|
الانتفاضة السلمية لأبناء الجنوب، هذا هو المسمى الجديد لمجلس تنسيق جمعيات المتقاعدين بحسب التصريحات الأخيرة للعميد ناصر النوبة الرئيس الحالي للمجلس، وبالتأكيد فإن هذا يعد واحداً من المتغيرات المهمة على ساحة النضال السلمي في المحافظات الجنوبية، فالاعتصامات الشعبية والمهرجانات والمسيرات بدأت في التشكل لتأخذ طابع الانتفاضة السلمية التي قد تظهر لاحقاً في صورة ثورة برتقالية، وهو ما بشر به العميد النوبة في قادم الأيام.
السلطة فشلت في دمغ حركة المتقاعدين بالانفصالية ومعاداة الثورة والوحدة ومصالح الوطن رغم أنها حاولت ذلك مراراً، إلا أن خطابها الإعلامي وممارستها الفعلية على الواقع تجاه هؤلاء الناس أدى إلى نتائج عكسية، فالشارع اليمني صار أكثر تعاطفاً مع حركة المتقاعدين , في حين توجهت الاتهامات بالانفصالية والانقلاب على مبادئ الوحدة نحو السلطة ذاتها، فالجمهورية اليمنية عادت تحث الخطى –بحسب المهندس فيصل بن شملان- إلى أوضاع الجمهورية العربية اليمنية بفعل انقلاب حكامها على مفاهيم الحكم الديمقراطي، كما أن الانفصاليين الحقيقيين هم الذين انقلبوا على اتفاقيات الوحدة وأعلنوا الحرب ضد مشروعها الوطني الديمقراطي على حد تعبير الأمين العام السابق للحزب الاشتراكي اليمني الذي يؤكد أن سلطة 7 يوليو ألحقت الخزي والعار بتاريخ هذا الشعب لأنها حولت التحرر الوطني إلى نوع مقيت من الإلحاق يتجسد اليوم –بحسب وصفه- في السياسات التصفوية والانتقامية من دولة الاستقلال وموظفيها مدنيين وعسكريين، ويضيف: إن هذه السلطة ألحقت إساءة بالغة بالوحدة اليمنية عندما أفرغتها من مضامينها الوطنية والديمقراطية وحولتها من مكسب للشعب إلى غطاء لأعمال الفيد ونهب الأراضي لصالح فئة ضئيلة من الفاسدين والمتنفذين.
وفي هذا السياق يقول المهندس محسن باصرة رئيس المكتب التنفيذي للإصلاح بحضرموت: الانفصالي هو الذي يسلب حقي ويسرق ثروتي وينهب أرضي، أما أن أطالب بحقي وحق أبنائي في الثروة والسلطة فهذا حق، وسنطالب بحقوقنا، ونضالنا مستمر حتى تعود الحقوق كاملة غير منقوصة للمواطن والوطن.
* تخبط السلطة
السلطة اليوم صارت في قفص الاتهام، وعليها العمل لتبرئة نفسها والسعي لإقناع الناس بأنها ما زالت باقية على الوحدة، متمسكة بأهدافها ومضامينها، حريصة على مصالح الشعب الذي ما زال ينتظر خير الوحدة ومنافعها، ولا يكون ذلك بأساليب العنف والقمع والإرهاب، وشراء الذمم، ورفض الآخر، وخلق مزيد من الأزمات وفق نظرية فرق تسد، بل يكون عبر إتباع سياسة تصالحيه مع الجميع، وإعادة الحقوق إلى أصحابها، وتكريس مبدأ المواطنة المتساوية بين كل أبناء الوطن الواحد.
لا يكفي طمأنة الناس بأن الوطن بخير وأن الوحدة راسية كجبال شمسان وردفان، ما هي الخطوات العملية على الأرض؟! السلطة تبدو متخبطة في قراءتها للواقع وفي طريقة تعاملها معه، فالحزب الحاكم يغلق كل منافذ الحوار والتفاهم مع أحزاب المعارضة وجمعيات المتقاعدين، ويذهب بشكل منفرد لاتخاذ قرارات مصيرية، أقل ما توصف بها هو أنها تُعيد إنتاج الأزمات التي يحاول العقلاء حلها الآن، فيما نائب الرئيس يجدد الدعوة لأحزاب المشترك للعودة من جديد إلى طاولة الحوار وهو يعلم جيداً أن حزبه الحاكم هو من تنصل عن مبادئ الحوار، وظل يُراوغ ويستنزف الوقت ويتنكب لشركائه بعد كل اتفاقية يوقعها معهم، بيد أن نائب الرئيس لم ينس وهو يدعو أحزاب المشترك إلى طاولة الحوار أن يومئ من طرف خفي أن القوات المسلحة ستكون لهم بالمرصاد في حال ظلوا على عنادهم وأصروا على المضي في برنامجهم!! أما أمين عام الحزب الحاكم فهو يقلل من أهمية تأثير أحزاب المشترك في الشارع, ويرى أنهم غير مؤهلين حالياً لقيادته للأسباب التي يذكرها حيث يقول: إن التأثير التي تحدثه المعارضة لدى الناس سيكون ضئيلاً لسبب بسيط هو أن وعودهم هي أفكار لا جديد فيها منذ نشأت هذه الأحزاب، ومقاصدهم ليست شعبية وإنما مقاصد حزبية بحتة، فضلاً عن أن هذه الأفكار مُتناقضة. هذه قراءة باجمال لمدى تأثير أحزاب المشترك في الشارع، وهي في الواقع قراءة ورؤية تتجاهل تماماً المتغيرات والمستجدات التي طرأت على الساحتين الداخلية والخارجية، والتي كانت أحزاب المشترك أحد عوامل التأثير فيها.
الحزب الحاكم لا يريد الاعتراف بالمشترك كأحد صُناع حاضر اليمن ومستقبله، ولا يريد أن يكون له أي دور حقيقي في النهوض بأوضاع البلاد وانتشالها مما هي فيه، وهو لذلك يرفض كل مشاريع المشترك وتصوراته للخروج بالبلاد من أزماتها، ويعمل جاهداً للوصول بحواراته مع المشترك إلى طريق مسدود ليجد لنفسه المسوغ في أن ينفرد لوحده بتقرير مصير البلاد.
وانطلاقاً من هذا المبدأ يحاول المؤتمر صناعة بدائل أخرى تقبل السير معه وفق ما يريد وتصطف معه ضد أحزاب المشترك، وفي هذا الاتجاه يقول البركاني إن حوار المؤتمر سيستمر –بعد توقف حواره مع المشترك بسبب أزمة تشكيل اللجنة العليا للانتخابات- مع أحزاب التكتل الوطني للمعارضة الموالية للسلطة، هذا من جانب، ومن جانب آخر تنهمك وزارة الشؤون الاجتماعية هذه الأيام في تشكيل لجنة تحضيرية للإعداد والتحضير لتأسيس ما يُسمى بمجلس التنسيق لمنظمات المجتمع المدني على مستوى الجمهورية، وهذا يقودنا لاستنتاج أن السلطة تسعى أولاً لضمان السيطرة على العمل المجتمعي ومن ثم توجيهه لخدمة مصالحها، وثانياً تحاول السلطة صناعة بديل آخر عن منظمات المجتمع المدني الخارجة عن سيطرتها وإنشاء تكتل نقابي مدني (على غرار التكتل الوطني للمعارضة) تستطيع أن تحاوره وتمرر من خلاله ما عجزت عن تمريره مع غيره، والسلطة بهذا الشكل تبحث عن المشروعية والتأييد لمشاريعها السياسية من خلال هذه المسميات التي تشكلها من حولها وتستعيض بها عن مشروعية أحزاب المشترك ومنظمات المجتمع المدني الأخرى.
* مستقبل مجهول
في الوقت الذي تذهب فيه السلطة بعيداً في قراءتها للواقع اليمني وترفض الاعتراف بوجود أزمة حقيقية في البلاد فإن سياسيين ومراقبين ومهتمين يُبدون قلقهم وخوفهم من المصير الغامض والمجهول الذي ينتظر البلاد، فالأستاذ علي سيف حسن رئيس منتدى التنمية السياسية يرى بأن ما يحصل في الجنوب هو ملمح من ملامح اليمن الجديد، ويقول بأن اليمن يمر بنقطة تحول إستراتيجية جداً، عملية الانتقال من اليمن الحالي الذي نحن فيه إلى يمن جديد تختلف فيه الخارطة السياسية وطبيعة الحكم والتركيبة الاجتماعية وطبيعة الاقتصاد، يمن آخر له ملامح مختلفة، ويؤكد أن ما هو موجود في الشارع اليوم هو حراك أعمق بكثير مما تتصوره الأحزاب والأطر السياسية سواءً الحاكمة أو المعارضة، أما الأستاذ عبد الرحمن الجفري –رئيس حزب رابطة أبناء اليمن- فيبدو قلقاً على الأوضاع أكثر من قلق بعض رموز السلطة حيث يقول: لم يعد الوقت يُسعفنا في أي تلكؤ عن إنجاز إصلاحات حقيقية وعميقة، إن كل يوم يمضي وليس كل شهر فيه تأخير فإنه يكلف بلادنا غالياً.
لكن للأسف فإن السلطة لا تشعر بذات القلق –أو هكذا تحاول أن تبدو- من الأوضاع التي تقودنا إليها، وتُظهر لا مبالاتها تجاه كل الأزمات وكل الأطراف المعنية في الداخل!! وعوضاً عن ذلك تُفضل السلطة أن تُيمم وجهها شطر الخارج بحثاً عن حلول لمشاكلها الداخلية.
والسؤال المطروح هنا هو: لماذا تهتم السلطة بالمؤثرات الخارجية وتحسب لها حساباً فيما هي لا تُبدي الاهتمام نفسه بالمؤثرات الداخلية؟! ربما تكون بعضاً من إجابات هذا السؤال لدى الأستاذ محسن باصرة –رئيس فرع الإصلاح بحضرموت- فهو أولاً يؤكد ثقته أن الوحدة اليمنية جاءت برضى خارجي ورُفض الانفصال برضا خارجي، وكذلك ستستمر أو ستُجهض بناء على رغبة خارجية حد وصفه، وثانياً هو يذهب إلى القول بأن الانفصال لن يحصل إلاََّ بمباركة خارجية، ولن تكون دولة مستقلة في الجنوب إلاَّ بمباركة خارجية، ويضيف: وأقصد بالخارج أمريكا، ويرى باصرة أن الحل في خيارين اثنين لا ثالث لهما: خلال 3 أشهر إذا لم يُعالج الوضع بصورة صحيحة وجديدة سيكون القادم أصعب، وما لم تستطع السلطة حل القضية خلال الأشهر القليلة القادمة بصورة حكيمة فالخيار الثاني "أفضل أن ترحل (السلطة) ولا تُصر على انفلات الأمور على الجميع".
* العامل الخارجي
إذاً فالعامل الخارجي مهم جداً في استقرار الوحدة من عدمها، والسلطة وإن كانت تحاول طمأنة الجميع بأن لا مخاطر تتهدد الوحدة إلاَّ أنها لا تستطيع إغفال التأثير الخارجي في مسألة كهذه، ولهذا سارعت مؤخراً إلى فتح قنوات الاتصال بمعارضة الخارج ورحبت بعودتها لممارسة حقوقها السياسية سواءً في صف المعارضة أو السلطة كما جاء على لسان رئيس الوزراء، وخطاب السلطة هذا يتضمن قبول مبدئي منها بعودة رموز المعارضة للمشاركة في الحكم بالصورة التي سيُتفق عليها، وهو من جانب آخر محاولة يائسة من قبلها تهدف إلى استيعاب أو احتواء قادة معارضة الخارج مثلما تم ذلك مع البعض منهم (سالم صالح- الجفري...)، أضف إلى ذلك فإن السلطة ربما تعمد إلى استخدام بعض شخصيات المعارضة التي تمكنت من تسوية أوضاعها في الداخل لمحاورة رموز المعارضة في الخارج ومحاولة استمالتهم بجزء من كعكة السلطة مقابل تخليهم عن أطماعهم الانفصالية ومحاولتهم العودة بالجنوب إلى سابق عهده.
تبدو السلطة الآن في سباق مع الزمن، فإما أن تنجح في إقناع هؤلاء بالتخلي عن مشروعهم والعودة إلى اقتسام السلطة والثروة معها بحسب التنازلات التي ستقدمها لهم، أو ينجح هؤلاء في تأليب قوى الخارج ضد السلطة ويتمكنوا من فرض شروطهم وتحديد شكل الدولة التي يريدون.
وأمام ذلك تتعدد الخيارات المطروحة أمام القوى الخارجية (دولية وإقليمية) في تقرير مصير هذا الجزء من العالم الذي سُمح له بالتوحد في لحظة تاريخية اختزلت فيها مصالح كل الأطراف المعنية في الداخل والخارج، فخيار الانفصال سيخلق وضعاً مضطرباً في اليمن من جميع النواحي الأمنية منها والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا بدوره سيمثل عامل تهديد للمصالح الدولية بما في ذلك شركات النفط العالمية العاملة في اليمن، إلى جانب أن وضعاً سياسياً غير مستقر وغير مُسيطر عليه سيوفر بيئة خصبة لنشاط عناصر القاعدة, أضف إلى ذلك فإن البلاد ستكون عُرضة للاقتتال الداخلي ومحاولة بعض القوى فصل أجزاء منها وفرض سيطرتها عليها وإن ظل علم الدولة المركزية مرفوعاً ولكن لا وجود لهيبته.
من جانب آخر فإن عودة الانفصال سيضاعف من مشاكل بعض دول الجوار التي مازالت تشتكي من حدودها مع اليمن والتي جلبت لها مشاكل متعددة منها: مشاكل تهريب السلاح والمخدرات والأطفال والأفارقة، إلى جانب مشاكل عناصر القاعدة التي تعمل عبر الحدود ، ولا ننسى مشاكل العمالة الوافدة التي لا نهاية لها.
لكن وفي اتجاه آخر قد يذهب البعض إلى القول بأن الانفصال ربما يخدم مصالح القوى الخارجية، فمن جهة ستجد الدول المعنية بإعادة تأهيل اليمن اقتصادياً فرصتها السانحة للتخلي عن المشروع وعن وعودها والتزاماتها المالية لليمن في هذا الجانب، وستجد دول الجوار نفسها معفية هي الأخرى من التزامها الأدبي والمالي بضرورة توفير المناخات الملائمة لدخول اليمن مجلس التعاون الخليجي، إذ سيغدو التشطير أحد أهم موانع حصول اليمن على عضوية المجلس, وبالتالي ستجد تلك الدول مايرفع عنها الحرج تجاه إلحاح اليمن الدائم في دخول المجلس, ومن ناحية فإن إعادة تجزئة اليمن سيضاعف من انقسام الصف العربي وسيزيد في إحباط الشارع, وسوف تتعزز القناعات تبعاً لذلك في أوساطه بأن القرار العربي والواقع العربي مازال رهناً للمشيئة الدولية, الأمر الذي يعني مزيداً من انهيار معنويات الشارع العربي بما يجعله غير قادر على الصمود في مواجهات محتملة ضد الأطماع الخارجية .
لكن الأرجح أن تكون تكلفة إعادة تأهيل اليمن اقتصادياً ودخولها مجلس التعاون أقل بكثير من تكلفة تشطيرها وتركها نهباً للقوى المتصارعة فيها، فما زالت المصالح الدولية والإقليمية في اليمن تفرض بقاءه موحداً إلى أجل غير مسمى، كما أن المجتمع الدولي سيكون غير مستعد للتعامل مع ملفات جديدة في اليمن أكثر مما هي موجودة على الساحة اليوم، خاصة وأن البدائل المتاحة ـ كما يراها الغرب ـ لا تشجع على المضي في اتخاذ قرار مصيري كالانفصال سيفاقم بالتأكيد من أزمات المنطقة وربما يُطيح بكل المصالح الدولية في هذا البلد ويجعلها رهناً لمشيئة قوى ربما لا تكون مستعدة للاعتراف بتلك المصالح فضلاً عن حمايتها.
•مدير تحرير صحيفة (العاصمة)
في الثلاثاء 11 ديسمبر-كانون الأول 2007 01:52:36 ص