صوت العرب من الدوحة
بقلم/ د. قائد غيلان
نشر منذ: 13 سنة و شهر و 12 يوماً
السبت 01 أكتوبر-تشرين الأول 2011 03:55 م

لافتة رفعها أحد المتظاهرين اليمنيين وفيها يبرز شعار الجزيرة وتحته عبارة صوت العرب من الدوحة. لماذا قناة الجزيرة، وحدها، من بين كل قنوات العالم يرتفع علمها عالياً مع الأعلام الوطنية لمصر واليمن وليبيا وسوريا. ولماذا هي القناة الوحيدة في العالم التي يخرج الناس في المظاهرات ليهتفوا لها كما يهتفون بمطالبهم. ولماذا هي، وحدها، التي تدفع الأنظمة لإرسال مجاميع يهتفون ضدها. ما الذي أوصل الجزيرة إلى هذه المكانة التي لم تصل إليها أي وسيلة إعلامية أخرى في العالم.

يستقيل مدير الجزيرة، وضاح خنفر، فيحتل نبأ استقالته واجهة الأخبار، ليس من المألوف أن يأخذ خبر استقالة مدير أي محطة تلفزيونية تلك الأهمية التي حظي بها مدير الجزيرة. ماذا فعلت الجزيرة لتحظى بهذا القدر من الأهمية؟ 

تتحرك وسائل الإعلام القادمة من كل بقاع الأرض لتغطي الحرب في ليبيا، ووحده، فريق الجزيرة، يتعرض لكمين مسلّح، ووحده، فريق الجزيرة يتعرّض للاحتجاز. وهذا بالتأكيد ليس لأن الجزيرة تصوّر، فكل القنوات تصوّر.

 لقد سبّبت قناة الجزيرة أرقاً وقلقاً للأنظمة العربية المتساقطة، فاضطرت تلك الأنظمة لاستخدام أساليب عقابية ضد القناة، إذ تعرّضت للإغلاق أثناء ثورة مصر وليبيا واليمن، ولم يسمح لها بالعمل في سوريا لتغطية الأحداث. لكنها، أي الجزيرة، في بلد الحكمة والإيمان تعرّضت إلى ما هو أكثر من هذا، إذ تم تهديد مراسلها بخطف أولاده، وكُسرت يدُ مصورها في تعز، كما اقتُحِم مكتبها في صنعاء وعُبث بمحتوياته، وطُرد مراسلاها وأخيراً أُقفلت، وركزت قناة سبأ كل جهودها في تكذيب ما تبثه القناة . هل كل هذا القلق الذي سبّبته الجزيرة سببه، فقط، إذاعة الأخبار والتقارير، لو كان هذا لتعرّضت قنوات أخرى لنفس الإجراء.

الحاكم لا يفهم الحيادية إلا على أنها السذاجة واللاموقف، يريد من القنوات أن تكون كامرات بلهاء تصوِّر الجموع التي يحشدها الحاكم بماكنيات الدولة وأموالها، أو بلاطجة النظام وشرطته باللباس المدني وتظهر ذلك على أنهم الشعب، وتصوّر الثورة ليس على أنها ثورة شعب ضد نظام بل مجرد خلاف بين مؤيدين ومعارضين. وعلى هذا فالأنظمة ترى أن الجزيرة تعمل بعيداً عن الحيادية، لأن ما تفعله أكثر من هذا، إنها تفضح الحاكم وتكشف الحقيقة، الحقيقة كما هي وكما تراها لا كما تحاول أن تصوّرها الأنظمة. والحقيقة، في حالة الثورات العربية، أن هناك شعوباً تريد أن تتخلص من كل هذا الظلم وتقدم من أجل ذلك الضحايا. وبالمقابل هناك أنظمة تحاول، بكل ما أوتيت من سلطة وإماكنيات أن تقمع ثورتهم وتصادر حقهم في التعبير و التغيير وترتكب في سبيل ذلك المذابح.

 لقد اختارت الجزيرة الانحياز للحقيقة، ومناصرة الشعوب، وهذا ما شعر به الناس في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا. أحسوا أنها صوتهم المعبّر عنهم وتقف إلى جانبهم، ولهذا رفعوا شعارها جنباً إلى جنب مع أعلامهم الوطنية. وهي، أيضاً، محايدة إلى أقصى حدود الحيادية، الحيادية التي تجعلها عصيّة على الانحياز للحاكم، وإن انحازت فإنما تنحاز إلى الحقيقة، ولأن الحقيقة مع الشعوب، فهي منحازة إليها.

أما الحكام فقد أحسوا أن الجزيرة تعمل ضدّهم وتهدّد مصلحتهم في البقاء على السلطة، وهذا، من وجهة نظرهم انحياز واضح للشعوب، أي ضد الحاكم، لأن مصالحهم، أبداً، لا تلتقي مع مصالح شعوبهم، ولهذا ناصبوها العداء. ومن يستمع إلى تقارير الجزيرة يدرك أن قلق النظام في محله، لكن كل إجراءاته، بما فيها الإغلاق والتهديد والاقتحام والتخريب، لم تفلح في إسكات صوت الجزيرة أو منعها من تخصيص مساحة للثورة اليمنية في كل نشرة من نشراتها.

لقد تمكنت هذه القناة من بسط نفوذها على كامل الوطن العربي منذ تأسيسها في فترة الركود العربي في منتصف التسعينات إلى ربيع الثورات العربية، رغم ظهور قنوات منافسة، لكنها، أي الجزيرة، اتخذت لها طريقا مغايراً، وهو طريق وَعِرٌ وصعب، حين راهنت على الشعوب فساندت ثوراتها، في الوقت الذي كانت القنوات المنافسة تتجنب مصطلح "الثورة" وتبرز القضية على أنها مجرد أزمة، (والأزمة، حتى لو كانت أزمة كبيرة تختلف عن مفهوم الثورة). ثم تضطر في الأخير تلك القنوات المنافسة، مجاراة للجزيرة، إلى تثبيت مصطلح الثورة حين تكون قاب قوسين أو أدنى من النصر..

لقد وُصمت الجزيرة من قبل أنظمتنا العربية ووسائل إعلامهم بأنها صوت أمريكا وإسرائيل في المنطقة، ويكتشف المواطن العربي أن الأنظمة العربية المتساقطة هي الصوت الأكبر لأمريكا ويدها ورجلها، ولعل أبرز مثال لذلك تلك الفضيحة التي نشرتها وثائق ويكيليكس وهي تصريح مفتوح من الرئيس اليمني لأمريكا يعطيها الحق في ضرب أي هدف داخل اليمن وسوف يقوم الرئيس بنسبة الضربة للجيش اليمني. إلى هذا الحد يصل التماهي بين حكامنا وبين أمريكا.

لقد تعددت التُّهم التي أُلصِقت بالجزيرة من العمالة لأمريكا وإسرائيل إلى العمالة لإيران ثم الوقوع تحت سيطرة الإخوان المسلمين. وهي تهم، تضجُّ بالتناقض. فكيف لقناة أن تكون عميلة في وقت واحد لأمريكا وإسرائيل وإيران والإخوان المسلمين.

لكن التاريخ، كعادته، لن ينظر إلى الجزيرة من خلال ما يقول عنها خصومها، وهم الحكام المتضررون من رسالتها، بل سيسجل شهادته من خلال ما أنجزت رسالتها لصالح الشعوب العربية، وسيسجل بالتأكيد أن الجزيرة كانت منحازة انحيازاً واضحاً إلى الشعوب العربية المطالبة بالتغيير والثائرة ضد الظلم.