مأرب برس - خاص
قدمت الحوثية في أدبياتها المنشورة وعبر القراءات المقدمة منها بين الحين والآخر، رؤية أصولية مخلوطة بنزعة عنصرية ومذهبية متخلفة ومنغلقة على الآخر، والآخر هو كل من يتناقض ولا يتطابق كليا مع أطروحاتها، وهذه القراءة هي التي جعلت من الحوثية حركة متطرفة إرهابية تبيح دم من يختلف معها.
وجعلها لا تقبل التفاوض ولا المساومة، في أطروحاتها الفكرية والسياسية، وأي حوار او مصالحة في قاموسها يعني التسليم بكل مطالبها أو القتال الدائم حتى النصر أو الموت.
ولأن الأصوليات تتشابه فيما بينها عند تعاملها مع الوقع يجعلنا نرى أن الحوثية لا تختلف مطلقا من حيث الآليات العقلية التي تسيرها عن القاعدة، وان كانوا على طرفي نقيض من ناحية مذهبية، ولكن فهمهما للواقع وسلوكهما في التعامل مع الحياة متقارب مع فارق في أسلوب النضال وتحديد الأولويات.
فمثلا تتشابه الحوثية مع القاعدة في آليات التكفير، وتفسير الواقع العربي والإسلامي، ففيما يخص الحكم على الحكام سنجد أن كلتا المنظمتين لديها اعتقاد جازم أن الحاكم كافر، لأنه لا يعلن الحرب على الأعداء الكفار المنتهكين لمصالح الأمة، بل أن الحاكم يقيم علاقات معهم، ويقوم بمواجهتهم بأمر العدو، وعليه فأن ما ينسحب على العدو الأمريكي والصهيوني ينسحب على الحاكم، ومن يقاتل في صف الحاكم فهو صهيوني وأمريكي ودمه مباح، وهذه النظرة هي التي تدفع أعضاء القاعدة والحوثية لقتل المسلمين.
وهذه النتائج الكارثية في تفسير الواقع لكلا الحركتين لا تعتمدان على قراءة تستند على منهجية أو عقائد سياسية قابلة للتغيير بل على عقائد دينية، التنازل عنها يمثل في العقلية الأصولية أعلى مراحل الكفر وهذا يجعل اللقاء مع الحكام غير وارد في البنية الفكرية للأصولية المتطرفة إلا في حالة وحيده وذلك عندما يتم التسليم بكل مقولاتهم وإتباع نهجهم.
والأخطر من ذلك ان الحوثية ترسخ في عقول من يقاتل في صفوفها، ان الجيش في أغلبه يقاتل الحق والمذهب الذي ارتضاه الله لأهل الأرض، والمذهب هنا يمزج بين الزيدية بوجهها المتطرف والاثنى عشرية، وبالتالي فكل من يقاتل في صفوف الجيش ومن يؤيد الجيش من المجتمع هم في حكم الكفار، وهذا ما يجعلهم يسفكون الدماء بغدر وبدم بارد بل ويعتبرون قتل أي مواطن لا يؤمن بما يؤمنون قربة يتقربون بها إلى الله.
وهذا الفكر الماضوي المتخلف والسلوك المقاتل حتى الموت هو نتاج طبيعي لفكر أنتج في جبال ومناطق معزولة عن العصر والحياة، فالفكر الذي تستند عليه الحوثية ظل يعيد إنتاج نفسه عبر مئات السنين، وهذا الفكر ظل متخلفا عن التجديدات التي لحقت بالمذهب الزيدي، بل وحدثت انتكاسة مروعة للمذهب في هذه المنطقة، ومع التطورات المتلاحقة لم يعد هذا الفكر قادر على التعامل مع العصر وحركة الواقع الجمهوري والمشروع الوطني فأصبح بعث الماضي حل وحيد لإثبات الذات وفرضها على الآخر الدولة والمجتمع.
ومن جهة أخرى فان تبني العنف هو نتيجة عجز الحركة عن التفاعل مع المحيط الواسع المحلي والإقليمي والدولي بفكر منتج من القرون الوسطى، فالعنف والتعصب نتاج طبيعي لتناقض الفكر مع الواقع زمانا ومكانا.
مع ملاحظة أن من أسهم في تفجير الحركة ودفعها نحو العنف بتحدي وحزم في المرحلة التاريخية الراهنة، هو تأثر هذا الفكر بالنزعة الأصولية الثورية الخمينية، والدعم القادم من المراجع الشيعية، وكل حركة أصولية مغلقة على ذاتها ومعزولة عن العالم، إذا توفر لها الدعم اللوجستي على المستوى المادي والمعنوي، فأنها تتجه نحو العنف بقوة ودموية وتعمل على محاربة كل من يختلف معها ولا يتطابق كليا مع رؤيتها.
إلى ذلك ما عمق من أصولية الحوثية وضخ فيها الروح الإرهابية في مواجهة الآخر ورفض كل سلطة من خارجها، أن الوعي القبلي في المناطق التي تتواجد فيها الحوثية ما زال خاما، ولم يحدث أي اختراقات لهذا الوعي، واثبت الواقع ان اندماج الوعي الأصولي مع الوعي القبلي ينتج رؤية للإسلام متخلفة ومتعصبة وإرهابية وحاسمة في مواجهة الآخر، وحركة طالبان نموذج مثالي والحوثية هي النموذج الثاني في العالم الإسلامي في عصرنا.
وبمقارنة بسيطة بين حركة طالبان والحوثية سنجد تشابه إلى حد التطابق، مع فارق المذهب طبعا، ولكن نتاج الفكر والسلوك واحد في كلا الحالتين، ولو استطاعت الحوثية الهيمنة على أي جزء من اليمن فان أصولية طلبان ستنتج في اليمن ولكن بصورة مذهبية مختلفة إلا ان النتاج النهائي واحد.
وإذا كان الفكر الأصولي للسلفية الجهادية هو من أسهم في دفع الحركة الطالبانية نحو التفكير برؤية سياسية ثورية شاملة في بعدها المحلي والدولي، وادخل في سلوكها بعض التجديدات كتطور تقنية الحرب، فان الحركة الأصولية الشيعية الثورية الخمينية هي من تفعل فعل القاعدة في الحركة الحوثية.
هذه هي حقيقة الحوثية ويظل السؤال الشقي لماذا وجدت الحوثية من يتعاطف معها في الساحة اليمنية رغم أنها تشكل الخطر الأول للأمن القومي اليمني؟ قد يقول البعض أن المتعاطفين معها همّ قلة، واتفق مع هذا الطرح لكن لنحاول تفسير هذا التعاطف.
لنبدأ بتعاطف بعض القوى الاسلاموية المختلفة مع الحوثية، هذا التعاطف تفسيره أن القوى الإسلاموية المسيسة في نهاية التحليل تحمل نفس الرؤية، ولكنها تلطفها بنكهة عصرية مخادعة، فكلا الحركتين تديران المعارك بنفس الآليات العقلية والحسم الفكري الصارم، وان اختلفتا من حيث التفسيرات المقدمة على مستوى الفكر العقائدي والمذهبي وعلى مستوى فهم القضايا المحلية والدولية وعلى مستوى آليات النضال، ولكن كلتاهما تتعاملان مع السياسية كعقائد دينية ولديهما نزوع منغلق مقاوم رافض متحدي للآخر.
مع ملاحظة ان القوى الأصولية المتناقضة مذهبيا أو مصلحيا عندما تهزم عدوها الكافر سواء كان من دين آخر أو مسلم، فإنها تتقاتل فيما بينها قتال دموي يحرق الأخضر واليابس، وهذا ما حدث بعد ان هزمت القوى الأصولية الشيوعيين في أفغانستان، وما سيحدث في أي مكان آخر من العالم.
فالأصولية لا يمكنها ان تتوافق إلا مع نفسها، مع التأكيد ان الزعماء في اغلب الصراعات تهيمن عليهم المكاسب وباسم الفكر الأصولي يتم سفك دماء الأنصار والأعداء، لذا عندما تتفق القيادات الأصولية فيما بينها على قسمة الغنائم فان الصراع يخبو ولكنه ينفجر بعد حين فالقوى النقية تكتشف اللعبة وتبني حركة متطرفة وتقاتل الجميع والقاعدة مثال بارز.
أما القوى الأصولية التقليدية المتخلفة والمتأثرة بالايدولوجيا الخمينية والمتعاطفة مع الحوثية، فأن مشكلتها أنها تحلم بالهيمنة على الدولة وتريد هزيمة القوى الأصولية الأخرى والقوى الحديثة، فالقوى الحديثة مثلا سواء كانت ذا انتماءات زيدية او شافعية أصبحت أكثر قوة ولديها مشروع وطني متماسك ينطلق من الدولة ويعمل من خلالها وفق رؤية معاصرة، وأصبحت هي صاحبت القول الفصل في اليمن الجمهوري، وهذا دفع القوى التقليدية لبث روح الكراهية لدى شباب المذهب الزيدي وتعمل على ادلجة المذهب الزيدي مجاراة للقوى السنية الاسلاموية، وهي تعمل على تحويل المذهب الى أداة في الصراع على المصالح وتدفع بجزء من الشباب إلى الحركة الحوثية، وهذه القوى هي في أغلبها انتهازية وسعيها محكوم بمصالحها المادية والمعنوية وتنطلق من بعد مذهبي منغلق وعنصرية مقيتة متناقض مع طبيعة الدولة الوطنية الحديثة.
المشكلة العويصة التي لا أفهمها وتفسيرها صعب عندي هو اندفاع بعض قوى الحداثية لدعم الحوثية، ومحاولة تفسير الواقع بما يبرر موقفها المتعاطف هي أشبه بالفذلكة وخداع الذات، فكيفيتعاطف المثقف المتنور مع حركة أصولية متخلفة تهدد مستقبل اليمن، ويمكن القول من باب التعسف أن موقف بعض المثقفين مرهون لرؤية سياسية لا تفقه طبيعة الصراع أو تم خداعهم أو أنهم غلبوا مصالحهم السياسية الآنية، والتفسير المنطقي ان بعض هؤلاء محكومين بالكراهية للحاكم والحقد أعمى والأعمى لا بصيرة له حتى وان حمل في رأسه كل ثقافة العصر.
والخطر العظيم والكاسح في صراع الدولة مع التمرد الأصولي الحوثي، ان للحوثية جناح فكري وسياسي متواجد في المعارضة وفي مفاصل الدولة والمجتمع، هذا الجناح يعتقد انه الأجدر والأحق بقطف ثمار نضال الحوثية، وهذا الجناح على قناعة تامة بان الحركة متخلفة ومنغلقة وأنها غير قادرة على الوصول إلى أهدافها بدونه.
والحوثية في إستراتيجية هذا الجناح أداة ومحرقة لتحقيق طموحاته، هذا الجناح يعمل ليل نهار وبذكاء شديد وقد استطاع هذا الجناح ان يقدم رؤية مختلفة كليا عن طبيعة الحركة وحسن من صورتها وشوه دور القوى المناضلة المتحدية لتمرد الفئة الباغية.
وهذه القوى الفكرية والسياسية عملت وتعمل على بث دعاية سياسية قوية ومنظمة نجحت في إعادة صياغة بعض عقول المثقفين قبل العامة، فقد استطاع الجهاز الإعلامي المنظم وغير المنظم الذي يعمل وسط النخب المثقفة والسياسية ويستخدم آلياتها والذي يعمل وسط الجماهير ويستخدم آلياتها على بث دعاية محترفة كلها تشوه الدولة وتؤكد ان الفساد في الدولة والمؤسسة العسكرية وصراع القوى في الحكم هو من ينتج الحروب والصراعات، والهدف تبرئة الحوثية وتحميل الحاكم والقوى المتناقضة مع الحوثية مذهبيا نتائج الصراع.
وهذا الجناح له امتدادات في الخليج خصوصا في السعودية وفي الغرب وقد استطاع بذكاء شديد تصوير الواقع لصناع القرار في هذه الدول بما يناقض الواقع.
الخطير في الأمر أن هذه الدعاية تأثر بها المشترك وأصبحت سياساته كلها في هذه المشكلة خاضعة كليا لهذه الدعاية حيث تم إعادة برمجته وغسل عقله ولم يعد قادر على تغيير رؤيته إلا بخضه قوية ورغم وصول أصوات الرصاص إلى مسامع قياداته في العاصمة صنعاء إلا أنه مازال خاضع لدعاية الجناح الخفي.