تسعون ثانية قبل منتصف الليل النووي!
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: 6 أشهر و 29 يوماً
الخميس 18 إبريل-نيسان 2024 07:06 م
  

يوم 28 حزيران/يونيو كان شاب صربي يدعى جافريلو جالساً في أحد المقاهي في مدينة سراييفو، إذ مرّ بالقرب منه موكب ولي العهد النمساوي فرانز فرديناند وزوجته، فأطلق عليهما النار ليرديهما قتيلين، لتندلع بعدها الحرب الأقسى والأكثر فظاعة في التاريخ البشري.

ظاهرياً، كان هذا هو سبب الحرب، لكن ذلك كان في الواقع المبرر الذي كانت القوى الكبرى حينها تبحث عنه لتفجير الحرب، لاعتبارات أخرى أبعد من قتل أمير نمساوي.

معاهدة فرساي التي أخضعت الألمان لابتزاز مستمر ودفع تعويضات ضخمة، أشعرتهم بالمهانة، وجعلتهم يوصلون أدولف هتلر إلى السلطة، كمخلص لألمانيا من الإهانة التي لحقت بها في الحرب العالمية الأولى، حيث لم يكن هتلر وحده يتقدم، ولكن الفاشيين كذلك في إيطاليا، مع سيطرة ديكتاتوريات أخرى متعددة، الأمر الذي شحن الأجواء السياسية في أوروبا بالمزيد من التوترات والقلاقل، ناهيك على الغزو الياباني للصين، وما سببه من تسخين للأوضاع في الشرق الأقصى.

ومع الكساد الاقتصادي الذي شهده العالم في ثلاثينيات القرن الماضي، زادت شعبية تلك الديكتاتوريات، وارتفعت معدلات التطرف القومي، وكان لا بد مع وصول الأفق إلى حالة انسداد تام من تفجير الأوضاع، لهدم النظام الدولي السائد، وبناء نظام جديد، وجاءت الحرب التي كان كل طرف يسعى لها كوسيلة للتخلص من وضع راهن بائس، فرضته ظروف جيو-سياسة واقتصادية قاهرة.

واليوم، يرى كثير من المراقبين أن العالم يمر بظروف أشبه ما تكون بالظروف التي كانت سائدة، عشية الحرب العالمية الثانية.

انهار الاتحاد السوفييتي، وهجمت اتجاهات العولمة على العالم، وتم التهام الاقتصاديات الصغيرة، بفتح السوق وحرية التجارة، لتنتهي العولمة إلى أداة إمبريالية جديدة، وشكل من أشكال الهيمنة الناعمة في ثوب اقتصادي، الأمر الذي أدى إلى ردات فعل «وطنية أو قومية» وبرزت الحركات القومية الشعبوية في أوروبا والولايات المتحدة، ووصل القوميون إلى مراكز السلطة في بلدان أوروبية، وما يزال المد القومي مستمر.

أما روسيا، فقد بدأت معركتها لاستعادة الكرامة الوطنية، والخروج من مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، والطموح للعودة بشكل أقوى للمسرح الدولي، بعد أن استغلت السنوات الماضية في عملية إعادة هيكلة الحياة السياسية والاقتصادية، وتسلحت بالتكنولوجيا العسكرية الحديثة، وكشرت عن أنيابها النووية، مصممة على استعادة دور الاتحاد السوفييتي بشكل أو بآخر.

إلى جانب ذلك تقدمت الصين بشكل سريع «لتحتل» الأسواق، وتنافس الولايات المتحدة إن لم تطردها من كثير من الساحات، ولاحت لها فرصة «السيادة الاقتصادية» مع ما لديها من قوة عسكرية مهولة.

وغير بعيد عن الصين يقود الهند اليوم حزب قومي ديني يريد أن يجعل الهند لوناً واحداً، ويبحث لها عن مكان بين القوى الدولية المتنافسة، ناهيك على القوى الإقليمية الأخرى في تركيا وإيران وإسرائيل، مع أوضاع مشابهة في بلدان عدة في أمريكا اللاتينية.

هذا الشد والجذب والتوتر وسباق المصالح يتفجر على شكل حرب مستعرة في أوكرانيا، وانقلابات في أفريقيا، غير بعيدة عن التوترات الدولية بين القوى العظمى، وتحولات سياسية أخرى في أمريكا اللاتينية، ذات علاقة بالجو الدولي العام، دون أن نغفل «الربيع العربي» الأحمر الذي لا يمكن فهمه بمعزل عن المخاض الدولي الطويل، نحو نظام دولي جديد، يهدف ضمن جزئياته إلى «شرق أوسط جديد» تسعى إليه إسرائيل، ومن ورائها الولايات المتحدة.

وتأتي حرب غزة في بعدها العالمي غير بعيدة عن السياقات التي فجرت الحرب في أوكرانيا، ليندفع العالم نحو المزيد من التسخين الذي يراه بعض المراقبين مجرد بروفات صغيرة للحرب العالمية الثالثة، التي قد تكون الحربان العالميتان السابقتان مجرد لعبة إذا ما اندلعت، للقفزة الكبيرة في مستويات التسلح والتقدم التكنولوجي، والتي لا يمكن مقارنتها بما كان قبل نحو قرن من الزمان.

وإذا أضفنا لكل ذلك ما يتعرض له الاقتصاد العالمي اليوم من تقطيع لأوردته، مع أحداث البحر الأحمر، واختلال الأمن البحري، وارتفاع أجور الشحن والتأمين البحري، والسباق المحموم على موارد الطاقة، والبحث عن أسواق جديدة، والتنافس على الفرص، وما يؤدي إليه من خلل في الموازين الاقتصادية العالمية، دون إغفال التغيرات المناخية، والمخاطر المتوالية من تزايد إدخال تطبيقات الذكاء الاصطناعي، والمخاطر السيبرانية المتتالية، كل ذلك يجعلنا اليوم نعيش ظروفاً مشابهة لظروف 1939، بل وأكثر تعقيداً، مع الفروق التي يقتضيها اختلاف الزمان والوسائل.

وهي الظروف التي تصل بالعالم إلى درجة الاحتقان الذي يكون معه الانفجار مخرجاً وفرصة وصياغة جديدة لشكل الخرائط السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبحثاً عن نظام عالمي جديد، ليس أكثر عدلاً، ولكن أكثر انسجاماً مع الوضع المتخيل للعالم بعد الحرب، كما يتصوره من يفجرون الحروب.

كل ذلك جعل «نشرة علماء الذرة» تنقل عقارب «ساعة يوم القيامة» من مائة ثانية قبل منتصف الليل إلى تسعين ثانية قبل منتصف الليل النووي الذي يشير حلوله إلى حدوث الكارثة الكونية، في تحذير واضح من تزايد مخاطر اندلاع الحرب/الكارثة.

ولا يكاد يمر يوم دون تحذير من اقتراب وقوع الكارثة، من خلال مسؤولين روس وغربيين، هم أنفسهم من يجب عليه إدراك اقترابنا من الكارثة، إلا إذا كان هدف كل طرف إخافة الآخر، وبالتالي الاستمرار في لعبة التحذيرات، دون عمل شيء لوقف عقارب الساعة النووية، قبل دخول منتصف الليل، الذي يشار به إلى حلول الظلام النووي الدامس.

وفي ظل التباين بين التحذيرات اللفظية والممارسات على الأرض لا يضمن عدم حدوث خطأ ما، من طرف ما، لسبب ما، ومن ثم وقوع المحذور الذي يحذر منه كل طرف لمجرد ترهيب الطرف المقابل، فيما يبدو، دون أن يحذر نفسه منه بالمقام الأول.

تقول العرب: معظم النار من مستصغر الشرر، ويقول التاريخ إن الحرب العالمية الثالثة اندلعت بسبب عملية اغتيال، أما حرب طروادة المأساوية فكانت بسبب قصة غرام، خطف فيها البطل باريس الملكة هيلين، وقامت حرب استمرت عشر سنوات.

غير أن الأسباب الظاهرية للحروب غالباً ما تكون أقل دواعيها شأناً، لأن الأسباب الحقيقية للحرب لا تقال بشكل علني، لأن إفشاء تلك الأسباب يفضح نوايا وطوايا مفجري الحروب، وصناع الكوارث البشرية، ويجعل أتباعهم أقل حماساً للحرب، ولذا يتعلق لوردات الحروب بأسباب ظاهرية، لإخفاء نواياهم الحقيقية من وراء تفجير الحروب.

كاتب يمني

المصدر.. القدس العربي