أغسطس-آب 2007 07:32:44 م