من صدمة الحداثة الى تحديات ما بعد الحداثة
بقلم/ احمد الحبيشي
نشر منذ: 14 سنة و 5 أشهر و 5 أيام
الخميس 27 مايو 2010 11:38 ص

لايختلف إثنان في أن العالم العربي يشهد ميولاً داخلية وضغوطاً خارجية للتحول نحو الديمقراطية وإعادة تأهيل أوضاعه الداخلية بإتجاه التكيف مع متطلبات الإندماج في النظام الكوني الآخذ في التشكل تحت تأثير مخرجات ثورة تكنولوجيا الإتصال والمعلومات . وبصرف النظر عن المواقف المنهضة أو الحذرة من العولمة بوصفها ظاهرة جديدة وغير مألوفة في مسار تطور العصر الراهن ، إلا أن كلا من المناهضين أو الحذرين من العولمة لا يستطيعون إنكار مخرجاتها التي غيـّـرت حتى الآن محددات الجغرافيا السياسية للعالم ، وأحدثت تحولات بنيوية في موازين قوى نظامه الدولي وآلياته وآفاقه سياسياً وإقتصادياً وثقافياً .. فالسياسة تعولمت وأصبحت شأناً عالمياً شأنها في ذلك شأن الإقتصاد الذي تحول الى سوق كونية للتجارة الحرة تشمل البضائع والأموال والمعلومات والإعلام ، على نحو يتجاوز الحدود القومية والعوائق الطبيعية ، فيما فقدت الدول قدرتها التقليدية على ضبط هذه العمليات ضمن حدودها ، ما يجعل الحديث عن الإقتصاد الوطني والسوق الوطنية يواجه تحديات حقيقية وصعبة .

في هذا السياق يصعب تجاهل الآثار التي تطال الثقافات بما هي منظومة من القيم والرموز والمفاهيم التي تسهم في تشكيل الوعي الإجتماعي للشعوب والأمم والمجتمعات ، وإضفاء نوع من الخصوصية والتميز على نمط حياتها . وبالنظر الى ما يشهده العالم المعاصر من متغيرات و تحولات غير مسبوقة في ظل النظام العالمي الجديد ، فإن موقع العرب والمسلمين في هذا العالم المتغير يواجه هو الآخر تحديات حضارية بسبب هامشية هذا الموقع ، والشعور بقوة صدمة ما بعد الحداثة ، فيما العالم العربي والإسلامي ما يزال عاجزاً عن الإجابة على أسئلة صدمة الحداثة الأولى التي داهمته قبل مائتي سنة ، ولا ريب في أن هذه التحديات تقتضي تشغيل مفاعيل الإستجابة لها كضرورة يستحيل بدونها عبور الفجوة الحضارية التي تحول دون الحضور الفاعل للمجتمعات العربية والإسلامية في هذه الحقبة من تطور العصر والعالم .

والثابت ان سعير الحرب التي شنها غلاة الفقه الحنبلي ضد العقل منذ القرن الخامس الهجري ، مهّدت لتراجع مساهمة العرب والمسلمين في إنتاج العلوم والآداب والفلسفة والفنــــــــــون ، وغروب شمس الحضارة العربية والإسلامية ، وكان من بين ضحايا هذه الحرب المسعورة كبار علماء الكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات والمنطق والفلسفة ومنهم على سبيل المثال لا الحصر ابن رشد وابن سيناء والفارابي والرازي وابن الهيثم والخوارزمي وغيرهم من القمم الفكرية والعلمية في التاريخ الاسلامي ، التي ترجمت ارسطو وافلاطون وسقراط وأعلام الفكر الاغريقي القديم ، وخاضت بجسارة في علوم الطب والكيمياء والفيزياء والرياضيات والأحياء والفلك والفلسفة قبل أن يتعرض العقل والعلوم الطبيعية للحرب والتسفيه والتحقير والاضطهاد على أيدي الفقهاء المشتغلين في علوم القرآن والحديث ، حيث تم حصر صفة (أهل العلم والعلماء) على الفقهاء والمشتغلين في الخطابة بالمساجد .

والحال أن هذه الإستجابة تصطدم بهاجس الشعور بالعجز الذي يبحث أحياناً عن مسوّغات لتبرير العجز ، بدلاً من البحث عن محفـِّـزات لتجاوزه ، وهو ما يفسر الميول الى إعادة إنتاج الخطاب المحبط الذي تم التعاطي معه عند الصدمة الأولى في بداية الأمر ، ثم التمرد عليه ورفضه والتشكيك به وإستبداله بالسلفية المتشددة والمنغلقة في وقت لاحق .

لعل عودة بعض الإتجاهات القومية والإسلامية ــ مؤخراً ــ الى النزعة الإصلاحية لفكر حركة التنوير الإسلامية التي ظهرت في القرن التاسع عشر ، لا تؤشر على إعادة الإعتبار لتلك الأفكار التي تعرضت للتهميش والإدانة والإتهام بالتغريب منذ ظهور حركة الأخوان المسلمين في اواخر عشرينات القرن الماضي وإنتشار أفكارها خلال العقود السبعة االلاحقة ، بقدر ما تفسر الإفراط في الخوف على الهوية والخصوصية والذاكرة ، وهو ما يخشاه حراس العقائد والإيديولوجيات المطلقة الذين يهربون من تحديات البحث عن أجوبة على الأسئلة الجديدة، الى إعادة إنتاج أسئلة قديمة تتعلق بإشكاليات العقل والنقل ، والإبداع والإتباع .

 كان التعامل مع صدمة الحداثة الأولى يتماهى مع نوع من التحديث الأجوف للأسئلة القديمة من خلال إثارة إشكاليات التوفيق بين الأصالة والمعاصرة والقديم والجديد والشرق والغرب ، والمراوحة عند تلك الأسئلة طوال القرنين الماضيين دون إحداث أي تغيير نهضوي حقيقي ،بيد أن التعامل مع صدمة العولمة وما بعد الحداثة تماهى هو الآخر مع الإنجاه الرامي الى إعادة إنتاج الأسئلة السابقة وإحياء المناقشات حول الثنائيات المتضادة نفسها ولكن بصياغات مموّهة مثل " الإسلام والغرب ، الإسلام والعلمانية ، الإسلام والديمقراطية " ، بدلاً من البحث في إشكاليات الفجوة الحضارية التي تفصل بين واقعنا المتخلف من جهة ، وبين إشكاليات عصرالعولمة وما بعد الحداثة من جهة أخرى .. بمعنى أننا نخاف على ماض ٍ منقطع عن حاضرنا وعصرنا أكثر من خوفنا على حاضر لا آفاق له في المستقبل ، بل أكثر من خوفنا على خسارة الحاضر والمستقبل معا ً .

قلنا في مفتتح هذا المقال أن العالم العربي يشهد ميولاً داخلية وضغوطاً خارجية للتحول نحو الديمقراطية وإعادة تأهيل أوضاعه الداخلية بإتجاه التكيف مع متطلبات الإندماج في النظام الكوني الآخذ في التشكـُّـل على يد مخرجات ثورة تكنولوجيا الإتصال والمعلومات . . وبوسعنا القول في ضوء ما تقدم ان تراكم عمليات التحول نحو الديمقراطية وبناء المجتمع المدني سيجعل العالم العربي مفتوحا ً على متغيرات نوعية قد تؤسس لنمط جديد من الثقافة السياسية والتفكير النظري ، مع الأخذ بعين الاعتبار ان الثقافة عموما ً والثقافة السياسية خصوصا شهدتا حالة ً من الجمود والتراجع تحت تأثير إنكماش وتدهور أوضاع الطبقة الوسطى ، الأمر الذي أدّى الى ان يفتقد المثقفون ــ الذين كان معظمهم جزءًا من هذه الطبقة ــ شروطا ً اجتماعية لازمة لتشكيل وعيهم وتكوين مواقفهم وإستعداداتهم ، ثم وجدوا انفسهم في مواجهة ركود تاريخي ارتبط بتراجع مكانتهم في السلم الطبقي والتأثير السياسي والإجتماعي .. وترافق هذا التراجع مع تراجع مواز ٍ لتأثير الآيديولوجيات القومية والإشتراكية والدينية التي كان المثقفون يشكلون حاملها الإجتماعي بعد ان فشلت هذه الآيديولوجيات في اختبارات الحياة .

 من نافل القول ان ضمورا ً كبيرا ً أصاب الآيديولوجيا القومية والإشتراكية ، حيث تم تعويم حهازها المفاهيمي التقليدي القديم وحصره في مفاهيم عائمة وزئبقية مثل (( التضامن العربي ، العمل العربي المشترك ،العدالة الإجتماعية ، البعد الإجتماعي ، الخ )) ، مقابل فكرة الوحدة القومية العربية وفكرة الإشتراكية .. امّا الآيديولوجيا الدينية التي ارتبطت بالإسلام السياسي الحركي فقد شهدت صعودا ً أوصلها الى تبني صيغة بديلة عن كل ما هو موجود في العالم المعاصر ، واتسمت هذه الصيغة بمشاريع دينية تمايزت بين الدعوة الى الصحوة السلفية والاقامة الدائمة في الماضي والنزوع الى العنف الجهادي والغاء الآخر والإستحلال الحضاري، وبين الترويج لفكرة التمكين السياسي المدني الذي يساعد على الوصول الى السلطة سلميا، والانفراد بها لاحقا ، ثم وصلت هذه المششاريع السياسية الملتبسة بالدين الى مأزق ٍ حاد ٍ أفضى الى التراجع عن صيغة البديل الشام، والتخبط خلف صيغ معاصرة كان الجهاز المفاهيمي القديم للآيديولوجيا الإسلامية يرفضها جملة ً وتفصيلا من خلال عقيدة الولاء والبراء بما هي الايديلوجيا الجديدة لحركة الاسلام السياسي الصحوي !!

كان روّاد فكر النهضة يبحثون عن أسباب تخلف المسلمين وسر تقدم اوروبا وغير المسلميـــن ، ويطرحون اسئلة جديدة بحثا ً عن أجوبة تـُمكـِّـن المسلمين من مغادرة نفق التخلف والإنقطاع الحضاري .. ثم جاء (( الإخوان المسلمون )) بوجهة تفكير مختلفة ، فعوضا ً عن السؤال : لماذا تخلف المسلمون وتقدم الآخرون ؟ طرح المفكر الإخواني ابو الحسن الندوي في منتصف الخمسينات سؤالا ً هروبيا ً هو : ماذا خسر العالم بتوقف المسلمين عن المساهمة في صنع حضارتهم ؟ .. وقد وصف الندوي حضارة الغرب بالهشاشة والضعف والإنحراف وتنبأ بسقوطها في نهاية القرن العشرين بسبب عدم مشاركة المسلمين في هذه الحضارة !!!؟؟

 وفي منتصف الستينات أطلق مفكر إخواني آخر هو سيد قطب النار على الحضارة الحديثة ووصفها بالجاهلية والكفر داعيا ً المسلمين الى محاربتها وإسقاطها بالقوة ، وما من شك في أن هذه الأقكار الإخوانية أسست لحقبة الجهاد التكفيري التي شهدها العالم العربي و الإسلامي خلاال السبعينات والثمانينانت والتسعينات والحقت به أضرارا ً جسيمة !!

ومن جانبها كانت اسئلة رواد فكر التنوير في القرن التاسع عشر تدور حول اسباب تقدم الغرب وتخلف العالم العربي والإسلامي ، وتحاول البحث عن الأجوبة في واقع المسلمين المتخلف ، فيما تـُـلقي مسؤولية تخلف المسلمين على عاتقهم أنفسهم .. امـّا الأسئلة التي طرحها الفكر الإخواني فقد نزعت الى تبرئة المسلمين من أسباب وعوامل العجز ، وحاولت تقديم صورة مغلوطة عن واقع التخلف الذي يعيشونه مفادها ان العالم الإسلامي لا يعيش إنحطاطا حضاريا ًً ، بل ان الحضارة الغربية هي المنحطة ، أمـّا أسباب انحطاطها وإنحلالها فهو عدم مشاركة المسلمين في صنعها .. بمعنى ان هذه الأسئلة تحاول الإيهام بأن الإنحطاط لا يوجد في العالم الإسلامي بل في الحضارة الحديثة التي اصبح الغرب معقلها الرئيسي منذ الثورة الصناعية ، وإن إنقاذ هذه الحضارة من إنحطاطها مشروط بمساهمة المسلمين من النقطة التي توقف عندها ابداعهم الحضاري ، أي بالعودة الى الأجوبة التي كان قد طرحها الفقه السلفي على اسئلة الحياة في تلك الحقبة الغابرة من عصور التاريخ !

 يقينا ً ان جماعة الأخوان المسلمين كانت تنظيما ً سياسيا ً بامتياز .. وكذلك كان فكرها الإصلاحي السلفي سياسيا ً هو الآخر .. و لا ريب في أن فكر الأخوان المسلمين قام على مبدأ التأصيل ــ أي العودة الى الأصول ــ وهو ما أدّى الى ان يتجاوز الفكر السياسي الإخواني حقبة التنوير التي طرحت على يد رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد العطار وعلي مبارك وعلي عبالرازق وخير الدين التونسي اسئلة ً حديدة ً بتأثير صدمة الحداثة مع الحضارة الغربية في القرن الثامن عشر (( حملة نابليون على مصر )) والقرن التاسع عشر (( الحملات الإستعمارية على العالم العربي والإسلامي )) ، ليقفزمباشرة ــ أي الفكر السياسي الإخواني ــ الى عصر الغزالي والذهبي وابن تيمية والشاطبي وغيرهم من مؤسسي فقه التشدد في العصور التي شهدت بداية غروب شمس الحضارة الإسلامية ، وأسفرت هذه النقلة عن نزعة إلغائية إنعزالية ترفض مخرجات الحضارة المعاصرة وقيم العالم الجديد ، وتسعى الى قراءة النصوص الدينية والفقهية بطريقة تدين الحضارة الحديثة والعالم المعاصر والمجتمعات الإسلاميــــــــــــة إدانة شاملة على أساس منهــــــــج التأصـــــــــيل !!

تميز الفكر الإخواني ــ الذي مهــّد فيما بعد لظهور تيار الإسلام السياسي فكرياً وتنظيميا ًــ بالإنغلاق التأصيلي سواء في مسائل الفروع ــ الحرام والحلال ــ او في المسائل الكبرى المتعلقة بالعصر والعالم والحضارة المعاصرة والقيم الإنسانية المشتركة ، فكانت النتيجة تأويلا ً منغلقا ً ومتعصبا ًللنصوص وإدانة ً للعصر كله بما ينطوي عليه من منجزات حضارية وقيم إنسانية مشتركة وأفكار ونظم سياسية ، ووصلت مسيرة هذا الفكر ذروتها بإفراز ثقافة مأزومة تخاف العالم ، وتتجه بدوافع العجز وضيق الأفق الى مقاتلة المجتمعات الإسلامية بل العالم بأسره وثقافته من خلاال ثقافة وسلاح العنف . و مع تحول الحضارة العالمية نحو العولمة وإنتقال النظام العالمي الى النظام الكوني تهاوت كافة الآيديولوجيات التي تفترض إمكانية تقسيم العالم الى عوالم حضارية ومنظومات ايديولوجية متناحرة .. وكما سقطت الآيديولوجيا القومية والآيديولوجيا الإشتراكية في هذا التوقيت ، بدأت الآيديولوجيا الدينية التي صاغها الإسلام السياسي تدخل مرحلة الأفول والإنهيار.

وإذا كان القوميون والإشتراكيون حاولوا تعديل الجهاز المفاهيمي للآيديولوجيا القومية والإشتراكية ، وإختزاله الى أدنى مستوى من الصيغ الضبابية التي لاتتجاوز التضامن العربي والعدالة الإجتماعية ، فإن الآيديولوجيا الدينية للاسلام السياسي الصحوي بدأت هي الأخرى في تعديل جهازها المفاهيمي من خلال التراجع عن إدانة العصر ومخرجات الحضارة الحديثة ، حيث إضطر بعض الإسلاميين الى التراجع بقبول الديمقراطية بدلا ً من تكفيرها، والتسليم بضرورة التعايش مع الآخر بدلا ً من رفضه ، و الإنفتاح على الغرب وحضارته بدلا ً من وصفهما بالجاهلية ، والإعتراف بأن إشكالية التمايز مع الغرب هي معرفية وليست دينية .. والأكثر من ذلك ارتفعت اصوات داخل الإسلاميين تطالب بإصلاح الجهاز المفاهيمي للفكر السياسي الإسلامي ، وإعادة قراءة التاريخ بمنهج نقدي تحليلي ، والتحذير من مخاطر إضفاء القداسة على كل ما هو تأريخي ، والمطالبة بفتح باب الإجتهاد وإعادة الإعتبار لمفهوم مقاصد الشريعة وفقه المصالح والتخلص من مخاطر تقديس رجال الدين ، خصوصا وان الاسلام تميز عن التحريفية المسيحية بعدم الاعتراف بالدور الوسيط الذي يلعبه رجال الدين بين الله وعباده المؤمنين ، حيث نزل التكليف الالهي لعموم المؤمنين بالقراءة وتعلم أمور الدين بواسطة كلام الله في القرآن الذي نزل ليقرأه قوم يفقهون ويتفكرون ويتدبرون ويعقلون .

لعل التوجهات الأخيرة التي بدأت تظهر في أوساط الإسلاميين تعيدهم الى أسئلة حقبة فكر التنوير التي وجه الفكر الإخواني ضربة قوية لها ، وسعى الى تجاوزها من خلال العودة الى الخلف والتوجه الى فكر الغزالي والذهبي والقرطبي وابن تيمية وابن القيم والشاطبي وأضرابهم ، متجاهلا ً حقيقة ان أسئلة حقبة فكر التنوير ــ التي كان المفكرون الإصلاحيون يبحثون عن إجابات عليها ــ هي أسئلة العصر بإمتياز وليست اسئلتهم الشخصية ، وهي فوق كل ذلك أسئلة غير مسبوقة ولم يطرحها أي عصر من العصور السابقة !!

لا مبالغة في القول إن مشكلة الإسلام السياسي الحركي معقدة للغاية ، فإذا كان بوسع رموز هذا التيار سهولة التنكر لفكر سيد قطب التكفيري والبراء من كتاب (( معالم في الطريق)) ، يعد أن أصبح الكاتب والكتاب في ذمة التاريخ .. فليس بوسعهم التخلص من رموز إخوانية فكرية ارتبطت حياتها وما زالت مرتبطة بنشر الفكر التكفيري التصفوي ، والدعوة الى فقه التشدد وإدانة الأفكار الإصلاحية التي بشرت بها حقبة فكر التنوير . وأمثال هؤلاء كثيرون في اليمن وغيرها من أقطار العالم العربي والإسلامي ، وما زالوا أحياء ويتسنـَّمون مواقع قيادية وروحية في حركة الإسلام السياسي ، الأمر الذي يجعل المراهنة على نجاح هذه الحركة في التجدد والخروج من مأزق الركود امرا ً صعبا ً للغاية !

  لنأخذ على سبيل المثال أفكار الشيخ الإخواني د محمد سعيد رمضان البوطي الذي يدرس طلبة وطالبات احدى الجامعات اليمنية الحكومية أفكاره ــ وهي بالمناسبة أفكار محورية في المنهاج الفكــــــــــري للإسلام السياسي ــ حيث يهاجم الأفكار الإصلاحية لحركة التنوير في كتابه الشهير ( كبرى اليـقـيـنـيــــات الكونيــة ) ، ص 19 ـ 20 بقوله : (( كانت تلك التي زعموها مدرسة إصلاحية منشأ ً زمانيا ً لوقوع الفكر العربي الإسلامي في منطقة الجاذبية الغربية )) .. ثم يتهمها بالخيانة والعمالة بقوله : (( وفي يقيني ان ظهور تلك المدرسة التي كان يخطط لها اللورد كرومر واللورد لويد بكل خفاء ودقة كان إيذانا ً بإنهيار الشخصية الإسلامية التي ظلت متماسكة حتى بعد زوال الخلافة الإسلامية الى أمد )) .. وبعد ذلك يصعـّد البوطي تلك الإنهامات ويصل بها الى مستوى التكفير والتخوين في آت واحد حين يتساءل قائلا ً : (( كيف يتسنى للمسلم الصادق في إسلامه ان يجاري محمد عبده في طي سائرالحقائق الغيبية والتكلــــــــــــف في تأويلها ، لمجرد تطويع الإسلام لبرنامج التحديث الغربي الذي كانت تخطط له بريطانيا صراحة ؟ ))

وبوسعنا القول أن أفكار البوطي تعد جزءًا مهما ً من منظومة أفكار ما تسمى بحركة (( الصحوة)) الإسلامية التي ارتبطت بفكر ما يسمى التيار الجديد في التنظيم الدولي للإخوان المسلمين .. والمتأمل لهذه الأفكار سيلاحظ أن ثمة رفضا ً مطلقا ًلأي عملية تجديد في الفكر الإسلامي ، ناهيك عن التشكيك بأي توجه نحو التحديث والتجديد من خلال الإفراط في إتهام دعاتهما ـــ وبضمنهم الشيخ محمد عبده رحمه الله ـــ بالتغريب و محاربة الإسلام !!ً

يقينا ً ان التخلف ليس قدرا ً مطلقا ً .. ولعل ما يميز الواقع العربي والإسلامي في عصر العولمة وما بعد الحداثة الذي تزامن مع ميلاد الألفية الثالثة من التاريخ الميلادي ، عن عصر الحداثة الذي دشنته الثورة الصناعية الأولى والثانية قبل ثلاثمئة عام ، هو استمرار تخلفه بوتائر متصاعدة ، مع وجود فرص موضوعية لتجاوز واقع التخلف . وإذا كان من الصحيح القول بأن العالم العربي والإسلامي قد تخلف عن اللحاق بعصر الحداثة الأولى الذي دشنته الثورة الصناعية والتقنيات العلمية في القرن السابع عشر وبلغت ذروتها في القرون الثلاثة الأخيرة ، وكان من نتائجها تقسيم العالم الى مركز مهيمن وأطراف تابعة ومعزولة ، وما ترتب على ذلك من عالمية ذات طابع عمودي . لكن عصر الثورة الأليكترونية ، بما هو عصر العولمة وما بعد الحداثة يتسم بالنزوع الى تغيير خارطة العلاقة بين مفاعيل النظام الكوني .. فالمادة لم تعد عضوية وآلية بل اليكترونية ومعلوماتية .. وبالمقابل لم يعد الفكر يبحث عن الحقيقة من خلال المعطيات الموروثة والقائمة فعلا ً ، بل من خلال المعطيات التي يهتم العقل بالتفكير في إبداعها وإنتاجها عبر تقنيات المعلومات وشبكات الإتصال ، وما يترتب على ذلك من تغيير العلاقة بين الوعي المعرفي والواقع الملموس .

مما له دلالة ــ في هذا السياق ــ ان الآلة بوصفها أبرز معطيات الحداثة الإنتاجية في حقبة الثورة الصناعية ، انتجت وقائع و حقائق جديدة ، ووحـّدت العالم في شبكة علاقات ذات طابع عمودي .. بيد أن دخول الرقم كعنصر حاسم في الإنتاج الأليكتروني جعل الواقع والحقيقة مفتوحين أمام تحولات بلا حدود .. بمعنى إمكانية إكساب العالم الواقعي بنية أفقية إندماجية لامتناهية ، بعكس عالم الثورة الصناعية العمودي والمجرد . !!

كانت التناقضات في عالم الحداثة الصناعية قائمة ً بين بنى محوريــــــــة ذات حدود صارمـــة ، وبين فواعل ومفاعيل ترتبط فيما بينها بعلاقات عمودية .. امـّا عالم ما بعد الحداثة فهو يتسم بميله لأن يتحول الى بنية سوقية محورية و مندمجة ، تصبح التناقضات معها قائمة ً بين فاعـِلـَـيـْن متميـِّزَيـْن بطريقتي تفكير متناقضتين .. الأول يفكر بعقلية ديناميكية ويعمل على تطوير أنماط التفكير والعيش من خلال الإندماج ضمن سوق كونية تتوفر فيها فرص غير مسبوقة لتبادل المعطيات من أفكار وسلع وخدمات ومعلومات ، فيما يفكر الآخر بعقلية إنعزالية تقليدية ، ويصر على العمل وفق قوالب مدرسية نقلية ، وأفكار ماضوية جاهزة ، ما يؤدي الى إهدار الفرص المتاحة للتقدم ، والإستمرار في إعادة إنتاج العجز ، وتهميش الذات بالذات نفسها.ومن المفارقات التي تميز عصر العولمة وما بعد الحداثة عما قبله ، انه ينطوي على حوافز وفرص تفتح إمكانات هائلة أمام كل من يرغب في الإندماج به للتأثير في مفاعيله الداخلية وتغيير قواعد حركتها .. بمعنى ان العولمة فضاء مفتوح للمجايلة والمشاركة والإشتغال على معطياتها ووقائعها من خلال قدرات معرفية وأنساق ذهنية ، لا قدرات مادية عضوية كما هو حال الحداثة الصناعية .

ويبقى القول أنه لا توجد وصفة سحرية للخروج من هذا المأزق .. بيد أن الإستجابة لتحديات العولمة والطور الجديد للحضارة الحديثة ممكنة في حال الإندماج بها وإستيعاب أدواتها والانفتاح على قيمها ، وذلك من خلال تأسيس فكر سياسي و خطاب ثقافي يتجاوزان أسئلة النهضة التي عجز الفكر العربي والإسلامي عن الإجابة عليها منذ إن طرحها روّاد فكر التنوير في القرن التاسع عشر تحت تأثير الصدمة الحداثة الأولى مع الثورة الصناعية .. على أن يتم الإنتقال بعد ذلك الى صياغة اجوبة جديدة على اسئلة الزمن الجديد التي تطرحها الصدمة الثانية لما بعد الحداثة ، تحت تأثير متغيرات عصر العولمة وثورة تكنولوجيا الإتصال والمعلومات ، وهو ما يستوجب إبداع طريقة تفكير جريئة وإقتحامية تجترح صيغا ً جديدة للإنفتاح والعمل والنمو والتلاقح والتفاعل ، بدلا ًمن لعن العولمة والبكاء على أطلال الهوية والخصوصية والتمترس خلف ما وجدنا عليه آباءنا الأسلاف .. وبهذا فقط يمكن للمهمشين المشاركة في جدل العصر ، وتجنب البقاء على الهامش.