في ذكرى رحيل الشيخ
بقلم/ ناصر يحيى
نشر منذ: 14 سنة و 10 أشهر و 12 يوماً
الخميس 31 ديسمبر-كانون الأول 2009 09:39 ص

تفتقد الحياة السياسية والفكرية اليمنية نوعا مهما من البحوث والدراسات وهو الذي يتعلق بدراسة حياة الشخصيات العامة.. والأعمال الموجودة قليلة أو تناولت في الغالب حياة شخصيات ارتبط مؤلفوها بنوع من العلاقة الإنسانية معها.. لكن أبرز سمة لتلك الأعمال هو عدم قدرتها على تقديم صورة شاملة ودقيقة للجوانب الخاصة والعامة والزوايا المجهولة والمعلومة للشخصية

وأذكر قبل سنوات عشر أنني قرأت مؤلفا عن الزعيم الكوبي (فيديل كاسترو) بعنوان: أمير حرب العصابات.. قالت مؤلفته إنها التقت بخمسمائة شخصية في مختلف قارات العالم لتجميع المادة المطلوبة للكتاب.. وفي أحد الأعمال القيمة التي تناولت حياة شخصية مثيرة للجدل قدم الكاتب الأمريكي (إليكس هيلي) – صاحب الرواية الشهيرة: الجذور – حياة الزعيم الأمريكي المسلم الأسود (مالكولم X ) في عمل فريد جمع بين الدقة والبراعة والشفافية -إن جاز التعبير- مما جعل المذكرات عملا خالدا يستحق أن يقرأ.. وإن كان الكاتب قد أسهم ببراعته في تحقيق الهدف إلا أن (مالكولم X ) –الذي سمى نفسه بعد إسلامه، مالك شباز- كان له الفضل الوفير في إنتاج هذه التحفة الإنسانية والأدبية بأن قدم تفاصيل حياته ومراحل تطورها المثيرة دون رتوش.. ودون ادعاء مواقف.. وبحرص على كشف مواطن ضعفه الإنساني وعجزه البشري وآلامه وآماله ونجاحاته وإخفاقاته لتكون حياته مجموعة من الدروس والعبر.. وفي الوقت نفسه صورة في منتهى القسوة لحياة المجتمع الأمريكي الذي عاش فيه وهو يشاهد كيف استبيحت إنسانية الأمريكيين السود وكرامتهم وحياتهم فما لكولم نفسه قتل أبوه من قبل مجموعة من العنصريين البيض الذين ربطوه فوق شريط سكة القطار وتركوه ليمر عليه ويمزقه إربا!

ولأن هذا النوع من الفنون الأدبية –أي كتابة حياة الشخصيات- ما يزال نادرا في بلادنا.. فإننا نفتقد إلى مصدر مهم للمعرفة والتجارب الإنسانية التي يوفرها هذا الفن.. ونجزم أن كتب المذكرات الشخصية التي صدرت منذ الثمانينات، وازدادت خلال التسعينات وما بعدها، لا تستطيع أن تسد هذه الحاجة بسبب الذاتية المركزة التي تكتب بها ولذلك تبقى حياة الشخصيات العامة في مختلف المجالات مجهولة في كثير من جوانبها.. وقصارى ما تثيره هذه المذكرات هو سلسلة سريعة من الردود تنصب غالبا على المواقف السياسية المختلف حول تقييمها: سلبا أو إيجابا!

وفي تاريخنا المعاصر.. هناك عدد كبير من الشخصيات العامة في مختلف المجالات التي كان يستحق أن يعمل باحثون وكتاب على تسجيل حياتها وسيرتها بكل ما فيها من نجاحات وإخفاقات.. وصعود وهبوط.. وآلام وآمال.. ولا شك أن هذا الجهد سوف يوفر للأجيال رؤية أوسع للأحداث التي شهدها الوطن خلال المائة عام الماضية على الأقل.

 (2)

مناسبة هذا المدخل هو حلول الذكرى الثانية لرحيل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر –رحمه الله تعالى- وهو بلا خلاف أحد أبرز الشخصيات القبلية والسياسية التي تركت بصمات واضحة في تاريخ اليمن وخاصة منذ ستينات القرن العشرين الماضي.. فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكتب تاريخ تلك السنوات دون أن يكون هناك دور ما للشيخ عبدالله.. وهو دور –أو أدوار إذا شئنا الدقة- كانت حاسمة في بعض المراحل وخصوصا دوره البارز في قيادة المواجهة الشعبية في مناطق حاشد وما جاورها ضد مشروع إعادة الحكم الإمامي وإسقاط ثورة سبتمبر.. حتى إنه يمكن القول إن زمنا جاء لم تكن هناك قوة حقيقية تعطل تقدم الملكيين إلا تلك التي كان يقودها الشيخ عبدالله، ولاسيما عند اشتداد الصراع داخل الصف الجمهوري والانشقاقات التي شهدها وأكثرها خطورة ما حدث في 1966 حتى قيام حركة نوفمبر 1967.. ففي تلك المناطق حسمت المعارك الكبرى والمواجهة التي خاضها الجمهوريون بالسلاح نفسه الذي كان الأئمة يسيطرون به على السلطة ويحافظون عليها ويتغلبون بها على أعدائهم.. وأعني بها سلاح القوة الشعبية المتجسدة في القبائل المحاربة.

ومع أن الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر كان قد انتهى من إعداد مذكراته قبل وفاته، إلا أن الأمر يبقى بحاجة إلى أكثر من ذلك.. فالمذكرات أو الذكريات الشخصية تقدم رؤية صاحبها للأحداث والوقائع التي يمكن للباحثين أن ينظروا إليها من زوايا متعددة تحليلا وتفسيرا ومقارنة بالرؤى الأخرى.. وفي مثل أهمية الأدوار التي اضطلع بها (الشيخ) وخطورة المراحل التي عاصرها خلال أكثر من خمسين عاما، وتعدد المهام التي قام بها.. فإن حياة (الشيخ) يمكن أن تكون مصدرا ثريا لدراسات عديدة تتناول الجوانب المختلفة، فهو البرلماني، والسياسي، والمقاتل، والشيخ.. وفي كل جانب من هذه الجوانب كان يتصدر الصفوف ويتبوأ مكانا متقدما لا ينكره أحد.. كما أنه من القلة النادرة التي استمرت حاضرة بقوة في المشهد الوطني بكل جوانبه حتى الأيام الأخيرة من حياته. ويوم مات كان أكبر من شيخ قبيلة ولو كانت حاشد.. وأكبر من مسؤول ولو كان رئيس البرلمان.. وتجاوز دوره كسياسي وقائد لحزب سياسي ليصير أبا للجميع الذين كانوا يجتمعون في ديوانه على اختلاف اتجاهاتهم السياسية والمذهبية والفكرية.. وحتى الذين كانوا يحملون تقييما سلبيا لأدواره كانوا لا يملكون إلا أن يحترموه ويحرصوا على أن يكونوا من رواد ديوانه ومنتداه وضيوفا عليه.

 (3)

كان أول تعارف مباشر لي مع (الشيخ) في العاصمة التنزانية (دار السلام) عام 1988 أثناء مشاركتنا في أحد الاجتماعات السنوية لمنظمة الدعوة الإسلامية.. كان هو قد وصل قبلنا مع مجموعة من المشاركين –منهم الوالد الشيخ سنان أبو لحوم-.. وكنت مع مجموعة أخرى وصلت عبر (أديس أبابا).. وكان اللقاء المباشر الأول صباحا في قاعة الطعام عندما عرفه عليّ الأستاذ/ عبدالقادر القيري.. وما زلت أذكر تعابير وجهه الودودة ساعتها.. وكأنه يعرفني منذ زمن بعيد.. وربما سألني أحدهم عن (أديس أبابا) –التي كانت حينذاك يحكمها الشيوعيون- فرويت بكلمات سريعة عما شاهدناه من إقبال المسلمين الأثيوبيين على الدين.. وذلك الزحام الشديد الذي اكتظ به الجامع الكبير عندما صلينا فيه الظهر.. والشباب الذين كانوا يمثلون غالبية الحضور.. وحلقات العلم وقراءة القرآن المنتشرة في الجامع.. وكثافة الذين أدوا الفريضة حتى أنني شبهت الحال وكأنه وقت صلاة الجمعة في الجامع الكبير بصنعاء.. ولحظتها التمعت عينا (الشيخ) سعادة بما سمع وعلق بصوته الهادئ: الإسلام منتصر.. منتصر!

ومن ذلك اللقاء المباشر الأول وحتى رحيله.. سنحت لي بعض الفرص للجلوس معه لإجراء حوار صحفي أو في ديوانه.. لكن اللقاء الأكثر عمقا كان مع مذكراته التي قمت بإعداد مواضيع متفرقة منها لعرضها في موقع الشيخ الالكتروني.. وكذلك مع مجموعة الحوارات الصحفية التي أجريت معه خلال 37 عاما ومجموعة من الخطب التي ألقاها في مناسبات متعددة في داخل البلاد وخارجها.. والتي من خلالها تم إعداد كتاب يضم آراءه ومواقفه تجاه القبيلة في اليمن، والإرهاب والعنف والتطرف، والقضية الفلسطينية.

وبكلمة مجملة نقول إن أبرز ما يلفت قارئ هذه الوثائق هو هذا الثبات والوضوح الذي تتسم به مواقف ورؤى الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر –رحمه الله تعالى- رغم اتساع المساحة الزمنية التي أعلن فيها كل تلك المواقف والآراء، وفي كل ذلك كان قادرا على التعبير عن رأيه بحزم ووضوح سواء في مسألة القبيلة وموقعها في الحياة اليمنية والتي كان يواجه به عواصف من نقد القبيلة وتسفيها وتحميلها مسؤولية كل بلاء وسوء في البلاد.. أو في مواقفه القوية دفاعا عن القضية الفلسطينية وإعلان تضامنه في كل محفل مع شعبها والتنديد بالهمجية الصهيونية والدعم الأمريكي الإجرامي.. وأما في مواقفه تجاه الإرهاب والعنف والتطرف واتهام الإسلام والمسلمين بها فقد كانت مواقفه وآراؤه مبدئية وقوية في مواجهة الاتهامات، ومفندة لها دون اعتذار أو لف ودوران.. تماما كما كان موقفه القوي والواضح أثناء أزمة احتلال الكويت الشقيق عام 1990.. فقد كان من القلائل الذين رفعوا الصوت منددين بالاحتلال ومؤكدين على حق الكويتيين في استعادة حقوقهم بأي وسيلة يرونها مناسبة.. وفي هذا السياق يمكن تذكر إجابته عن سؤال حول موقفه من العرض المقدم آنذاك بانسحاب الجيش العراقي من الكويت مقابل انسحاب السوريين من لبنان والصهاينة من الضفة وغزة.. فعلى الرغم من أن كثيرين هللوا للمقترح إلا أنه فنده بسهولة ومنطق خالٍ من الأوهام والعقد.. فقد أعلن رفضه للمقترح لأنه لا يجوز تحميل الأشقاء الكويتيين مسؤولية ما يجري في البلدان الأخرى.. فهم لا ذنب لهم فيما جرى في لبنان أو فلسطين ولا يجوز شرعا وعقلا وإنسانية مقايضة مأساتهم بمآسي الآخرين!

 (4)

أعترف أنه من الصعب الحديث عن جوانب عديدة في حياة (الشيخ) ومواقفه وآراؤه في قضايا ما زلنا نعيشها حتى الآن.. لأن الحديث عنها الآن ربما يثير ردود أفعال غير متوقعة.. ففي كل الأحوال فنحن ما نزال نعيش في عالم ثالث يجعل للزمن حساسية وتبعات أكبر مما يستحقه في كثير من الأحيان!

 (5)

قبل عامين من هذه الأيام سار مئات الآلاف من اليمنيين خلف نعش الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر في جنازة وصفتها حينها بأنها جنازة ملوك ورؤساء دول رغم أنه لم يكن ملكا ولا رئيساً للجمهورية.. لكنه ببساطة كان: الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر..

رحمه الله وتقبله في الصالحين..

* عن الناس

مشاهدة المزيد