القاضي العرشي..السجل الحافل والتاريخ النظيف 1-2
بقلم/ د . عبد الوهاب الروحاني
نشر منذ: أسبوعين و 10 ساعات
الأربعاء 30 أكتوبر-تشرين الأول 2024 07:30 م
 

    لازمته أكثر المهام تعقيدا وحيوية قبل الوحدة وبعدها، لغة الأرقام وقياس الابعاد والمسافات كانت طريقته للاستنتاج واتخاذ القرار ثم تحقيق الإنجاز، أول من تولى تنظيم التقسيم الإداري للجمهورية، أول من اجرى الإحصاء الشامل للقرى والعزل والنواحي (بعد الثورة 1962) حينما تولى مهمة ادارة محافظات الجمهورية عام 1967م، قام بحصر أملاك الدولة الثابتة والمنقولة حينما تولى رئاسة مصلحة أملاك وعقارات الدولة في ذات الفترة؛ ذلك هو القاضي عبدالكريم عبدالله العرشي، ومن لا يعرف القاضي العرشي (رحمة الله تغشاه)؟!، عمل بكفاءة ووطنية مشهودة على بناء وتطوير مؤسسات الدولة خلال مسيرة حياته العملية قبل الوحدة وبعدها.

 

    منذ مطلع الستينات تنقل من موقع حكومي لآخر تبعا لحاجة الدولة وليس لحاجته؛ عمل محافظا، ووزيرا للخزانة، والادارة المحلية، ثم رئيسا للجنة المالية والاقتصادية العليا، ومساعدا للرئيسين الحمدي، والغشمي، رأس مجلس الشعب التأسيسي خلال عشر سنوات (1978- 1988)، ثم (بحكم موقعه) تولى رئاسة الجمهورية لفترة انتقالية خاطفة بعد اغتيال الرئيس الغشمي، ليعود مجددا لرئاسة المؤسسة التمثيلية (مجلس الشورى - المنتخب) حتى قيام دولة الوحدة 1990م، وانتخب عضوا بمجلس رئاسة الجمهورية اليمنية بعد توحيد شطري اليمن في 22 مايو 1990م. 

  

  ظلت المهام الصعبة هي ملعب القاضي عبد الكربم العرشي، فبعد عامين من قيام دولة الوحدة عين رئيسا لأول لجنة عليا للانتخابات البرلمانية (ابريل 1993م)، فأدارها بنزاهة وحيادية وكفاءة عالية، وبمجرد أن انهى مهمته فيها ذهب الى البنك المركزي ليسلم ما تبقى في عهدته (عهدة اللجنة) من أموال الى الخزينة العامة، ثم تولى بعدها مباشرة رئاسة اللجنة العليا للتقسيم الاداري للجمهورية اليمنية، وهو أول مشروع إداري لم يحقق فقط الدمج الكلي للمحافظات اليمنية على أسس ومعايير اقتصادية وجغرافية وطنية بعد وحدة الشطرين، وإنما حقق أيضا النجاح والتوافق والقبول عند شركاء العملية السياسية.

 

في لحطة التسابق المجنون:

     كان الوضع السياسي بعد اغتيال الرئيس الحمدي (11 أكتوبر 77) شديد التأزم في الشطر الشمال، وكانت القوى والأحزاب السياسية السرية (المحظورة) في حالة استنفار وحراك واسع؛ فمقتل الحمدي وصعود أحمد الغشمي رئيسا للبلاد فتح الباب واسعا للتململ والتسابق للسيطرة على الوضع في صنعاء، الأمر الذي القى بظلاله على الوضع في الجنوب أيضا؛ ففي الوقت الذي كان فيه ساسة وقبائل الشمال يفكرون في استغلال الموقف لإقصاء سيطرة العسكر و"عودة الحكم المدني"، ذهبت طموحات بعض القيادات السياسية العليا في الجنوب الى التفكير بضرورة اقتناص الفرصة والتحرك لحسم الأمر عسكريا، فكان اغتيال الرئيس الغشمي في مكتبه في صنعاء في 24 يونيو 1978 إثر انفجار حقيبة ملغومة حملها إليه المبعوث الرئاسي من عدن (مهدي أحمد صالح) المشهور بـ"تفاريش"، الذي نفذ عملية انتحارية أودت بحياته وحياة الرئيس الغشمي.

 

    مباشرة بعد اغتيال الرئيس الغشمي، وفي ظروف بالغة التعقيد تولى القاضي عبد الكريم العرشي منصب رئيس الجمهورية على رأس مجلس رئاسة مكون من أربعة أعضاء برئاسته وعضوية علي الشيبة، عبد العزيز عبد الغني، وعلي عبدالله صالح؛ وإذ عادت السلطة من جديد الى يد شخصية مدنية وطنية (مستقلة) بصعود القاضي العرشي، الا أن ذلك لم يكن كافيا، فأن تكون رئيسا في اليمن لابد أن يكون الجيش من ورائك أولا، ولا بد ان تكون مدعوما بالقبيلة، بمعنى أن الوضع لم يكن مُهيئا لخروج السلطة من يد القوات المسلحة، وكما هي العادة في دول العالم الثالث تكون السلطة حيث تكون القوة، والقوة هنا - بالتأكيد – كانت بيد العسكر، حيث السباق المجنون والنار القابلة للاشتعال. 

 

   وبينما كان المقدم علي الشيبة القائد العام وزير الدفاع قاب قوسين أو ادنى من الإمساك بزمام الأمور، برز على السطح اسم مرشح عسكري أقوى للرئاسة يمسك بأطراف اللعبة العسكرية والقبلية هو قائد لواء تعز المقدم على عبدالله صالح، الذي لم يكن من بد أمام القاضي العرشي والشيبة الا التنحي لصالحه، فاختاره مجلس الرئاسة (بإجماع) ليكون مرشح الرئاسة أمام مجلس الشعب التأسيسي، الذي انتخبه في 17يوليو 1978م رئيسا للجمهورية وقائدا عاما للقوات المسلحة بدعم وتاييد من ممثلي اغلب القوى الحزبية الممثلة في المجلس - كما قال لي عبدالرحمن مهيوب القيادي في حزب البعث العربي الاشتراكي- ليعود القاضي العرشي لمواصلة مهمته في المؤسسة التشريعية في صنعاء يحدوه بعد النظر، واجادة ترتيب التوازنات، والالمام بالشأن السياسي والإداري للدولة، وهي صفات عرف بها في أوساط النخب السياسية والثقافية.

 

أكثر المراحل عطاء:

    كانت الفترة التي تولى فيها القاضي العرشي مهام السلطة التشريعية (الشعب التأسيسي، والشورى) من أخصب الدورات التشريعية واكثرها عطاء؛ فاحتفظ مجلس الشعب التأسيسي في ظل رئاسته (1978-1988) بأداء مميز، وتُحسبْ له إنجازات مهمة ضمنها أن المجلس في ظله أقر في ابريل 1978م نصا دستوريا حدد فيه لأول مرة "فترة رئاسة الدولة بخمس سنوات"، وأسهم في تطوير التجربة البرلمانية اليمنية، واستحدث لجنة خاصة "بالانتخابات"، تولت إعداد الوثائق القانونية للانتخابات العامة، التي نتج عنها مجلس الشورى (المنتخب 5 يوليو 1988- 1990)، الذي تنافست علي مقاعده تحت غطاء المؤتمر الشعبي العام قوى واتجاهات سياسية حزبية ومستقلة أوصلت الى المجلس شخصيات سياسية ذات وزن ثقيل على المستويين الشعبي والرسمي.. أضفت على المجلس روح الحيوية والتنوع، وخلقت رأيا معارضا ظهر فيه القاضي العرشي (رئيس المجلس) رجل الدولة الذي أدار التناقضات بجدارة ورفع من أداء وكفاءة المجلس في مجالي الرقابة والتشريع.

 

    ساعد القاضي العرشي في تميز اداء مجلس الشورى وجود كفاءات وطنية وخبرات كبيرة في ذات المجال من أمثال يوسف الشحاري، سعيد الحكيمي، محمد اسماعيل العمراني، محمد المحطوري، عبدالوهاب الانسي، احمد قاسم دهمش، حسين الحبيشي، نعمان المسعودي، أحمد علي المطري، أحمد محمد الكباب، عبد السلام كرمان، عبدالله ناصر الانسي، محمد الرباعي، عبدالسلام العنسي، ناجي علي الاشول، أحمد صالح الرعيني، علي لطف الثور، محمد مشعوف الاسلمي، احمد حسين المروني، ويحيى مصلح، احمد بن علي الاكوع، وآخرين كثيرين من رجالات الدولة الذين ابلوا في العمل الوطني، واسسوا لتجربة برلمانية وادارية تميزت بالإنجاز وتحقيق الاهداف.