الإخوان المسلمون ومفهوم الدولة
بقلم/ دكتور/عصام العريان
نشر منذ: 17 سنة و 5 أيام
الخميس 08 نوفمبر-تشرين الثاني 2007 06:47 م

ثار جدل شديد حول مفهوم الدولة الإسلامية المدنية عند الإخوان المسلمين؛ بعد طرح القراءة الأولى لبرنامج الحزب على المثقفين والمفكرين من مختلف الاتجاهات السياسية والفكرية. هذا البحث قمت بإعداده ومناقشته مع قيادات الإخوان وتم اعتماده كوثيقة إخوانية؛ لمدارسته مع وثائقهم المعتمدة.

وهذا البحث يرد على كثير من الأسئلة وينير كثيرا من نقاط الالتباس حول رؤية الإخوان المسلمين ومفهومهم للدولة الحديثة، تلك الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، وهو يرد أيضا على بعض الشبهات التي تم تناولها بعد نشر القراءة الأولى للبرنامج الحزبي التي تم إرسالها بصورة شخصية لعدد من المفكرين لإبداء آرائهم وملاحظاتهم عليها قبل إخراج القراءة النهائية.

تنطلق رؤية الجماعة تجاه المجتمع وأنظمة الحكم والدولة فيه من إيمانها المطلق بأنه ليس في الدنيا نظام يمد الأمة الناهضة بما تحتاج إليه من نظم وقواعد وعواطف ومشاعر كما يمد الإسلام بذلك كل أممه الناهضة.

و"يعتقد الإخوان المسلمون أن الله تبارك وتعالى حين أنزل القرآن وأمر عباده أن يتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم ورضي لهم الإسلام دينا، وضع في هذا الدين القويم كل الأصول والقواعد اللازمة لحياة الأمم ونهضتها وإسعادها، وذلك مصداق قول الله تبارك وتعالى: {الّذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [الأعراف: 157] (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).

ولقد كون الإسلام بعطائه النظري والعملي على مرّ العصور ذاتية الأمة، وصاغ هويتها، وبنى أساسيات القوانين النفسية والعقلية والعملية فيها؛ فعلى أساسه تتحدد تلك القوانين تلقائيا، وفي ضمير الكثرة الكاثرة من أبناء هذه الأمة، تتضح معايير: الحق والباطل، والخير والشر، والحسن والقبيح.

ولقد أثبت التاريخ أن هذه المقومات النظرية التي جاء بها الإسلام أقامت دولا مدنية وحضارة إنسانية إسلامية أضاءت عصورا عديدة عرف فيها المسلمون دولة الحق والعدل والقانون وعاش خلالها غير المسلمين يتمتعون بالمساواة في الحقوق والوجبات وينعمون بحرية الاعتقاد، وشيّد المسلمون وغيرهم من مواطني دول الإسلام المتعددة بناء شامخا ترجم المعاني التي جاء بها الإسلام واقعا حيا لا يقلل من قيمته ما شابه من فترات مظلمة كانت دائما انحرافا عن قيم الإسلام من جانب بعض الحكام في مجالات الحياة المختلفة خاصة في مجال الشورى.

والإسلام في مفهوم الإخوان المسلمين (كما فهمه السلف الصالح) نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء.

ونحن نؤمن أن الإسلام لا يعرف الكهنوت ولا توجد فيه طبقة تحتكر الدين أو تتحكم في الضمائر وتغلق على الناس باب الله إلا عن طريقها.. وكل المسلمين في الإسلام رجال لدينهم لا يحتاجون إلى واسطة بينهم وبين ربهم.

وعلماء الدين في الإسلام فقهاء في اختصاصهم يرجع إليهم كما يرجع إلى كل ذي علم في علمه {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرا} (الفرقان: من الآية59). {.. وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: من الآية14). {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (النحل: من الآية43). {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: من الآية83).

 

 

ومن حق كل مسلم إذا شاء أن يصبح عالما بالدين وذلك بالدراسة والتخصص لا بالوراثة ولا باللقب؛ فالإسلام يرفض التقسيم المستورد للناس والمؤسسات إلى ما هو ديني وما هو غير ديني.. فلا انقسام للناس ولا للتعليم ولا للقوانين ولا للمؤسسات؛ فكلها يجب أن تكون في طاعة الله وخدمة الإنسان.

والشريعة الإسلامية شريعة شاملة جاءت تنظم أصول العلاقة بين الإنسان وربه، وبينه وبين نفسه، وبينه وبين أسرته، وبينه وبين مجتمعه، وبينه وبين أمته الكبرى، وبينه وبين البشرية جمعاء.. بل بينه وبين الكون الكبير من حوله.

والشريعة الإسلامية مفاهيم ونصوص، ومقاصد وقواعد، وبناء كلي يضع الأسس العامة لحياة إنسانية رشيدة، من غير حرج ولا إصر، تستهدف بناء مجتمع العدل والإحسان في جميع الميادين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وفي إطار ما اصطلح الفقهاء على تسميته "جلب المصالح، ودرء المفاسد" على أسس من ضوابط الشريعة وثوابتها.

وباب الاجتهاد في الدين مفتوح بشروطه وضوابطه المعروفة؛ فلا يملك أحد إغلاق باب لمصدر من مصادر التشريع فتحه الله تعالى ورسوله، وهو من الفروض الكفائية على الأمة؛ فيجب عليها أن تضع من الوسائل والآليات من المعاهد والجامعات ما يخرج هذا النوع من العلماء، {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة:122).

ويعتقد الإخوان أن العدل أساس تبنى عليه الحضارات، ولا تقوم المدنيات ولا ينهض العمران إلا في ظله، ولا تستقر الدول وينبسط سلطانها إلا به، وإنما أنزل الله الكتب وأرسل الرسل بالبينات والهدى ليقوم الناس بالقسط وليحكموا بالعدل.

ويعتبر الإخوان أن العدل هو جوهر الشريعة الإسلامية، وأنها (أي الشريعة) ما جاءت إلا لتقيم مجتمع العدل والمساواة بين بني البشر جميعًا، حكامًا ومحكومين، مسلمين وغير مسلمين.

ولا قوام للعدل بدون ضمان الحرية وكفالة المساواة وتحقيق الشورى، وبالعدل يتحقق التوازن بين مصالح الأفراد والجماعات وبه تضمن صلاح السلطة الحاكمة وعدم تحولها إلى مؤسسة تعمل ضد الشعب ومصالحه، وترى الجماعة أن الله قد خلق الإنسان حر الإرادة، وأقدره على اختيار ما يريد من الآراء والأفعال، فالحرية فطرة مركوزة في الإنسان إلى أن يتحرر من الآسار والأغلال التي تقيده ليكون عبدا لله وحده، وأن يقوم بوجه كل محاولة للتسلط أو الافتئات عليه، وأن يساعد الآخرين على ذلك، وجعلت الاعتداء على حرية الإنسان أو الانتقاص منها تحديا لإرادة الخالق، وأوجبت على السلطة أن تحفظ على المواطنين حرياتهم، وأن تهيئ المناخ الذي يدفع المواطنين إلى أمثل صور التحرر في وجه الضواغط الاجتماعية كلها.

والأصل الآخر من أصول بناء المجتمع في فهم الجماعة هو المساواة التي تتأسس على وحدة الأصل الإنساني؛ فالناس كلهم لآدم وآدم من تراب، وجوهره مساواة بين أفراد المجتمع فالناس ضعيفهم وقويهم وغنيهم وفقيرهم وحاكمهم ومحكومهم أمام القانون والقضاء سواء، لا تمايز بينهم بسبب العرق أو الجنس أو اللون أو المهنة أو المكانة الاجتماعية ولا لأي سبب كان.

إن من صميم موقفنا الشرعي والحضاري أن الحكمة ضالةٌ لنا أنى وجدناها فنحن أحق الناس بها، ومهما كانت مشاركتنا في بناء الحضارة الإنسانية كبيرة أو ضئيلة، فإننا نعتقد أن ثقافات الأمم، وتجارب الشعوب، ومعطيات الحضارة الإنسانية بشقيها المادي والمعنوي مما فيه خير الإنسانية هي مصدر إثراء لمشروعنا الحضاري، وتحرص الجماعة على الاستفادة من تجارب الآخرين؛ فـ"الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق الناس بها". (رواه الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة، وابن عساكر عن علي وحسنه السيوطي في الجامع الصغير). وهي ليست حكرًا على أمة دون أمة، ولا جيل دون جيل، ولو كانت كذلك ما دعا الحق سبحانه وتعالى المؤمنين إلى أن يسيروا في الأرض وأن ينظروا... كما تحرص على وضع حد لما هو شائع بين بعض دعاة الإسلام من استخفاف بتجارب الأمم والشعوب في مجال النظم السياسية والاقتصادية بدعوى أن المسلم لا يحتاج إليها، أو أنّ الله سبحانه وتعالى لم يفرط في الكتاب في شيء، وترى أنه لا يجوز الرفض المطلق ولا القبول المطلق لأي مذهب أو نظرية من نظريات الإصلاح السياسي والاقتصادي أو الاجتماعي؛ لأن الأمر مرهون بمصالح الأمة المنضبطة بميزان الشرع، وقد اقتبس عمر رضي الله عنه من أنظمة الدول الكبرى المعاصرة له، ولم يجد في الدين ما يمنعه من ذلك، والاستفادة من تلك المعطيات يبقى محكومًا بالضوابط الشرعية والمصالح المشروعة.

إلى جانب هذا يعتقد الإخوان المسلمون أن أساس التعاليم الإسلامية معينها هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، اللذان إن تمسكت بهما الأمة فلن تضل أبدا، وأن كثيرا من الآراء والعلوم التي اتصلت بالإسلام وتلونت بلونه تحمل لون العصور التي أوجدتها والشعوب التي عاصرتها، ولهذا يجب أن تستقي النظم الإسلامية التي تحمل عليها الأمة من هذا المعين الصافي معين السهولة الأولى، وأن نفهم الإسلام كما كان يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح رضوان الله عليهم، وأن نقف عند هذه الحدود الربانية النبوية حتى لا نقيد أنفسنا بغير ما يقيدنا الله به، ولا نلزم عصرنا لون عصر لا يتفق معه، والإسلام دين البشرية جميعا.

الدولة ومكانتها في الإسلام

قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد: 25). وقال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج: 41). وقال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص: 83). وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58).

الدولة ضرورة بشرية وفريضة شرعية لازمة، غايتها حراسة الدين وبسط العدل ورعاية مصالح المواطنين، السلطة فيها وظيفة اجتماعية وخلافة مسئولة يتحملها الكافة؛ فكل فرد مسئول عنها ومحاسب عليها باعتبارها أداة المجتمع الهامة لتنمية الإنجاز الاجتماعي في خدمة أهدافه المشتركة وتعزيز رصيده الحضاري والإنساني داخل المحيط الدولي.

إن الدولة بهذا المفهوم لا غنى عنها لتحقيق مقاصد الإسلام في حفظ الدين والعقل والنفس والعرض والمال، والقيام بالواجبات الجماعية التي لا يستطيع الأفراد أن يقوموا بها.

وتقوم الدولة في الإسلام على ثلاثة مبادئ أساسية وهى العدل والحرية والجهاد.

فالعدل في الإسلام أساس الحكم حيث يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58). ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحسان} (النحل: 90). ويقول تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: من الآية8).

 

 

أما الحرية: فلا يتصور الإسلام أبدا دولته تحت حكم غيرها من الأمم، أو أن تكون أرضه تحت سلطان أجنبي عنها {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: الآية 8) ولا يتصور الإسلام المواطنين في دولته أذلة تحت حكم مستبد قاهر يسومهم الخسف والهوان، وقد قال عمر الفاروق لعمرو ابن العاص رضي الله عنهما: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا". ويقول الإمام البنا: "إننا ندعو الناس إلى الإسلام، والحكومة جزء منه، والحرية فريضة من فرائضه".

وأما الجهاد: فهو من الأصول التي تقوم عليها الدولة الإسلامية؛ حيث يقول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (لأنفال: الآية 60) ولن تقوم دولة بغير كفاح، ولن تصان حرية بغير سلاح، ولن يتحقق الأمن القومي لبلد من البلاد دون جيش قوى على أتم الاستعداد وصناعة حربية تلبى كل الاحتياجات وقدرة على الحشد والتعبئة وروح معنوية عالية تمنع وتصد العدوان.

مفهوم الدولة الإسلامية

الدولة الإسلامية هي ما نطلق عليه الدولة (الحديثة) بالصيغة التي نقدمها في مشروعنا هذا، وليست بالدولة (الثيوقراطية) ولا هي بالدولة (العلمانية).. وهي دولة فكرة تقوم على نشرها.. كما هي دولة رعاية تحمى حقوق الفقراء وتحفز المجتمع على القيام بواجباته جميعًا.

 

 

أو بالأحرى هي دولة دعوة أو دولة رسالة، وهذا هو التعبير الحقيقي لارتباطها بالعقيدة الإسلامية أو الترجمة العملية للوظيفة العقيدية للدولة الإسلامية وهى الدولة التي غالبية سكانها من المسلمين وتقر باستمداد تشريعاتها من الشريعة الإسلامية.

ولعل أهم ما يميز الدولة الإسلامية هو الأهداف العامة التي تتحمل هذه الدولة عبء القيام بها، والتي أوجزها المتقدمون بقولهم: "القيام على أمر العباد بما يصلح معاشهم ومعادهم..". فثنائية الاهتمام بالمعاش والمعاد هي أولى مميزات هذه الدولة، وبقدر ما تقوم أجهزة الدولة بالوظائف التي يحددها لها الإسلام ويتم في إطارها تنفيذ أحكامه وتبليغ دعوته ومراعاة شرائعه بقدر ما تقترب من وصف الدولة الإسلامية أو تبتعد عنه.

وعندما تحقق الدولة الإسلامية وظائفها الأساسية فإنها بذلك تقدم المثال لبقية دول العالم ولكل الإنسانية حول التجسيد الحقيقي للمبادئ والقيم الإسلامية كالعدل والحرية والمساواة والشورى وحقوق الإنسان وحفظ كرامته بما يحولها إلى نموذج يحتذى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: من الآية110).

بين الدولة الإسلامية والدولة الدينية

إن الإسلام لا يقر الادعاء بالألوهية أو الربوبية بكل أشكالها وأنماطها، وقرر المساواة بين بني البشر فهناك خالق (هو رب العالمين) وهناك مخلوق هم البشر أجمعون ولا ميزة للحاكم على بقية المحكومين فهو لا يتصل بالسماء ولا يستمد سلطته من السماء وليس له الحق في أي ادعاء إلهي.

كما أسقط كل دعاوى التكريم على أساس النسب؛ "يا فاطمة بنت محمد اشتري نفسك لا أغني عنك من الله شيئا". فلا قداسة لحاكم بحكم مولده، أو نسبه {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: من الآية13).

وكذلك فقد أبطل الإسلام كل دعاوى (العصمة) التي يتذرع بها حكامٌ ادعوا في يوم من الأيام أنهم مقدسون أو ملهمون، والعصمة في التصور الإسلامي، وقف على النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه تبارك وتعالى، ولم ينشئ في بنيانه أبدا ما يعرف بالمؤسسة الدينية، لا في صورة فرد، ولا طبقة، ولا مؤسسة: (كالبراهمة) مثلا عند الهنود (والأحبار) عند اليهود و(الإكليروس) عند النصارى لأن العلاقة بين (الرب) و(العبد) في الإسلام علاقة مفتوحة بلا وسطاء {إياك نعبد وإياك نستعين}، {قل آمنت بالله ثم استقم}.. (رواه مسلم في صحيحه).

ولم يعرف الإسلام في تاريخه ما ظهر في أوروبا من تنازع السلطة الروحية الزمنية ومن خلاف بين الدولة والكنيسة.

والفارق الأهم بين الدولة الإسلامية والدولة (الثيوقراطية) هو أن مصدر السلطات جميعا في الدولة الإسلامية إنما هو الأمة، وسلطة الدولة ومؤسساتها هي التي تحمي تطبيق تعاليم الإسلام وتقود أمته إلى خير الدين والدنيا معًا.

فالأمة هي مصدر السلطات، وخيار الأمة وبيعتها هي التي تمنح الحاكم حقه في السمع والطاعة، أي تمنحه السلطة، والسمع والطاعة للحاكم في التصور الإسلامي حق مدني يستمد من العاقد ما وفي المعقود له بالعقد، شرعي ينبع من طاعة الله سبحانه وتعالى الذي فرض على المؤمنين الوفاء بالعقود {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة: الآية 1).

ولذلك يبقى حق السمع والطاعة مرتبطًا بموضوع العقد وشروطه الأساسية "إنما الطاعة في المعروف".. رواه الشيخان وأحمد والنسائي وأبو داود: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"... رواه أحمد والحاكم في مستدركه وصححه السيوطي.. أي خارج إطار العقد المتفق عليه بين الحاكم والمحكوم.

الدولة الإسلامية دولة مدنية

وتقوم هذه الدولة الإسلامية، التي نتبناها وندعو إليها، على جملة من المرتكزات، نعتبرها الأساس الركين لبناء دولة قادرة على القيام بأعباء أي مشروع حضاري، تسعى الأمة إلى تحقيقه في مسيرتها الوطنية والقومية والإنسانية.. وهي:

دولة تعاقدية دستورية: تقوم على الاختيار الحر المعبر عن إرادة الأمة.. والإمامة عقد بين الحاكم والأمة ممثلة بأهل الاختيار (الحل والعقد). والأمة مشرفة ومراقبة للعقد تملك مساءلته ومحاسبته، وتملك الحق في خلعه إذا لم يوف بشروط العقد، وينظم ذلك دستور مكتوب وأعراف دستورية مستقرة تحدد مسئولية الحاكم وطريقة محاسبته، كما تحدد سلطات الدولة والعلاقة فيما بينها الذي يحقق التوازن والتكامل، كما يحمى حقوق المواطنين والحريات العامة.

وفي وثيقة المدينة منح الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود أسس الحقوق المدنية والسياسة في إطار الاعتراف بالتعددية الدينية في الدولة الإسلامية، جاء في هذه الوثيقة: ".. وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ (أي لا يهلك) إلا نفسه وأهل بيته". ثم تعدد الوثيقة بطون يهود بطنا بطنا وتعطيهم من الحقوق ما أعطت يهود بني عوف.

لقد كانت هذه (الصحيفة) الوثيقة أولى الوثائق السياسية في تاريخ الدولة الإسلامية، التي أسست للاعتراف بالتعددية الدينية في إطار المرجعية الإسلامية، وانطلقت هذه الحقيقة مع الدولة الإسلامية لتستوعب الملل والنحل والحضارات، في دائرة من التسامح، اعتبرت أمثولة حضارية في التاريخ الإنساني.

دولة مواطنة: المواطن هو الفرد الذي ينتمي إلى كيان سياسي (دولة)، والانتماء الوطني لا يتعارض مع الانتماء القومي أو الديني، ومصطلح مواطن تشمل كل إنسان ينتمي إلى الوطن، دون تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللون والدولة الإسلامية تضم المواطنين على اختلاف عقائدهم الدينية شريطة أن ينتموا إلى هذا الوطن، وعنوان الانتماء هو وثيقة الجنسية الوطنية.

وهى تضم كذلك العربي، وغير العربي شريطة أنه ينتمي إلى هذا الوطن، وقد كانت وثيقة المدينة خير مثال على أن الدولة المسلمة دولة مواطنة، فاليهود والمسلمون (المهاجرون والأنصار) والمشركون مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات.

والجماعة ترى أن الآية الكريمة: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون}.. هذه الآية تتضمن أن الأمة هي مصدر السلطات فهي التي تولي من تثق بدينه وأمانته وخبرته وعلمه ومواهبه وكفاءته ليقوم على أمر من أمورها،... وأن رئاسة الدولة لا تؤخذ غصبا وبحد السيف بل بالاختيار الصحيح، وأن الأمة الإسلامية تدين بالعبودية لله وحده، وتقدس أحكام القرآن الكريم والسنة المطهرة وتؤمن بأن الناس لا يملكون الحكم إلا بما أنزل الله -تعالى- بمقتضى شريعة الإسلام، ومن ثم فهي لا تملك أن تفوض من أجازته ليلي أمرا من أمورها إلا بما قرره الشرع الحنيف وأن يسوسها على مقتضى أحكام الدين.

وإننا -مع التسليم بأن أحكام القرآن الكريم والسنة المطهرة هما الدستور الأسمى- ولا يعتد ولا يقبل ما خالف أيهما- فإن الأمة لابد أن يكون لها دستور مكتوب تقوم نصوصه على مبادئ الشريعة الإسلامية الغراء، وتحقق مراميها وغايتها وقواعدها الكلية، وأن الدستور يجب أن يضمن توازنا بين اختصاصات مختلف المؤسسات التي تدير شئون الدولة، حتى لا يطغى بعضها على بعض أو يستبد أحدها بالأمر.

دولة برلمانية: ففي بيعة العقبة الثانية طلب الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا له نقباءهم (ممثليهم) وقد أخرجوا اثني عشر نقيبا كانوا كفلاء على قومهم.

وأهل الحل والعقد، أو أهل الاختيار، هم الذين يمثلون في النظم الدستورية الحديثة السلطة البرلمانية.

وهذه السلطة البرلمانية واجبها هو صياغة وسن القوانين طبقا للمرجعية الدستورية الشرعية، والرقابة على السلطة التنفيذية ومحاسبتها، وكذلك إقرار الخطط والسياسة العامة للدولة بجانب الرقابة المالية على الحكومة.

دولة تعددية: في المدينة المنورة ومع أول يوم لقيام الدولة الإسلامية ذات السيادة، كانت تؤمن بالتعدد، وقد ظهر ذلك في وجود غير المسلمين فيها وتمتعهم بكافة الحقوق والواجبات، كما ظهر في اختلاف الآراء بين الصحابة رضوان الله عليهم في مختلف المواقف في السلم والحرب.

والله عز وجل أقر التعايش بين المسلم وغير المسلم، حسم هذا الأمر بقوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}.

وتؤكد الجماعة على أنها تؤمن بتعدد الأحزاب دون الإخلال بثوابت الأمة، وأنه لا حاجة لأن تضع السلطة قيودا من جانبها على تكوينها ونشاطها، وإنما تكون ثمة جهة قضائية مستقلة هي التي يجري التحاكم إليها إذا لزم الأمر.

وتؤمن الجماعة أن مصلحة الأمة وأمنها واستقرارها يكمن في حرية العمل العلني للأحزاب والجماعات، وهذا لن يتم إلا بإقرار الحريات العامة، وإشاعة ثقافة الحوار في المجتمع ثقافة الإقصاء وثقافة التعايش ثقافة الاستئصال.

دولة تداولية: من التداول اشتق العرب كلمة (دولة)، والتعددية السياسية تؤدي إلى التداولية، وهي المقابل لحالة (الملك العضوض) الذي جاء بولاية العهد.. بدلا من اختيار الأمة بواسطة الاقتراع الحر والنزيه، وهي المقابل الموضوعي لحاكم مدى الحياة نجح أو أخفق.. "إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم".

والتداولية هي تداول بين القوى والأحزاب السياسية بمناهجها واجتهاداتها.

ولن يكون النظام السياسي تداوليا ما لم يتضمن الآليات التي تتيح للجماعة السياسية التي تحظى بتأييد الأغلبية الشعبية بتولي السلطة لتنفيذ البرنامج الذي كانت تدعو إليه، وذلك من خلال اقتراع دوري يحتكم الجميع إليه؛ فالمجتمع وحده هو الذي يرجح هذا الاتجاه أو ذاك، كما يتضمن الآليات والوسائل التي تسمح بالتداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات الدورية.

دولة مؤسسات: يتم العمل فيها بروح وجهد الفريق، ويتولى أصحاب الاختصاص مهامهم في كل ميدان، وفي إطار المؤسساتية يتحول الجيش إلى جيش وطني (غير فئوي) يحمي الوطن (كل الوطن)، وتتحول المؤسسة الأمنية إلى مؤسسة تحمي حرية المواطن، وفي إطار المؤسساتية ستجد العقول المهاجرة مكانها في سياق وطني عام منتج.

ودولة المؤسسات تقوم على الشورى؛ ضد الدولة الفردية، التي تقوم على الأهواء والمصالح الشخصية والعشائرية.

الشورى في المفهوم الإسلامي ليست مجرد مبدأ سياسي يحكم أشكال العلاقات السياسية فحسب.. بل هي نمط سلوك تعبدي ومنهج عام لإدارة مختلف جوانب الحياة في الدولة.. بالإضافة إلى كونه قيمة إيمانية وخلقية توجه سلوك الأفراد وعلاقاتهم الاجتماعية، يتربى عليها الفرد والمجتمع والحكام لتصبح جزءا من مكونات الشخصية المؤمنة وأحد مقوماتها، ويصطبغ بها كل المواطنين.

والشورى التي نؤمن بها ونسعى إلى تحقيقها وتأسيس نظام الحكم عليها ليست قالبا جامدا نتعسف إسقاطه على أوضاعنا الراهنة، ولكنها تعني إرسال مبدأ تداول السلطة وحق الشعب في تقرير شئونه واختيار نوابه وحكامه ومراقبتهم ومحاسبتهم وضمان التزامهم في ما يصدرونه من قرارات ويحدثون من أوضاع لتحقيق مصلحة المجتمع، آخذا برأي الشعب مباشرة أو عن طريق نوابه، حتى لا يستبد بالأمر فرد أو ينفرد به حزب أو تستأثر به فئة، وهى إلى جانب ذلك تحدد القواعد الأساسية التي يقوم عليها نظام الحكم ودستور الدولة.

إن مفاهيم الشورى لا تصطدم بالأخذ بأحسن ما وصلت إليه المجتمعات الإنسانية في ممارستها الديمقراطية في عصرنا الراهن من أشكال وقواعد وطرق إجرائية وفنية لتنظيم استخلاص الإجماع وتحسين ممارسة السلطة وضمان تداولها سلميا وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية فيها وتفعيل المراقبة عليها؛ ذلك أن التطبيق العملي المعاصر للشورى كمرتكز للنظام السياسي والدستوري والنيابي لا تنقصه المفاهيم الشوروية؛ فهي مؤصلة ومؤكدة في شريعتنا الإسلامية، بل يصطدم بغياب التطبيق في الهياكل والمؤسسات التي يجب أن تعبر عن هذه المفاهيم وتتجلى فيها ممارسات الشورى والاختيار، وترسي سلوكا شورويا إيجابيا قابلا للتوارث والنماء.

دولة القانون: يتقدم فيها أمن المجتمع على أمن الحاكم.. ويحترم فيها الدستور من قبل الحاكم والمحكوم.. يستمد النظام القانوني في الدولة الإسلامية من القرآن والسنة كقانون أعلى تجذر في المجتمع واستقر في وجدانه فصار فيه الأساس الوحيد للشرعية، والمقياس المعتبر للمشروعية الصادرة عنه، ومن خلال هذه الحقيقة يتحدد المعنى الحقيقي لمبدأ سيادة القانون، فالقانون كأداة اجتهادية للضبط الاجتماعي لا يكون له القبول والاحترام إلا بقدر اتساق أحكامه الجزئية مع مبادئ وقواعد القانون الأعلى في المجتمع؛ فيتسق وينسجم مع ما ترسخ في ضمير الأمة ووجدانها من مبادئ وقواعد وقيم، فيمتلك بالتالي أهلية السيادة ووجوبها عند التطبيق، بحيث يخضع له وينزل عند حكمه جميع الأفراد بصرف النظر عن المكانة التي يحتلونها اجتماعيا أو المركز الوظيفي الذي يشغلونه سياسيا أو إداريا، كما تخضع له سلطات الدولة بمختلف مستوياتها، وكذا الأعمال الصادرة عن مؤسساتها وأجهزتها، فتتحقق بالتالي دولة النظام والقانون.

* مسؤول القسم السياسي بجماعة الإخوان المسلمين، وبرلماني سابق