درس «طالبان» في فن التعامل مع الأمريكان
بقلم/ محمد كريشان
نشر منذ: 4 سنوات و شهرين و يومين
الأربعاء 16 سبتمبر-أيلول 2020 07:12 م
 

«840 مليار دولار و100 ألف جندي أمريكي و20 سنة من الحرب ضد منظمة «إرهابية» تنتهي بقصة حبّ وغزل وعفا الله عمّا سلف. ترامب يخطب ود طالبان، والدول الكبرى تغازل الحركة (…) هل فهم العرب الدرس؟».

للحقيقة لم أسع لتحري دقة هذه الأرقام التي أوردتها زميلتي خديجة بن قنة في تغريدتها في «تويتر» بقدر ما توقفت عند المفارقة الرهيبة التي تشاء الصدف أن يكشفها لقاء حركة «طالبان» مع وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في الدوحة في بداية الحوار الأفغاني- الأفغاني. هذا الحوار الذي يعوّل عليه الجميع لتحقيق مصالحة وطنية شاملة تضع حدا لعقود من التقاتل بين أبناء الوطن الواحد، زاده تعفنا تدخل قوات أجنبية تستعد جديا لحزم حقائبها والرحيل.

على المسرح السياسي هذه الأيام، ثلاث لقطات إن أنت عرضتها وفكّكت دلالاتها يمكنك أن تخرج بالاستنتاج الرئيسي الذي على الجميع التمعن فيه جليا:

لقطة الدوحة: هنا يجتمع وزير الخارجية الأمريكي برئيس المكتب السياسي لحركة «طالبان» اجتماع بين وزير أعظم قوة في العالم وبين ممثلي حركة اعتبروها قبل عشرين عاما قمة التخلف والإرهاب وشنوا حربا عليها حتى أسقطوا إمارتها من حكم أفغانستان. لم يصافح الملا عبد الغني بردار نائب رئيس «طالبان» بومبيو، ولا تبادل معه الابتسامات، بل إنه سارع حتى للجلوس قبله على كرسيه بمجرد انتهاء الوقوف أمام عدسات الصحافيين. صحيح أن «كورونا» تفسر عدم المصافحة ولكن ليست كورونا وحدها، إنه كذلك «إكراهية» اللقاء بين قوة عظمى أجبرت على التعامل مع حركة حاربتها لسنوات فلم تفلح في هزيمتها.

لقطة رام الله: قيادة فلسطينية في حالة انعقاد دائم تحاول جمع شتات كل القوى والفصائل للتصدي لـ«خيانة القدس والأقصى والقضية الفلسطينية» الذي دشنته أبو ظبي مزهوة، وتبعتها المنامة منقادة، في انتظار من سيكون المقبل على القائمة المفترضة. هنا يجني الفلسطينيون للأسف الشديد نتائج خيار «أوسلو» قبل 27 عاما حين اعتقدوا أن هذا الاتفاق الذي وُقع في حديقة البيت الأبيض في 13 سبتمبر ـ أيلول 1993 سيمهد الطريق لإنهاء الاحتلال وقيام الدولة المستقلة في حين كانت إسرائيل تخطط من خلاله إلى مزيد ابتلاع الأرض وتحويل السلطة إلى مجرد هيئة بلدية تلقي على كاهلها كل الأعباء المعيشية اليومية، زائد العمل على منع أي لجوء للسلاح لمقاومة الاحتلال.

 

أسقطت السلطة البندقية التي رفعها ياسر عرفات بيد، فيما تكفلت واشنطن وسلبية باقي العالم، في إسقاط غصن الزيتون من اليد الأخرى. لقد قال عرفات حين خطب في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974 إنه جاءهم حاملا غصن الزيتون بيد والبندقية بيده الأخرى، طالبا عدم اسقاط غصن الزيتون من يده، مكررا إياها ثلاث مرات.

لقطة واشنطن: هنا يجتمع مع إسرائيل في حفل توقيع «بهيج» من قرر التراجع عن صيغة «الأرض مقابل السلام» و«التطبيع الكامل مقابل السلام الكامل» كما نصت على ذلك مبادرة السلام العربية، راضيا في النهاية بصيغة «السلام مقابل الاستسلام» وليس حتى «السلام مقابل السلام» التي تغنى بها نتنياهو متفاخرا، مدعوما بأسوأ إدارة أمريكية على مر التاريخ في التعامل مع العرب. المؤلم هنا أن هؤلاء الراكضين خلف إرضاء ترامب ونتياهو لم يتوقفوا حتى عن الحديث عن الفلسطينيين، وأحيانا باسمهم، مع أن لا أحد فوضهم ولا هم أهل لذلك. لقد واصل وزير الخارجية الاماراتي مثلا الحديث في واشنطن ليس فقط عن أن الاتفاق مع إسرائيل أوقف الضم في الضفة الغربية، وهو ما كذّبه نتنياهو نفسه مرارا وتكرارا، بل تراه يتبرع كذلك بدعوة القيادة الفلسطينية إلى «اغتنام الفرصة للانخراط في محادثات مثمرة»!!.

قبل عام تقريبا وفي تصريح معبر للغاية لقناة «فوكس نيوز» الأمريكية سئل مايك بومبيو عن المفاوضات التي تجريها واشنطن مع حركة «طالبان» الأفغانية في الدوحة فذكر أننا «سبق أن تفاوضنا مع أناس سيئين، ذلك أن وزارة الخارجية لا يتسنى لها في الغالب اختيار من تريد التفاوض معهم على وجه التحديد بهدف تحقيق نتائج جيدة لأمن الشعب الأمريكي، وفي بعض الأحيان ينتهي بنا المطاف إلى التحدث إلى أناس سيئين بالفعل، وإذا كنا سنوفر الأمن للأمريكيين فإننا مستعدون للتحدث إلى أي شخص».

إذن تتصرف واشنطن وفق هذه الرؤية، إنها مستعدة للحديث مع «السيئين» والتفاهم معهم، وحتى الرضوخ لشروطهم، إن هي أجبرت على ذلك، حفاظا على أمن الأمريكيين وحلفائهم طبعا. وإذا ما حاولنا تفكيك معنى «سيئين» هذه فلن نجد على الأغلب إلا معنى واحد، كأنما بومبيو يعرّفهم كالتالي: هؤلاء الذين يستعملون العنف والسلاح لتحرير أوطانهم وتحقيق أهدافهم السياسية ما يجبرنا في النهاية على التعاطي معهم طالما أنهم مصرون على عدم نبذ هذا النهج، وطالما لم نتمكن نحن من إخضاعهم وهزيمتهم على امتداد عقدين كاملين وبعد كل الخسائر المادية والبشرية التي تكبدناها.

الدرس هنا أوضح من أن يُفسّــر.