رائحـة حرب!
بقلم/ صحيفة المصدر
نشر منذ: 16 سنة و 7 أشهر و 27 يوماً
الجمعة 21 مارس - آذار 2008 07:21 م

ليس مهرجان الحسينية الفلكلوري وحده هو التقليد السنوي. ثمة تقاليد تنشأ في الخفاء، عادة.

ففي كل عام، تقريباً، أصبح الرئيس يمارس شعائر طقسية سياسية نمطية، ومحفوظة عن ظهر قلب. كأن –على سبيل المثال- يتخذ من الحديدة سنوياً منصة لقصف الخصوم.

الحديدة ليست بالمكان الملائم لهذا الدور. بيد أن الرئيس، ومن منظور غامض جداً، ليس له علاقة بالسمات الشخصية للرجل التهامي، يواظب على إقامة شعائر "رمي الجمرات" من المكان ذاته.

في الحديدة، الأجواء ساخنة، لكن يتمتع الناس هناك بسرائر نقية للغاية، وطباع غير عدوانية بالمرة. كما ويتسم الرجل التهامي، فوق كل شيء، بكونه غير مولع بالحرب.

صباح السبت بدا الرئيس في الحسينية فتياً، وممتلئاً. ولئلا يبدو كرجل تماثل للشفاء قبل بضعة أيام، فقد خلع سترته وطوى أكمام قميصه إلى المرفق، حيث لاح أن ساعديه مفتولان وقويان. كان المعنى شديد الوضوح: "ها أنا أكثر قوة مما تتوهمون".

بدأ الفرسان يلعبون. وفي حين أخذت الخيول والهجن تجول في المضمار، كان الرئيس يتأهب بشكل جيد للنزول إلى مضماره.

إنها الحرب يا صاح. ويخرج البطل لابساً لامة القتال والطيلسان وقد انتضى سيفه، كما في أفلام الأساطير.

"نحن شعارنا الوحدة أو الموت، ومن لا يعجبه فليشرب من البحر الأحمر أو البحر العربي"، هتف الرئيس في الجموع.

لطالما رفع هذا الشعار، لكن في ظروف حرب حقيقية. فعندما أحكم الملكيون قبضتهم على صنعاء عام 1968، رفع الجمهوريون، لإلهاب حماسة المقاتلين، شعار "الجمهورية أو الموت".

كانت اللحظة مواتية.

والشعارات ليست في كنهها إلا اختصاراً مكثفاً للقضايا والمثل، التي على المرء أن يستبسل دفاعاً عنها. ومن المعلوم أن الشعارات التي تعلي من شأن الموت وتحتفي به، وتبجله، وتحث عليه، لا تكون مستساغة أخلاقياً، وحتى سياسياً، إلا في ميدان القتال، حيث تتقلص كافة الخيارات ويصير الموت، والدماء، والأشلاء، الخيار رقم (1).

في خضم حرب صيف 94، هتف المقاتلون بالشعار نفسه مع تحوير بسيط: "الوحدة أو الموت".

هل كان الرئيس بحاجة فعلاً إلى التلويح بهذا الشعار؟ الأمر المؤكد أنه ما من قوى غامضة تعد العدة للانقضاض على الوحدة. كلما هنالك أناس عزل يعربون عن غضبهم بالصراخ.

فمن الذي سنستميت في مواجهته. ثم إلى أي حد باتت خيارات الرئيس مستنفدة في تعاطيه مع قضية أقل تعقيداً مما يفكر.

في الواقع، تصلح شعارات الموت للحروب التي تخاض من طرفين متكافئي القوة والعتاد.

وبالنظر إلى القوى التي يشير إليها الشعار، سنجد كم كان الرئيس مخطئاً.

لقد خانته حصافته المعهودة هذه المرة. إنه يعلن الحرب على الفراغ، هذا كل ما في الأمر.

والحق أن الشعار لم يكن ليخضع للتأويل والتمحيص والتحليل، لو لم يكن هو بالذات العنوان الذي اتخذته كلمة صحيفة الجيش "26 سبتمبر"، الخميس الماضي.

كان شعار صحيفة الجيش هذه المعادلة: "الوحدة أو الدم".

 

وإذ اكتست صيغة الصحيفة بالدم، بما هو مفردة مثقلة بالدلالات المقززة والمفزعة، فإن صيغة الرئيس التي يقف بأحد طرفيها الموت عوضاً عن الدم، أقل إثارة لمشاعر الاشمئزاز. فالموت يستحضر إلى الذهن النهاية الطبيعية لأي إنسان، بينما الدم يرتبط تلقائياً بالقتل في أبشع صوره.

غير أن كلا الشعارين مستفزان، وينمان عن المنحى الكارثي الذي آلت إليه الأمور في البلد.

يقول العميد علي السعدي -عضو مجلس تنسيق المتقاعدين- في تعقيبه على ذينك الشعارين: "إن ما قالته صحيفة 26 سبتمبر في كلمتها، لدليل على الاستفزاز الذي تقوم به القوات المسلحة، لقوات الجنوب، وهم منطلقون من سياسة المنتصر والمهزوم".

يتحدث السعدي كما لو كان زعيماً انتهكت سيادة أراضيه عنوة.

وقد أضاف بمرارة رجل مغدور: "لقد تجاهلوا أننا دخلنا في وحدة شراكة، وأن في عمر التاريخ لم تكن هناك وحدة بالقوة".

وأضاف: "تكرار الأخ الرئيس للشعار في الحديدة تأكيد على أن هذا توجه رسمي. وأن مثل هذا التهديد والوعيد لا يأتي بنتائج إيجابية إطلاقاً". كان السعدي يتحدث على الهاتف، عندما التقطت أذناي أصواتاً جماعية تردد هذه الأهزوجة المروعة: "بلادي بلادي بلاد الجنوب".

بالطبع ليس خيار الانفصال موفقاً، ولا معقولاً. وبالمقابل لا يفعل شعار الموت غير إذكاء المزيد من الكراهية والتنافر.

يقول عبده المعطري، وهو رئيس جمعية المتقاعدين في الضالع: "نحن قلنا صدورنا عارية، وسننتصر وصدورنا عارية".

لا يكف الحراك الجنوبي عن تأكيد مساره السلمي عند كل منعطف. وبإزاء شعار "الوحدة أو الموت"، قال السعدي لـ"المصدر": نحن اخترنا الخيار السلمي مهما عملت السلطة، سيكون عملنا سلمياً والعالم يشهد على بطش وطغيان النظام لأبناء الجنوب المسالمين، الذين دخلوا في وحدة شراكة وألغيت هذه الوحدة بالحرب. حيث أُجهضت شراكة الجنوب. ولم يتبق إلا نظام الجمهورية العربية اليمنية".

من الواضح أن الغلو في المواقف بات يتسيد النقاش. ورغم أن في المتناول وفرة من الحلول الواقعية والعملية التي هي كفيلة بالحؤول دون التفكك، الذي ثمنه الدم كما تقول سبتمبر، أو الموت، بحسب تقدير الرئيس، إلا أن الجميع يشد الرحال إلى بؤرة الهلاك.

لا شك أن هناك خطابين فعاليان ومتضادان تماماً. فصباح الخميس كانت صحيفة 26 سبتمبر ترتل هذا المونولوج الهذياني: "الشعب وقيادته يدركان كيف يتم الدفاع عن الوحدة (...) وكيف سيلقن كل الواهمين الهزائم والدروس البليغة في صيانة المصالح الوطنية".

وذهبت إلى القول: "سيموت كل الحاقدين والواهمين من أعداء الوطن ووحدته، وحريته بغيظهم وكمدهم، وخيبتهم، ويكون منتهاهم مقبرة التاريخ".

لكن المعطري يروق له أن يرد على هذا النحو: "هذه وحدتهم هم، نحن قادة عسكريون نعرف فنون القتال العسكري، لكننا رفعنا أيدينا وطالبنا حقوقنا سلمياً".

وعلى العكس من الكل، يطمئن الرئيس شعبه بهذه الطريقة: "البلد موحد، والبلد في أمان، ولن يحدث شيء، وكل ما نراه زوبعة وبقايا حقد من موروثات تشطيرية وإمامية، وتخلف".

قال كل ذلك بعد أن انتهى لتوه من تمزيق الوطن إرباً كشطائر العجين: "إماميين، ومخلفات استعمار، ومدارس طالبان".