مليشيات الحوثي تختطف مواطناً من جنوب اليمن للضغط على شقيقه عاجل .. دعم سعودي لحكومة بن مبارك ووديعة بنكية جديدة كأس الخليج: تأهل عمان والكويت ومغادرة الإمارات وقطر دراسة حديثة تكشف لماذا تهاجم الإنفلونزا الرجال وتكون أقل حدة نحو النساء؟ تعرف على أبرز ثلاث مواجهات نارية في كرة القدم تختتم عام 2024 محمد صلاح يتصدر ترتيب هدافي الدوري الإنجليزي .. قائمة بأشهر هدافي الدوري الإنجليزي مقتل إعلامية لبنانية شهيرة قبيل طلاقها قرار بإقالة قائد المنطقة العسكرية الأولى بحضرموت.. من هو القائد الجديد؟ دولة عربية يختفي الدولار من أسواقها السوداء تركيا تكشف عن العدد المهول للطلاب السوريين الذين تخرجوا من الجامعات التركية
كتبت مرة هنا عن الصور القادمة من تونس، وبعد ذلك جرى الزمن بسرعة مذهلة لينتج صورة بل صوراً أخرى لا تحصى في بلد آخر، بل في البلد الذي كان متوقعاً له أن يكون مسرح الصور الجديدة التي يعمل الزمن بعناية فائقة على انتاجها. نحن- إذن- أمام صور قادمة من مصر هذه المرة. وأما وقد جاءت الصورة من "قاهرة المعز" فإن لها رمزية خاصة، وثراء فريداً. الصورة القادمة من القاهرة طاغية مكتسحة ، متوثبة، التهمت باقي الصور الأخرى القادمة من عدد من المدن والبلدان. وقف العالم ينظر إلى الصور القادمة من "المحروسة". كل العالم بلا استثناء حبس أنفاسه وهو يتأمل تياراً جارفاً من الصور الهادرة التي ضختها الفضائيات على طول الأيام الماضية. انسحبت الصور الأخرى إلى الظل، إلى أطراف الشاشة، تلاشت الصور الباكستانية والعراقية واللبنانية ،حتى الصورة التونسية التي ألهمت كل مخرجي الصور الأخرى، الصورة التونسية وقفت مشدوهة ذاهلة. يا إلهي! ، أيخرج كلُ هذا من تلافيف الكفن المقدس الذي يلتف فيه "البوعزيزي"!
كل الصور الأخرى-إذن- وقفت إجلالاً، لتبقى "الصورة المصرية" متربعة على عرش الشاشة العملاقة بعد أن التهمت هذه الصورة كل صورة أخرى حاولت الظهور إلى جوارها. ولا شك أن تضاؤل الصور الأخرى أمام الصورة القادمة من مصر مفهوم ومنطقي، فالصورة المصرية تتكيء كثيراً على تاريخ من الصور والمشاهد والأحداث، تخرج الصورة من القاهرة والاسكندرية والإسماعيلية والسويس مفعمة بغير قليل من الشجا والرمزية والتاريخ. عندما نرى الصورة المصرية، نرى كثيراً من الصور تنساب علينا من شقوق التاريخ ومراياه. مصر شيء آخر، تفاعلنا مع الصورة المصرية تفاعل مركب، معجون بالحنين والحب والاشفاق. مصر "أم الدنيا" والصورة القادمة منها هي بلا شك "أم الصور" وأم المعاني والدلالات والرموز، دون أن يعني ذلك الغض من جماليات الصور الأخرى في المشهد التونسي الذي صدر عنه شلال الصور التي انهمرت علينا لاحقاً.
المشهد المصري إذن مختلف، وقد وقفت أمام عدد كبير من الصور القادمة من هناك، الصور محيرة، مقلقة، تبعث على أكثر من تساؤل وتحتاج إلى وقفة تأمل طويل. المشهد المصري أكثر تعقيداً بلا ريب، والصورة المصرية متشابكة الألوان، يتداخل فيها المدني بالعسكري، والشعبي بالحزبي والمحلي بالإقليمي بالدولي في تمازج غريب.
وفي غمرة الصور المصرية نشيرإلى الصورة التونسية الأولى التي فجرت شلال الصور في المشهد المصري والعربي بشكل عام، "صورة محمد البوعزيزي" على اعتبار أنها "قداحة" ما تلاها من مشاهد وأحداث في تونس ومصر حتى هذه اللحظة. بالطبع لا توجد في المشهد المصري صورة تشبه صورة "البوعزيزي" في عمق مأساتها ورمزيتها، على الرغم من عدد من الصور التي قدمت من مصر ملتفة في مناديل النار، والتي حاكت الصورة الأصل التي انطلقت من أمام بلدية "سيدي بوزيد" في تونس.
هناك صور مشتركة بين المشهدين التونسي والمصري بالطبع، صورة القبل المتبادلة والحميمية الواضحة بين العسكري (الجيش) والمدني (المتظاهرون)، صورة توحي بالرغبة في التواصل رغم صعوبة التواصل (في الحالة المصرية خاصة). لقد امتازت صورة الدبابة (الأليفة) عن صورة عربة الشرطة (البغيضة)، أجل الدبابة على هيبة هيكلها وضخامة مدفعها صديقة المتطاهرين (إلى الآن على الأقل)، بينما عربة الشرطة المصفحة ترمز إلى النظام، إلى الاستبداد والقهر، إنها بحق رمز التسلط في البلدان التي انقسمت إلى (جيش) صديق وشرطة (عدو)، رغم انتماء الجهازين إلى السلطة ذاتها.
هناك في المشهد المصري المكتظ برمزيته واحتشاده صورة عربة الشرطة وهي تطارد المحتجين العزل في الشوارع من أجل تفريقهم، عربة عمياء بلا عين، قلبها من حديد لا يسمع صراخ الضحايا المدهوسين. الحق أن الشاشات المحتشدة بالصور هذه الأيام ما كانت لتحلم بصورة أكثر إيغالاً في دلالاتها ورمزيتها من صورة كهذه. العربة التي تنطلق بهذا الشكل لا تفرق بين إسفلت الشوارع ولحم الضحايا المهروس، هذه عربة فيها غير قليل من القسوة والبشاعة. هل أرادت تلك العربة أن ترسل رسالة للمحتجين بأنها مصنوعة من الحديد، في الوقت الذي (صُنعوا) هم فيه من اللحم والدم، وأن البقاء للحديد لا لشرائح اللحم البشري المتناثر؟ أم أن هذه العربة كانت لعماها لا ترى عيوناً أخرى ترصدها وتنقلها إلى ملايين المشاهدين القابعين وقد تسمرت قلوبهم على إيقاع شلال الصور الرهيب القادم من البلاد التي رحل عنها جبابرة الأرض جميعاً بمن فيهم فرعون الأكبر، ورحلت معهم عرباتهم وحديدهم؟ لست أدري لماذا تبادر إلى ذهني وأنا أرى العربة العمياء منطلقة تدهس من أمامها في قسوة بالغة، لماذا تداعت إلى ذهني صورة الثور الإسباني الأهوج مع فارق أن الثور ينطلق في "كرنفال اختياري" يدخله الناس برضاهم، بينما "كرنفال العربات" فرض على المحتجين ولا رأي لهم فيه. لقطة أخرى للعربة ذاتها وهي تطلق خرطومها الطويل مثل فيلٍ ضخم خارج من سهوب الأساطير القديمة ، تقذف العربة "حمم الماء" على رؤوس المتظاهرين دون تفريق بين من يقفون "أمام الله" في صلاة ومن يقفون "أمام العربة" في أعمال شغب وفوضى. لست أدري حقيقة ماذا أرادت هذه الصورة أن تقول على وجه الدقة؟ هل اختلطت عليها مشاهد الاحتجاج، بمشاهد العبادة، ولماذا لم تمهل الصفوف حتى تنتهي من شعائرها بدلاً من أن تظهر بمظهر يدينه حتى اللادينيون ممن لهم من التحضر الإنساني نصيب؟ أم أن العربة (إياها) لعماها لم تكن تفرق بين حالة وحالة، وأنها كلنت تتصرف –حينها- وفق ما يمليه عليها ضميرها "الحديدي" الذي لا يعرف إلا لغة الدهس والبطش. على كل فأياً ما تكون دلالة صور العربة فإنها امتداد للمشهد المكتنز بالصور المشحونة بالدم والأسى والفجيعة.
وصورة أخرى لا يمكن المرور دون الوقوف عليها، صورة فلوكولورية عجيبة اجتمعت فيها الخيول والجمال لتآزر العربات العمياء التي انطلقت تدهس وتهاجم وتجري بشكل باعث على الرعب والتقزز في الآن ذاته. الجمال والخيول كائنات أخرجها مخرج شيطاني الذكاء أو الغباء (لا فرق) لتكمل صورة المشهد الكلي ، كأنما خرجت هذه الكائنات التي ركبها "بلطجية" غلاظ القلوب، كأنما خرجت من إحدى روايات الراحل العظيم نجيب محفوظ الذي بشر بثورة ناعمة يقودها "أولاد حارتنا" لتخليص الحارة كلها والحارات المجاورة من قبضة "الفتوات" راكبي الجمال والخيول وعربات الشرطة العمياء، والفتوات الآخرين المختفين وراء العدسات اللاصقة والنظارات الشمسية والبوديغاردز.
صورة أخرى بارزة في المشهد المتوالي لا يمكن تجاهلها، هي لـ"حاكم عابدين" في ظهوره مخاطباً شعب مصر. هل ذكرتني صورة "حاكم عابدين" وهو يلقي خطابه من على شاشة التلفزيون، هل ذكرتني بصورة "حاكم قرطاج" وهو يلقي ذات الخطاب ذات ليلة من على الشاشة نفسها؟ هل "حاكم عابدين" هو "حاكم قرطاج"؟ هلى الصورة هي هي؟ لست أدري لماذا لم تلمح عيني فروقاً بين الصورتين على اختلافهما بالطبع؟ نبرات الصوت، المضامين، الأبعاد الفنية والرمزية للصورتين، الاخراج، الرسائل التي أراد مخرج الصورتين إرسالها، كل ذلك يوحي بحالة من التطابق التام. هل أرادت الصورة المصرية محاكاة الصورة التونسية أم أن القدر وحده هو الذي جمع بين الصورتين في إطار المشهد الفني العربي الذي يعج بالصور الحافلة. ماذا أراد "حاكم عابدين" أن يقول في الصورة؟ هل أراد أن يبعث برسالة إلى أهل "ميدان التحرير" أم أراد أن يبعث برسالة إلى "حاكم البيت الأبيض" أم أراد أن يرسل رسالته إلى "الجار الشرقي" الذي يتوجس خيفة من هبات رياح الخماسين؟ الصورة غريبة تحتوي مزيجاً باعثاً على السخرية، من الضعف والقوة، الهدوء والغضب، العزوف والطمع، الثقة والهلع، الجحود والنكران، الشك واليقين. الحق أن في الصورة رموزاً خطيرة الدلالة عند قراءة هذه الصورة بتأمل عميق. ولسوف تكون هذه الصورة ضمن أكثر الصور اكتنازاً في مشهد الصور العجيب الذي ما فتيء يقذف بحممه على قلب شاشات الفضة فيحيلها إلى كرة من نار ويحيلنا معها إلى أعصاب من نار كذلك.
أما الصورة/المشهد فهي الصورة الكلية التي تأطرت على ميدان التحرير في قلب القاهرة وهو يموج بما زاد على المليون في لوحة فسيفسائية بالغة الإيحاء. انصهرت الأحزاب السياسية في المشهد الكلي، ذاب الطيف الآيديولوجي، اختفت الشعارات الطوباوية، ذابت الفوارق الدينية. وحدها فقط الشعارات المرتبطة بالشباب وهمومه ورؤيته وطموحه، وحدها هذه الشعارات بقيت في الشارع. الشعارات بالعربية الفصحى اصطفت إلى جانب الشعارات العامية والأخرى باللغة الانجليزية، الوسيط اللغوي مختلف والرسالة واحدة في هذا المشهد الكبير الذي يشبه بدون مبالغة يوم الحج في معانيه وأبعاده. في اللوحة الرائعة القادمة من ميدان التحرير يظهر البسطاء عنصراً رئيساً في بناء اللوحة، يلوحون بأيديهم، ويهتفون لعصور الانعتاق من الاستبداد الذي شبهوه بالاستعمار عندما سموا مرحلتهم بـ "الاستقلال الثاني". اللوحة مهيبة جليلة تبعث على الزهو والأمل والبكاء والشجن في الوقت ذاته. ما أجمل أن ندرك أن المشهد العربي لا يزال قادراً على انتاج صورة بطهر وبراءة وجمال وشباب وحيوية وإنسانية اللوحة الخالدة التي رسمها "فنانو عصر النهض العربية" وهم ينشدون التغيير السلمي المنشود، وما أجمل المشهد الذي دخلت فيه صورة المتحف المصري في إطار الصورة الكلية عندما أحاطه الشباب بصدورهم لحمايته من "تجار التواريخ"، في مؤشر بالغ الدلالة على أن الذهاب إلى "المستقبل" يتكيء على "التاريخ" بكل أبعاده ومعانية.
نحن إذن أمام مشهد من أعمق مشاهد تاريخنا الحديث، وما تلك اللمحة إلا خواطر وانطباعات عن مشهد لا شك أنه سوف يعيد رسم الخريطة السياسية والفنية للمنطقة التي شهدت الكثير من المشاهد والتواريخ والأصوات والألوان.
*كاتب يمني مقيم في بريطانيا