|
مأرب برس – خاص
أثارت مقالة الدكتور/ عائض بن عبد الله القرني (نحن العرب قساة جفاة) حراكاً ثقافياً وحوارياً رائعاً في الوسط الاجتماعي والثقافي الخليجي، على مستوى المنتديات ومواقع النت والمجالس والأحاديث، حين نقل في مقاله الآنف الذكر بعض مشاهداته العابرة في دولة فرنسا، إبّان رحلته العلاجية، ثم أكّد فضيلته هذا المقال بمقال رائع آخر نشرته والذي قبله جريدة الشرق الأوسط "إنصاف الغرب لا يعني اتباعه" بتاريخ: الثلاثـاء 24 ربيـع الأول 1429هـ 1 ابريل 2008 العدد 10717، هذان المقالان الرائعان للقرني بمثابة الحجر الذي حرك بعض المياه الراكدة، في بعض الأوساط الثقافية والفكرية العربية، فالمقالان محاولة لقياس درجة المدنية أو البداوة لدى الغرب ولدى العرب العاربة أو المستعربة في الحالة الراهنة، ولا حرج في هذا القدر من الحديث، وأحسب أن ما أشار إليه الشيخ عائض في ثنايا المقال من الإشارة إلى بعض حسنات الشخصية الغربية، هو الأمر الذي أثار بعضاً من المتوجسين خيفة من كل شيء في الغرب حتى بعض صور الخلق الحسن والكلمة اللطيفة والنظرة الحانية، والمعاملة الإنسانية الراقية، التي تفتقدها بعض مؤسساتنا ودوائرنا العربية .
إن أحداً لا يستطيع أن ينكر ما وصل إليه الغرب من مستوى رفيع من الحريات والكرامات للمواطن الغربي في الجملة، وليس أدل على ذلك مما نراه من حماية أو شبه حصانة للرجل الغربي في أي نقطة من العالم، وما يمتاز به من حقوق ومكتسبات، ومن ضمان دستوري وقانوني لحق التعليم والصحة والضمان الاجتماعي والحرية والكرامة الإنسانية.. وإن كانت ليست هذه هي الصورة المثلى التي تنشدها الإنسانية، بل هي أقل بكثير من الحقوق والحريات التي ضمنها وكفلها الإسلام، إلا أن التجربة الغربية تعد أفضل التجارب البشرية المعاصرة في هذا المضمار، فيما يتعلق بحقوق الإنسان الغربي، (والغربي لا غير) على علاتها ومساوئها الكثيرة، ولا يمكن مقارنة هذه التجربة الغربية بالنظام العربي، في حالته البائسة هذه، أو مقارنتها حتى بسلطنات بعض المشيخات أو من يسمون أنفسهم ب"العلماء"، فبينهم وبين هذه الحقوق والحريات الإنسانية فيافي وقفار ومفاوز وبون هائل وصحاري قاحلةً شاسعةً .
إن الشعب الفرنسي والأمريكي وغيرهم من شعوب الغرب هم كسائر شعوب الأرض، لا يزالون يحتفظون ببعض رصيد الفطرة الإنسانية، مع محاولات الآلة الصهيونية تدمير هذا الرصيد وإزالته من خارطة الفكر الأمريكي والغربي والبشري عموماً.
ورؤية الدكتور القرني أجزم أنه لا يريد تعميمها على كل أفراد الشعب الفرنسي، أو الغربي وإنما هي حالات ذكرها من مشاهداته العابرة أثناء سفره للعلاج، وأن الصورة ليست موحشة بالدرجة التي نتصورها عن الغرب، فلا يزال بعض شعوب الغرب تتمتع برصيد إنساني ملحوظ، كشعوب لا حكومات .
غير أن هذه المعاني ليست مقروءة في المقالين، وإن كانت مستوحاة وملحوظة ومقروءة ًبين الأسطر، ومفهومة لكل قارئ متأنٍ، وكان الأولى والأجدر بالشيخ أن يبرز هذه المعاني الهامة في صلب المقال، فليس كل أحد يستطيع أن يعرف أو يفهم مقصوده ومراده، أو يقرأ ما في نفسه، ولو أشار الشيخ - تتمةً للموضوع- إلى الجانب الوحشي والتسلطي أيضاً في الحضارة الغربية، بحيث تكتمل الصورة والرؤية لكان حسناً وكريماً ورائعاً، ونافياً للّبس وموافقا لواقع القوم وحالهم، وهذا أولاً .
ثانياً: ما سبقت الإشارة إليه من ثقافة التسامح ليست هي الثقافة الغربية الأصيلة، التي عليها الجميع، بل تنافس هذه الثقافة وبقوة أيضاً ثقافة العنف والتسلط والاستبداد وحب الهيمنة والاستعلاء، وذلك على كل الصعد الغربية قانونيا وتشريعياً وإدارياً وأمنياً واجتماعياً واقتصاديا، مع سيادة قانون الدموية، كما سيأتي بيانه .
ثالثاً: ما ذكره الدكتور القرني حفظه الله، في مقاله الأخير "إنصاف الغرب لا يعني اتباعه" المشار إليه آنفاً في صدر هذا التعليق، أحسب أن فيه نوع مجافاة للحقائق الشرعية، ومن ذلك قول الشيخ وفقه الله: " أننكِرُ أن الحضارة ـ ولو كانت مادية ـ ترقق الطباع، وهذا أمر معلوم متعارف عليه شرعاً وعقلاً. وفيه حديث حسن يقول «من بدا جفا»" أ هـ .
وهذا كلام غير مسلّم به، ولست أدري كيف اعتمد الشيخ حفظه الله على الحديث الحسن في مواجهة نصوص قرآنية قطعية الثبوت قطعية الدلالة، كقوله تعالى : {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى{6} أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى{7} من سورة العلق .
فالحضارة المادية من مساوئها التي "لا ينكرها أحد" أنها تدعوا للطغيان والعلو والإفساد في الأرض، ما لم تكن على هدىً من الله، فأنىّ لقائل أن يقول إنها ترقق الطباع!!، وأين نحن حتى من قراءة التاريخ القديم والحديث، لأمم بلغت الغاية والذروة في المدنية والحضارة فاستكبرت عن هدي ربها وطغت وأكثرت في الأرض الفساد، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ{6} إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ{7} الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ{8} وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ{9} وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ{10} الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ{11} فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ{12} فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ{13} .
وقال تعالى: { كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ{123} إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ{124} إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ{125} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ{126} وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ{127} أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ{128} وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ{129} وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ{130} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ{131} من سورة الشعراء .
وآيات كثيرة لا تخفى على فضيلة الشيخ في حفظه وذاكرته المباركة، وإن غابت عن مقاله.
ولم يشهد التاريخ البشري طغيانا وفسادا في الأرض كما نراه اليوم من حضارة "الأحاسيس والمشاعر الرقيقة" على حد تعبير الشيخ عائض، غفر الله لنا وله.
ولست أدري كيف غاب عن ذاكرة الشيخ ضحايا الحرب العالمية الأولى والثانية الذين بلغ عددهم أكثر من 80مليون نسمة، ولا تزال البشرية وإلى هذه اللحظة تدفع الثمن باهضاً للمشاعر الرقيقة واللينة والرومانسية الغربية .
فأين إذن رقة المشاعر وسهولتها من الحضارة الغربية حتى في الأفلام والأعمال الفنية، فضلا عن مئات المجازر التي يرتكبها الغرب كل حين، في عالمنا البائس، بلا دم ولا شعور حسن ولا رقيق يا شيخ عائض!! .
نعم يا شيخ عائض إن الحضارة ترقق المشاعر والشعور والأحاسيس إن كانت على هدىً من الله وبرهان حق وإيمان صادق، فتنعكس حينذاك على الواقع الإنساني كله والوجود كله، رحمة وسلاما وأمنا واستقراراً وإخاءً وعدلاً وكرامة وجمالا وحريةً .
أما حضارة الغرب المادية فقد اشتهرت من قبل ومن بعد بالقساوة والغلظة والتدمير والفساد والإفساد، كما قال تعالى : {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}الحديد16.
وإنّما أثنى الله عز وجل على أهل الكتاب ووصفهم بالرحمة والرأفة والشفقة، ممن سمعوا الهدى والنور فرقت لذلك قلوبهم ودمعت أعينهم وأسلمت قلوبهم لله رب العالمين، فآمنوا بالله تعالى راضين خاشعين، كما قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ }المائدة83 .
فغاية ما عند القوم أن لديهم أنظمة وقوانين في المعاملات، يحترمونها ويقدسونها، في شتى شؤون حياتهم، التي يعلمون ظاهرا منها، أما أحاسيسهم المرهفة ومشاعرهم الرقيقة التي تحدث عنها الشيخ، فلم نرها ولم نسمعها، ولسنا نسلّم بهذا الحديث، إلا اللهم من باب المقارنة بالمشاعر العربية البدوية، فسنجد المقارنة حينئذٍ من حيث الغليظ والأغلظ، والشديد والأشد، والقاسي والأقسى، بل البدو والأعراب مع ما هم عليه من شدة وغلظة، إلا أنه لا يمكن مقارنة حالهم بحال جرائم الحضارة والمدنية المعاصرة، ولعل الأرقام المفجعة والإحصائيات المخيفة عن مستوى الجريمة في المجتمع الغربي يؤكد ما نود قوله، ولو أن الشيخ حفظه الله كان يسير ببعض الريالات وصادفه لص في شوارع باريس، وما أكثرهم، لعدل عن هذا القول .
إنه لا يمكن لأحد أن يعمم موقفا وقع مصادفة أو واقعة عين على كل الناس، أو على غالبهم أو أكثرهم، سيما إن شهدت نصوص الوحي وعين الواقع بخلاف ذلك.
رابعاً: لنا أن نشيد بالحضارة الغربية في جانبها المادي والتقني، وأن نشيد كذلك ببعض الجوانب الإنسانية فيها، وبمستوى الحريات الغربية، مع تحفظنا على بعض جوانبها، لا سيما في جانبها الغرائزي، كما أشاد القرآن الكريم ببعض هذه الجوانب الخيرة،، لكن لا يجوز أن نقدمها على أنها هي الثقافة العامة والسائدة لدى الغرب.
خامساً: الوضع الإسلامي على الساحة الإسلامية، بحاجة ماسة إلى العودة إلى أخلاق الإسلام وآدابه وقيمه الربانية، ففيها الكفاية والغنية، والحمد لله رب العالمين، وأما القول بأن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، يلزم منه القول بالفلترة والغربلة لتوافق منهج الله رب العالمين .
سادساً: نعتقد أن الحضارة الغربية تعدّ أرضية خصبة وممتازة للدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ونعتقد كذلك أن الأرضية الغربية هي من أفقر أراضي العالم إلى هدى الله رب العالمين، وإلى الخير الذي جاء به نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، فهذا الطريق من الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة هو أحسن الطرق وأفضلها وأسرعها للتأثير على القرار الغربي وتحويل سياساته العدوانية والجائرة ضد أمتنا .
سابعاً: وأما مقالا الدكتور عائض بن عبد الله القرني حفظه الله فرائعان وجيدان وهامان والحاجة إليهما ماسة، مع الأخذ بالاعتبار بهذه النقاط الشرعية والواقعية، سائلا الله عز وجل لشيخنا حفظه الله التوفيق والسداد، ولأمتنا الخير والبر والإفادة من كل خير ومنفعة، وما دعاني أن أدوّن هذه الكلمات المتواضعة من طويلب علم، إلا أن فضيلة الشيخ نحسبه والله حسيبه من أئمة الخير والهداية، وزلة العالِم زلة عالَم، ولا أحسب أيضا أن ثمة زلةً للشيخ، لكن البيان والإيضاح مطلوب، والنصيحة واجبة لأئمة المسلمين وعامتهم، وهي عبادة نتعبد الله بها، والحمد لله رب العالمين.
في الخميس 10 إبريل-نيسان 2008 09:05:50 م