الَمخَرج الانيق
بقلم/ فكري قاسم
نشر منذ: 13 سنة و 8 أشهر و 4 أيام
الإثنين 14 مارس - آذار 2011 07:01 م

قليلة هي فرص المحبة التي تتوفر لليمنيين خصوصا وان تاريخنا حافل بالحروب وبالمؤامرات، لكن ما يعتمل في ساحات الاحتجاجات المطالبة برحيل الرئيس صالح الآن تعتبر واحدة من تلك الفرص الثمينة التي ينبغي الاستفادة منها جيدا..

طاقات اليمنيين المكبوتين خرجت إلى النور. امرأة ترقص مع الأناشيد الوطنية في الساحة، والكل يصفق لها، لم يلتفت أحد إلى جسدها بل إلى تعابير وجهها المشرق عطشاً للحياة.

شباب ببناطيلهم الجينز يقفون حراساً للساحات ويطلبون من أي زائر يرتدي "جنبية" أن يضعها في الأمانات ويدخل، ومن دون أي تذمر يفعل الأخير ذلك ويعاود المجيء متسلحاً بابتسامة الرضا لا غير.

القبيلي ترك بندقيته في البلاد، وانظم إلى احتجاجات الشباب السلمية في ساحات التغيير والحرية.

الأصوات المطالبة بالانفصال انضمت إلى الشباب وراحت تطالب - فقط - بإسقاط النظام، ولم يعد أحد يسمع عن تفجير للقاعدة، وحتى شعار "الموت لأمريكا الموت لإسرائيل" تحول إلى "الشعب يريد إسقاط النظام".

تتشكل اللجان في الساحات، ويتسابق الجميع على لجنة النظافة، ويتهرب كل واحد توكل إليه مهمة صندوق جمع التبرعات، ولقد سمعت أحدهم وهو من الشباب العاطلين عن العمل يقول متهرباً من مسؤولية الصندوق: “هذه أموال شعب، شوفوا أي حد غيري،أنا سأعمل في حراسة المكان”.

جيل جديد من الشعراء والفنانين والمسرحيين والرسامين التشكيليين عسكروا في الخيام وأحالوها إلى متنزهات فرح يومي. وثمة خيمة للإبداع الطازج، اكتب تعليقك على هذه الصورة.. ارسم كاريكاتوراً الآن.. اصعد إلى المنصة لتقول قصيدتك.. اهتف وستجد أن الكل آذان صاغية لك.

لم تعد تسمع أحداً يحدثك عن الغربة طلباً للرزق، صاروا على ثقة بأن وطنهم المسروق منهم على وشك أن يعود الآن، وحتى العاطلين عن العمل لم يعودوا يشعرون بأنهم أشياء هامشية في الحياة، بل إن كل واحد منهم صار يشعر بأنه العمود الفقري لاستمرار الحياة في الساحة.

أحمد وصادق، مسؤولا أمن الساحة، كل واحد منهما يشعر أنه أركان حرب المكان، و«فهد» أحد مسؤولي المنصة يشعر أنه المسؤول عن ذائقة الجالسين في ساحة الاحتجاجات، ويبدو كما لو أنه أحمد سعيد في إذاعة صوت العرب.

“هشام” أحد مسؤولي غرفة الصوتيات، فقد صوته وهو يهتف في الجماهير، وأما “مازن” طالب الثانوية العامة تجده يتقدم سرباً مهيباً من الطلبة، ويحدثك عن الثورة بزهو كما لو أنه تشي جيفارا.

خالد” يتنقل في الساحة كالنحلة في مهمة توعية."توفيق"الذي يمشي في الساحة حافياً - رغم أنه يبدو مشاغباً حد إثارة الشكوك حوله - اختاره شباب كثر ممن يطلقون على أنفسهم تسمية شباب 11 فبراير متحدثاً رسمياً باسمهم غير آبهين بحذائه الضائع.

بشرى، طلعت، أكرم، ماجد، وليد، رفيقة، غازي، و...و...و....إلخ، جميعهم يغمرونك بشغفهم للغد الجميل، كما وتشعرك بساطة خطيب الشباب “ضياء”على الدوام بروحانية الساحة، وأتحدث هنا طبعاً عن ساحة الحرية في تعز، حيث أسكن.

لم يعد من السهل إفراغ هذه الأماكن من شخوصها المتواجدين كل يوم. الساحات وطنهم الجديد، دولتهم المدنية التي لطالما حلموا بها. وفي ركن قريب من باحة المكان ثمة خيمة للمحامين، إنها أشبه بقسم شرطة لاستقبال الشكاوى دون أن تدفع فلساً واحداً مقابل الإتيان بغريمك إلى خيمة العدالة.

السلطة التي عطلت طاقات الناس طويلاً، وعملت - بوعي أو دون وعي- على جعل الكل هامشيين، لا تواجه الآن أحزاباً سياسية يمكن ترقيع مسألة تهميشها بكام مقعد في البرلمان، بل تواجه شعباً خرج للتو إلى الحياة. شعباً غزير الطاقات، لكنهم طرحوه طويلاً في دفة الاحتياط.

أعتقد صواباً لو أن أحداً من وزراء الرئيس صالح ذهب متنكراً إلى إحدى ساحات الحرية والتغيير وشاهد كيف أن كل واحد من الهامشيين هناك يمارس حياته بحرية واعتداد بالنفس ويؤدي مهامه وفق قناعاته الذاتية لا وفق مزاج الزعيم، لشعر سريعاً بالحزن على نفسه، وذهب ليخطف المايكرفون ليهتف ملء صوته: الشعب يريد إسقاط النظام.

ما لا يدركه نظام الرئيس صالح أن الهدف الوجداني والذهني للثورة قد تحقق وظهر الإنسان اليمني بشكل مختلف غير ذاك الذي ألفوه وعملوا على تكريسه منذ 3 عقود. والملاحظ طبعاً أنه مع كل يوم يمر في الساحات يزداد الناس أُلفة ومحبة وتتعزز القناعات لديهم بأن رحيل النظام مسألة وقت فقط.

تحتاج اليمن إلى دستور جديد وإلى رئيس جديد وإلى قيادات عسكرية جديدة ومجلس وزراء جديد وبرلمان جديد لا راعي فيه ولا نواب يتم التعامل معهم كما لو أنهم قطيع غنم.

تحتاج اليمن إلى خطاب إعلامي جديد لا مكر فيه ولا تخوين ولا تمجيد لأشخاص.

تحتاج اليمن إلى خطاب سياسي جديد، يمجد قيم الحب والتسامح والعمل.. خطاب يعد الشعب بأن محلات بيع الورد ستكون أكثر من المقابر، وأن المراكز الثقافية ودور عروض السينما والمسرح ستكون أكثر من أقسام الشرطة وأن عيد الشجرة هو اليوم الوطني الأغر.

تحتاج اليمن إلى خطاب ديني جديد يتحدث عن الغد لا عن قريش وبني قينقاع ونواقض الوضوء. تحتاج اليمن إلى مساجد تدعو في كل صلاة إلى محبة الله ومحبة الإنسان خليفة الله في الأرض، ولا تحرض ضد فئة أو فكر أو دين آخر.

تحتاج اليمن إلى رجال دين جُدد لا قداسة لأحد فيهم، القداسة لله وحده والوطن.

تحتاج اليمن إلى حدائق أكثر من المعسكرات وإلى معامل ومصانع أكثر من مقرات الأحزاب.

تحتاج اليمن إلى عدالة جديدة وأفكار جديدة ووجوه جديدة ورؤى جديدة وسياسة تعليمية جديدة وإلى منهج دراسي جديد يقدم حصص الموسيقى والرسم على جدول الضرب وفقه ماقبل 1500 عام.

تحتاج اليمن إلى منهج مدرسي تكون النظافة هي الحصة الأولى في جدول الدروس اليومي. حين يتربى جيل بأكمله على مشاهدة العبث وقذارة الحمامات والفصول والساحات، يكبر عابثاً وتتكسر الذائقة والبلد.

تحتاج اليمن إلى دولة مدنية وأرشيف حياة جديد، ورئيس جديد يعرف جيداً أن ماورد أعلاه - شيئاً مما يمكن اعتباره "المخرج الأنيق" للبلد.

يحتاج أي رئيس في العالم إلى نهاية مشرفة، وأعتقد أن الرئيس صالح واحداً منهم، لكنه يعلم جيداً أن استخدام القوة لن يؤدي بأي حال من الأحوال إلى نيل ذلك.

*عن صحيفة "حديث المدينة" اليمنية.