البُعد السياسي في الصراع الطائفي ...اليمن أنموذجاً
بقلم/ أ. د/أ.د.أحمد محمد الدغشي
نشر منذ: 16 سنة و 4 أسابيع و يوم واحد
الأربعاء 26 نوفمبر-تشرين الثاني 2008 06:29 ص

يبدو أن المسألة الطائفية غدت مؤرقة لمجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة، بما لا مزيد عليه، بعد أن كانت خفّت وتيرتها في الحقبة السابقة، حتى حلّت بديارنا جحافل الغزوة العسكرية الصليبية الجديدة في العراق عام 1424هـ-2003م، بقيادة سيّدة الإرهاب العالمي الجديد: الولايات المتحدّة الأمريكية، ومن يمثِّل رأس حربتها، من أبناء جلدتنا، سواء أولئك الناطقين بلغة الضاد، أم مِن (الأشقاء) المجاورين الذين لا تزال تغلب عليهم عاطفة الحنين إلى إمبراطورية غابرة، لا حدود لها، إلا حيث تعجز جنودها عن التمدّد! أعني أولئك الذين استنجدوا بالعدو الحضاري –على نحو أو آخر- بغية تخليص قومهم من ديكتاتورية قلّ نظيرها، لاشك أنّها مثّلت بسياساتها الرعناء، أسنح الفرص التاريخية لانقضاض العدو التاريخي على واحدة من (أسمن) فريساته، وفقاً لسنة اجتماعية، كثيراً ما تغيب عن البال ساعة احتدام النَّفَس الطائفي، فحواها أن ( الطغاة دائماً شرط الغزاة)، لتذكّرك بتاريخ ملوك الطوائف في الأندلس، وكأنما التاريخ يعيد نفسه!. 

  و لقد غدا من غير المستغرب أن يؤرّخ لبدء تدشين حملة الصراع الطائفي في أبشع صوره الحديثة على هذا النحو من الضراوة والعُنف؛ بالتزامن مع الحملة الصليبية الجديدة التي قادتها- ولا تزال- الولايات المتحدة، أي مذ وطأت قدما أول جندي أمريكي أرض الرافدين، في 5\2\1424هـ، الموافق 9\4\2003م، وسقوط بغداد. ومن هنا تتبدّى جذور الرابط السياسي في المسألة الطائفية، أيّاً اختلفت صور تطبيقاتها بعد ذلك باختلاف الأقطار والأزمنة.

و ستظل المسألة الطائفية مشكلة ذات أبعاد متعدّدة، ومن المجافاة للمنهجية بل التصادم مع الموضوعية اختزالها في بُعد واحد كالبُعد الديني مثلاً. ومع أن ظاهر المشكلة وشعارها ديني بيد أنها اتخذت أبعاداً مختلفة، عِرقية تارة ، واقتصادية تارة أخرى، لكن سيظل أخطر أبعادها وأنكاه هو البُعد السياسي، الذي ما يلبث أن يتخذ له -في حدّ ذاته- وجوهاً عِدّة، في أحيان كثيرة.

وإذا أدركنا أن البُعد السياسي الذي نقصده هنا هو توظيف الورقة المذهبية لخدمة عائلة أو طبقة معيّنة، في إطار ما يسمّى بالحكم (الثيوقراطي)، الناطق باسم السماء، ليُعدّ الخروج عن ذلك، أو الاختلاف معه بأيّ معنى خروجاً عن الدين ذاته؛ فلا مناص من الإشارة إلى أن اليمن ليست حالة استثنائية في هذا، بيد أنه ليس جديداً ولا مفاجئاً لمن يتتبع جوهر الأهداف الثقافية والفكرية والتربوية لتاريخ الثورة اليمنية في شمال البلاد أن يدرك أن التغلّب على الوضع المذهبي -وفق ذلك التوصيف- كان من أبرز مظاهر البُعد التربوي والفكري لها، ولا سيما في ثورة الأحرار الدستوريين في 1367هـ- 1948م، التي خطّط لها وقادها علماء ومفكّرون أحرار- إلى جانب ضباط وتجار ومشايخ قبليين وسواهم- ، على حين جاءت ثورة 26 سبتمبر 1962م لتقرّر في هدفها الأول " التحرّر من الاستبداد والاستعمار ومخلفاتهما، وإقامة حكم جمهوري عادل، وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات" . 

وإذا كان الاستناد في ذلك عادة ما ينسب إلى التراث الزيدي (نسبة إلى الإمام زيد بن علي، بن الحسين بن علي، بن أبي طالب، ت:122هـ)؛ فإن التحقيق العلمي ليقرّر أنّه لم يثبت شيء من ذلك عن الإمام زيد ذاته، بل ما ثبت عنه واشتهر أنه يرى صحّة ولاية الشيخين : أبي بكر وعمر، والتبرؤ ممن نال منهما أو قدح في خلافتهما، وأن ذلك الموقف منه هو سبب انفصال معظم جيشه عنه، حيث لم يقاتل معه ساعة المواجهة مع جيش هشام بن عبد الملك الأموي (ت:125هـ)، سوى مائتين وثمانية عشر رجلاً، مما جعل زيداً يقول: " سبحان الله،أين الناس؟" فقيل: "هم في المسجد محصورون"( راجع-على سبيل المثال: ابن كثير، البداية والنهاية،جـ9،ص328-329،د.ت،د.ط،د.م:د.ن). وبذلك فلم يؤثر عن زيد اشتراط الوراثة الخالصة في الخلافة، وإن عدّ النسب العلوي شرط أفضلية لا شرط صحّة.

و يستخلص الإمام محمّد أبو زهرة من خلال رأي الإمام زيد في شروط الخليفة -وفقاً لما سبق- " أنه لا يعتبر الخلافة بالوراثة فقط، ولا بالأفضلية، بل يراعي مع هذا مصلحة المسلمين وعدالة الوالي، ويسمي ذلك إمامة المفضول، فإنه يولّى إذا كانت عنده كفاية وعدالة، وكانت مصلحة العامة في تولّيه، وبذلك ينظر إلى المصلحة الحقيقية لا إلى المصلحة المفروضة،ذلك أن الذين قصروا الخلافة في البيت العلوي واعتبروا غيرها باطلة فرضوا المصلحة المطلقة المفروضة في هذه التولية. أمّا الإمام زيد- رضي الله عنه- فإنه ينظر مع العدالة والتقوى إلى المصلحة الحقيقية الواقعة لا المصلحة المفروضة"( محمّد أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية، ص 651، د.ت،د.ط، القاهرة: دار الفكر العربي).

ومع التأكيد على ما تقدّم إلا أن بعض الاجتهادات التي أضافها بعض مجدّدي المذهب وفقهائه بعد وفاة الإمام زيد بما يزيد على القرن والنصف أمثال الإمام الهادي إلى الحق يحي بن الحُسين بن القاسم الرسّي (ت:298هـ) قد ضيّقت شروط الخلافة إلى حدّ اعتبار شرطي البطنين أي الحسن والحسين حصراً في كل من رغب في الدعوة لهذا المنصب. ويعدّ الإمام الهادي مؤسس الدولة الزيدية الأولى في اليمن، مذ قدم إلى اليمن عام 284هـ للمرة الثانية، بعد أن كان قد قدم قبلها للمرة الأولى عام 280هـ، ثم عاد إلى مسقط رأسه بجبل الرسّ بين المدينة المنورة والجهة الشرقية من بدر، حتى استدعي مرة أخرى لإصلاح أوضاع اليمن والأمر بالمعروف النهي عن المنكر ( علي بن عبد الكريم الفضيل شرف الدين، الزيدية: نظرية وتطبيق، ص 144،1405هـ -1985م،الطبعة الأولى، عمّان: جمعية عمال المطابع التعاونية). وقد تمذهب بمذهب الهادي "زيدية اليمن، وظل المذهب الرسمي للحكومة اليمنية أكثر من ألف عام"( محمّد بن إسماعيل العمراني، الزيدية باليمن،ص8،1411هـ-1990م،الطبعة الأولى،صنعاء: مكتبة دار التراث). 

وينص أحد أئمة الهادوية وهو المهدي أحمد بن يحي المرتضى(ت: 840هـ) في أبرز مصدر هادوي معتمد حتى اليوم لدى الزيدية المعاصرة وهو (متن الأزهار) على شرط العلوية والفاطمية بقوله:" ويجب على المسلمين شرعاً نصب إمام مكلّف ذكر حرّ علوي فاطمي ولو عتيقاً لا مدّعِي، سليم الحواس والأطراف ، مجتهد عدل سخيّ، يوضع الحقوق في مواضعها، مدبّر، أكثر رأيه الإصابة، مِقدام، حيث يجوِّز السلامة، لم يتقدّمه مجاب، وطريقها الدعوة، ولا يصحّ إمامان" ( راجع النص في: محمّد بن علي الشوكاني، السيل الجرّار المتدفق على حدائق الأزهار( تحقيق: محمود إبراهيم زايد)، جـ4، 503ص،1405هـ-1985م،الطبعة الأولى الكاملة، بيروت: دار الكتب العلمية).

وقد عدّ الإمام يحي بن حمزة (ت:749هـ)( وهو من أعدل الزيدية وأكثرهم شهرة بالذب عن الصحابة) واحداً من صفات الزيدي حصره الإمامة في الفاطمية حين عرّف الزيدية ونسبها إلى الإمام زيد ثمّ أعقب ذلك بقوله:" فمن كان على عقيدته في الديانة والقول بالمسائل الإلهية، والقول بالحكمة، والاعتراف بالوعد والوعيد، وحصر الإمامة في الفرقة الفاطمية، والنص في الإمامة على الثلاثة الذين هم علي وولداه وأن طريق الإمامة الدعوة فيمن عداهم، فمن كان مقراً في هذه الأصول فهو زيدي "( يحي بن حمزة، الرسالة الوازعة للمعتدين عن سبّ صحابة سيّد المرسلين، ص51، 1411هـ-1990م، الطبعة الأولى، صنعاء: مكتبة دار التراث).

إن أمر الإمامة عند الزيدية يصنّف ضمن أصول الدين، إذ يمثِّل الأصل الخامس، وهو مندرج تحت أصل (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). ويبرّر بعض أبرز علماء الزيدية المعاصرين اهتمام الزيدية بهذا الأصل أكثر من غيرها من المذاهب " لأنه من أهم الواجبات التي ترتكز عليها قواعد الأمن والسلام للفرد والجماعة في الأسرة وفي المجتمع، وتبنى عليها دولة الأمن والإيمان والسلام والحق والعدل والحرّية والمساواة، بكل معانيها الإنسانية السليمة"( علي بن عبد الكريم الفضيل شرف الدين،مرجع سابق، ص 87). كما يقرّر أن الزيدية" تتفق مع كل المذاهب الإسلامية في الشروط المعتبرة في الإمام إلا أنهم في شروط النسب حصروه على البطنين الحسني والحسيني عليهم السلام"( علي بن عبد الكريم الفضيل شرف الدين،مرجع سابق، ص 117).

والحق أن فكرة حصر الحكم في البطنين لدى الشيعة الهادوية الزيدية، أو في اثني عشر إماماً، كما عند الشيعة الجعفرية الإثني عشرية، أو في قبيلة قريش كما عند جمهرة أهل السنة، لا يختلف في مضمونه إلا من حيث التفصيل والنسبة والدرجة.والأصل أن نتعامل مع ذلك التراث بوصفه جزءاً من التاريخ الذي كانت له ملابساته الخاصة، بحيث نستنبط منه العبرة، لا أنّ نُتعبّد به اليوم، وكأنه دين ثابت خالد. والإصرار على استمراره، بدون التفات إلى متغيّرات العصر، وانتفاء عِلل القول بأيّ من تلك الآراء أمر – في اعتقاد الكاتب - يتنافى مع مبدأ الكفاءة، وفق تحقيق مقاصد العدالة والمساواة والحرية، التي جاءت بها الشرائع والديانات- ناهيك عن شرعة الإسلام وملّته-.

ويتساءل بعض المهتمين والمتابعين، عمّا إذا كانت الفتنة المعاصرة اليوم التي قاد جولتها الأولى حسين بدر الدين الحوثي،في 19\6\2004م، وسقط قتيلاً في أثنائها في 8 \9\ 2004م؛ ليقودها من بعده ميدانياً شقيقه عبد الملك، وإعلامياً من الخارج شقيقه الآخر يحي، ذات صلة مباشرة أو غير مباشرة بذلك التراث الفكري والسياسي المنسوب إلى الزيدية؟. والحق أنه ليس من السهل التهوين من شأن تأثير ذلك الميراث الثقيل في مجرى هذا الصراع اليوم. وهو ما يعني أن للبُعد العقائدي( الأيديولوجي) دوره المؤثِّر، سواء كان ذلك في حق الرجل الأول لهذه الجماعة (حسين الحوثي)، أم لوالده بدر الدين الذي قاد العمليات من بعده –وإن كرمز روحي - ، أم لبعض رجالاته الكبار، أم لبعض أتباعهم المقاتلين، الذين تواترت الروايات عنهم في الجولة الأولى –بوجه خاص- بأنهم كانوا يستقبلون الموت وجهاً لوجه، اعتقاداً منهم بالحق المقدّس، والوعد الحق، والتزاماً بالتوجيهات (المقدّسة) لقائدهم الحوثي، وهو ما أعيا لجنة الحوار -بما فيها بعض المرجعيات الزيدية العلياء- التي كُلّفت بمحاولة ثنيهم عن المضي في هذا المسار، وعبثاً حاولت، إذ كان جوابهم الأساس يتلخّص في مقولة:" لا نتراجع إلا إذا أمرنا سِيدي حسين)، في إشارة إلى توجيهات حسين الحوثي. ويلاحظ أن هذه المقولة كانت تتردّد – حسب روايات بعض المشاركين في الحوار- حتى بعد مقتل حسين الحوثي-، تشكّكاً من بعضهم بحقيقة موته. 

  إن توافر قدر من البُعد العقائدي للصراع الطائفي في اليمن لا ينفي قيام بُعد سياسي -على نحو ما سيشير إليه الكاتب لاحقاً-، من جهة، كما لا يعني ربطاً مباشراً بينه وبين المذهب الزيدي المنسوب بيقين إلى تراث الإمام زيد، من جهة أخرى، حيث يتعذّر العثور على نص أو موقف يفيد قيام الإمام زيد بادّعاء حق امتلاك مشروعية خاصة في الحكم، أو زعم حق الحصر للرئاسة والسيادة بعائلة أو ببطن معيّن، على نحو ما نجده بعد ذلك صراحة لدى بعض أتباعه من بعده، كما رأينا الأمر جليّاً في المصادر الهادوية السابقة. وغاية ما يمكن استخلاصه من خروجه على حكم هشام بن عبد الملك ومقاتلته إياه، ما رآه من ظلم وفسق وقهر، وإقصاء له شخصياً ولآل بيت النبوة عامة.

  وقد يرى البعض أن ماجرى ويجري في شأن هذا الصراع لا علاقة له بالمذهب الزيدي أو الهادوي من أيّ وجه، بقدر ما أحدثه التأثّر المباشر للفكر الإثني عشري والمذهب الجعفري، القادم من وراء البحار، بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م، بهدف إيجاد أرضية للتمدّد الشيعي في صورته السياسية.

والحق أنه لابدّ من التفصيل في الأمر، إذ من غير المستبعد قيام ذلك التأثّر بالتراث الزيدي -على نحو غير مباشر-، مع التأكيد على أن لا سند لذلك التأثّر بفكر الإمام زيد العقائدي وفقهه السياسي، لكن بالنظر إلى مثل تلك النصوص الهادوية السابقة، إلى جانب ظهور فرقة تاريخية تمثِّل واحدة من فِرق المذهب الزيدي، تقترب في جوهرها من الفكر السياسي الإثني عشري، من حيث النتيجة والمآل، وتلكم هي فرقة الجارودية ( نسبة إلى أبي الجارود زياد بن أبي زياد، وقال بعضهم: إنه زياد بن المنذر العبدي، ت:150هـ، وقيل 160هـ)، وترى "أن النبي- صلى الله عليه وسلّم- نصّ على علي بن أبي طالب بالوصف لا بالتسمية، فكان هو الإمام من بعده، وأن الناس ضلّوا وكفروا بتركهم الاقتداء به بعد الرسول – صلى الله عليه وسلّم-، ثم الحسن من بعد علي هو الإمام، ثم الحسين هو الإمام من بعد الحسن"( أبو الحسن علي ابن إسماعيل الأشعري، مقالات الإسلاميين، جـ1، ص 133 (تحقيق: محي الدين عبد الحميد)، 1405هـ-1985م،الطبعة الثانية،د،م:د.ن).

ثمّ إذا تذكّرنا أن الثورة الإسلامية في إيران التي أعلنت انتصارها عام 1979م، كانت قد عمدت إلى سياسة تصدير الثورة إلى مناطق عِدّة في العالم الإسلامي، ليتزامن ذلك- بالنسبة لليمن- مع عودة الشيخ مقبل بن هادي الوادعي: (ت:1422هـ-2002م)، رأس الدعوة السلفية في اليمن لتوّه من العربية السعودية، مشحوناً بثقافة أحادية هجومية حادّة ضدّ الزيدية والشيعة والمذهبية بصورة عامة؛ فقد قاد ذلك إلى ردّ فعل زيدي عنيف لمواجهته، بعد أن كانت جبهة المواجهة هذه غير قائمة من الأساس. ويبدو أن للفكر التربوي الذي تمكنّت وزارة التربية والتعليم بمناهجها الدينية التوفيقية المعتدلة، وكذا مناهج المعاهد العلمية وأنشطتها البعيدة عن إثارة الروح المذهبية من زراعته في نفوس الناشئة، أثراً إيجابياً في تحقيق ذلك التصالح والتسامح، إلى أن جاءت استثارة النزعة المذهبية من قبل الدعوة (الوادعية)، فقادت إلى ذلك النزاع الذي عاد جَذِعاً، مما جرّ إلى مناصبة العداء للفكر السنّي بعامة، لدى بعض غلاة المذهبية هناك، بل لقد حدث تراجع محدود لعدد من أبناء الشريحة (الهاشمية)- بوجه خاص- بمن فيهم بعض المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين-،عن المنهج السني، لصالح المذهب الهادوي أو (الجارودي) الذي يمثّل الطبعة الإثني عشرية المعاصرة، وذلك بعد أن كان هؤلاء غادروا ضيق المذهب والانتماء الخاص، إلى سعة الوسطية ورحابة الإسلام !

وعلى خلفية ذلك فليس من المستبعد أن تعود الجذور الأولى المعاصرة لتأسيس الصراع المذهبي، في صورته الجديدة في اليمن– وفي صعدة على نحو أخصّ- ، إلى حرص إيران على تصدير فكرتها الثورية، عقب انتصارها، وهو ما لاقى أرضاً خصبة على خلفية ذلك التراث المذهبي القديم، والاستفزاز الوادعي الحديث، بهدف القضاء على الفكر(الوهابي) الذي يمثِل خصماً مشتركاً لهما معاً.

ولعلّ من الشواهد المتأخرة على ذلك: انتشار الشعار الإيراني الشهير ( الله أكبر: الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، النصر للإسلام ....)، في كبريات المساجد الزيدية في صنعاء وصعدة وسواهما. وأيّاً ما يكن ظاهر الشعار مشروعاً؛ فإنه غدا عَلَماً على سياسة دولة معيّنة، وترديده حرفياً يومئ إلى تبعية سافرة لها، تماماً كما يردّد أتباع الحزبية أو المذهبية شعارات حرفية موحّدة، وكأنها تملى عليهم، أيّاً تباعدت أقطارهم، أو اختلفت أزمنتهم وبيئاتهم، وهذا بيت القصيد .

ومن الشواهد التي تعزّز من سلامة القول بأن للبُعد السياسي تأثيره ماعُرِف من انتماء سياسي لقائدي هذا الاتجاه حسين بدر الدين الحوثي وشقيقه يحي إلى حزب المؤتمر الشعبي الحاكم، والترشّح من قِبل كليهما باسمه وبدعمه، لعضوية مجلس النواب والفوز بذلك عملياً على التوالي. وإذا تذكّرنا ما أعلنه الدكتور رشاد العليمي وزير الداخلية -آنذاك- بعد نهاية الجولة الأولى ومقتل حسين الحوثي، أمام مجلس النواب من كشفه لوثائق تؤكّد أن حسين الحوثي كان يدعو أتباعه إلى الانضمام إلى عضوية المؤتمر الشعبي؛ فإن ذلك ليؤكّد بدوره المدى الذي أثّر به البُعد السياسي على الأحداث من هذه الزاوية. وهنا لا يجوز نسيان ما اشتهر على نطاق واسع، وصرَّح به مسئولون رسميون على أعلى مستوى بعد ذلك، من أنه كان قد تم دعم هذه الجماعة مادياً ومعنوياً،من قِبَل السلطة، قبل أن تندلع العمليات المسلّحة، حين كانت تُعرف باسم جماعة(الشباب المؤمن)، وإن جاء التبرير بعد ذلك بمحاولة تشجيعها على الاعتدال، غير أن مراقبين يعتقدون أن ذلك قد جاء بهدف احتوائها، لمنازلة الجماعات السلفية والحركية الأخرى.

لعلنا أدركنا بعد كل ما تقدّم أن الحالة اليمنية ليست بمنأى عن البُعد السياسي في الصراع الطائفي الذي يدور في أكثر من بُقعة وقطر- مع الأسف-، وإن كان بوسع كاتب هذه السطور أن يصرّح في ختام هذه القراءة أن البُعد السياسي فيها من الندرة وقلّة الشواهد بما لا يمكن مقارنته مع الحالتين العراقية واللبنانية! .

* د. أحمد محمّد الدغشي- أستاذ أصول التربية المشارك- كلية التربية- جامعة صنعاء

addaghashi@yemen.net.ye