اليساريون الجدد؟ ومن المسؤول؟ .
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: 17 سنة و 7 أشهر و يوم واحد
الأربعاء 04 إبريل-نيسان 2007 02:16 م

مأرب برس – خاص

مما يفرح القلب ، ويشرح الصدر ، ويسر الخاطر ، ويبعث في النفس الأمل والاستبشار ، تحول بعض الحركات اليسارية والليبرالية – في بعض البلدان - إلى حركات مراجعة ونقد ذاتي ، بل وتراجعات في كثير من المواقف والأفكار والشعارات ، التي عفى عليها الزمن ، إضافة إلى حالة التقارب والتفاهم الطيب والمقبول مع بعض التيارات الإسلامية الأخرى الواعية والناضجة على الساحة الوطنية والعربية والإسلامية ، وهو الأمر المرفوض قديماً لدى هذه التيارات ، بل وربما كان غير قابل للنقاش فيما مضى ، هذا التحول الإيجابي أمر يسر الناظرين .

 ومما يزيد من نسائم الأمل والتفاؤل والاستبشار أن هذه التيارات التي كانت توصم من قبل بالاتجاه اليساري الم ناوئ للهوية والتراث والفكر الإسلامي أن بعضها لم يعد كذلك حالياً ، في الجملة ، بل تبنت في مشروعاتها ولوائحها الإسلام عقيدة وشريعة ، وكان هذا يعد من قبل ضرباً من ضروب الخيال ، ولعل من أسباب هذه التراجعات المشكورة التي سبق إليها اليساريون غيرهم حتى من بعض الإسلاميين الذين هم هم قبل ستين أو سبعين عاماً ، حيث لم نسمع أنّ لديهم أي مراجعات أو ثمة تطويراً أو تحسيناً في الأداء والآليات ، والمناهج والوسائل .

 لعل من أسباب هذه المراجعات لدى التيار اليساري والليبرالي انكشاف عورة الغربنة واللبرله بشكل واضح بعد اجتياح أمريكا للعراق وأفغانستان ، والاستعدادت الجارية على قدم وساق نحو سوريا وإيران ، كخيار ممكن ، وما تتابع أيضاً من أحداث وتداعيات عقب الحادي عشر من سبتمبر ، تتعلق بالحقوق والحريات التي كانت تدندن حولها حضارة الغرب ، كل هذا كشف عن حقيقة الشعارات الغربية الزائفة .

 ولعله أيضاً بسب زخم الصحوة الإسلامية المباركة التي أثبتت وجودها في كل المجالات والميادين السياسية والإعلامية والاقتصادية والفكرية ، بشكل رائع ومشرف ، كما في النموذج التركي عبر حزب العدالة والتنمية ، والنموذج اليمني الجدير بالإشادة والإطراء الذي تجاوز الخطب المنبرية العصماء إلى ميادين الاقتصاد والتعليم والسياسة وتوحيد الجبهة الداخلية اليمنية حول مشروع الإصلاح اليمني الشامل عبر النضال السلمي المشروع ، وكما في السودان الذي يقف كالطود العظيم في وجه المشروع الأمريكي الطامع في دارفور حيث المخزون العالمي من الطاقة النووية ، وعبر مشاريع المقاومة الفذة والمناورة السياسية للإسلاميين في فلسطين ، وعبر العديد من مشاريع النهضة والحياة في الأمة .

ولعلّ من أسباب هذه المراجعات كذلك تحطم القوى والكيانات التي كانت هي الداعمة والراعية لهذه الاتجاهات كالإمبراطورية الشيوعية ، و ما تلاها من سقوط بعض الأنظمة العربية ، وإن كانت هذه بدورها تبنت خطاً جديداً آخر ، في الغربنة ، إلا أنها بدأت تتعاطى مع كثير من القضايا الإسلامية والوطنية بشكل إيجابي إلى حد ما ، كما هو مشاهد من خلال بعض القضايا كما هو الشأن في فلسطين ولبنان والبحرين واليمن وغيرها .

ولعل من أسباب هذه المراجعات القضايا المصيرية الكبرى التي وضعت الأمة كلها بمختلف توجهاتها في وجه العدو المحتل ، شاءت أم أبت ، بالإضافة إلى إفلاس تلكم الشعارات في دنيا الواقع .

لعل هذه العوامل وغيرها أسهمت في هذه المراجعات والتراجعات في مسيرة بعض التيارات التي كانت بالأمس تقف في وجه الأمة وهويتها وحضارتها وتراثها ، وبدأت تقترب أو تكاد تحاول مجدداً العودة إلى قواعدها وأصولها سالمة ، بعد طول قطيعة وجفاء .

فيما نعيب بحق على بعض الإسلاميين - لا سيما التيارات السلفية - أنهم وبعد عقود من وجودهم المتشظي على الساحة إلا أن شيئا من المراجعات لم يحدث ، إلا نادراً ، لا يكاد يذكر ، فلا يزال الخطاب الإعلامي والدعوي تجاه جملة من القضايا كما هو دون مراجعة أو تحسين ، وبات من المألوف أن تسمع ربما آلاف الناس يستمعون إلى خطبة تكفّر الساحر والمشعوذ وتحذر من هذه الجريمة الشنعاء ، فيما لا يوجد في البلدة ساحر أو مشعوذ واحد ، في الوقت الذي فيه المنطقة غارقة في مشكلاتها الاقتصادية والأخلاقية ، ويصل ضحايا حوادث المرور فقط سنوياً إلى الآلاف ، سوى أعداد المعاقين والعاطلين عن العمل ، لكنها تغض الطرف عن كل هذه المشكلات الحاضرة ، لتناقش قضايا ومشكلات غائبة ، أو لا وجود لها ، وإن كان الخطاب الوقائي مطلوب أيضاً ، لكنه ليس بهذه الصورة ، ولا على هذا النحو .

ونحن وإن كنا هنا نشيد بحق بمراجعات بعض التيارات اليسارية على اختلاف في درجات هذه المراجعات من بلد إلى بلد ، إلا أن هناك تيارات يسارية ظهرت ، من جديد ، وبصورة ملفتة ، يمكن تسميتهم ب"اليساريون الجدد" ، حيث يبدوا أن كثيراً من الشعارات اليسارية التي كنا نسمعها أو نقرأ عنها في الخمسينات والستينات من القرن الماضي بدأت تتلاشى ، ويستحي أصحابها من ذكراها ، وبات محلها سفْر النوادر والذكريات التاريخية ، إلا أن هناك كما قلت يساريون جددا بدأوا في محاولات بائسة لإحياء وانتعاش تلكم الدعوات العتيقة ، من جديد ، من بعض الكتّاب والكتابات للأسف بعضها إسلامي ، كالنيل من الحجاب الإسلامي واللحية وغير ذلك من المظاهر الإسلامية التي فرضت نفسها على الجامعات والمؤسسات بل والشارع العام ، أو النيل من العلماء ، والمناداة صباح مساء بحقوق المرأة ، في الوقت الذي دخلت فيه المرأة إلى كل مكان في مؤسسات المجتمع ، وباتت أعداد النساء في المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية والوظيفية أكثر من أعداد الرجال ، مما يبعث على طرح العديد من علامات الاستفهام والتعجب والحيرة والدهشة والاستغراب ، وأي حقوق بقيت إذن ينادى بها ، بعد كل هذا ؟؟!! .

على المستوى السياسي رأينا أقلاماً مرتعشة خائرة مهزومة تفرش البساط والنمارق وتزرع الورود والرياحين للمحتل الغاصب ، وتنال من قوى التحرر والمقاومة ، وتمهد للمشروع الأمريكي في المنطقة ، وما أعلنته المتحدثة باسم البيت الأبيض أو الخارجية الإسرائيلية تكون هذه الأقلام قد سبق لها وأن نشرته وروجت له على أوسع نطاق .

إننا نود أن نقف وقفة مصارحة مع ذوات أنفسنا ، لنتساءل: ما أسباب وجود كل هذه الجيوش في الأمة ، التي ربما تفوق جيوش المحتل ، من السبب؟ ، وكيف لها أن ظهرت بعد أن خَبت وانقرضت ، إلى حد ملحوظ!!.

 إن ظهور هذه التيارات التي توجه الحربة إلى صدر الأمة بكل تأكيد أسهمت الأيادي الاستعمارية في ظهورها وانتعاشها ، ولكن لنتساءل وبصراحة هل كان لنا دور نحن أيضاً في وجودها ، على فضائياتنا وصحفنا ومؤسساتنا وجامعاتنا ومنتدياتنا ومدارسنا..؟!

 الجواب: نعم .

إن ثمة خطاباً إسلامياً متشدداً أسهم في حياة هذه الأفكار الظلامية والجيوش الجرارة ، فلكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة معارض له في الاتجاه .

إن بعض دعاة الإسلام الذي لا نتهم إخلاصهم الكبير للإسلام ، وإنما نتهم قصور أفهامهم في دعوة الأمة وشبابها ونسائها وحكامها إلى الإسلام ، بل وأنفسنا أيضاً إلى عبير الإسلام الحق بلا تشنجات أو شطحات اجتهادية أو زلل .

إن البعض تحول إلى قاض ونسي أن الوقت ليس وقت قضاء بقدر ما هو وقت دعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، بالسلوك والعمل والإنتاج والإيجابية ، والعطاء والبذل والتضحية والصبر والأناة والحلم والرحمة ، والإعذار ، والتأليف .

إن بعضاً من دعاة الإسلام أسهم إسهاماً كبيراً في الحرب على الإسلام وحرب الدعاة والمصلحين من حيث لا يشعر ، من خلال بعض الاجتهادات ، والأقضية والحكومات التي يصدرها دونما مراعاة لمقتضى الحال ، ربما لعجزه عن القيام بدور التربية والبناء والاحتواء ، وهو الأسلوب الأصعب في المعالجة ، فيلجأ إلى الأسلوب الأسهل والأيسر له وهو الخطب وتوزيع الأحكام ، وهي وإن كانت معالجة في بعض الأحيان ، لكنها ليست معالجة جذرية شاملة .

لا أريد هنا أن أذكّر ببعض تلك الاجتهادات ، التي أسهمت في إحياء الموات اليساري ، فلا ينبغي تتبع عثرات العلماء وزلاتهم ، إنما الأولى أن تطوى ولا تروى ، إلا اللهم من قبيل التحذير منها ، لا سيما إن أضحت مسلمات شرعية ، فحينذاك تتحول هذه الاجتهادات إلى منكرات يجب تغييرها .

من ذلك خوض المعارك الكلامية في الخلافيات الفقهية التي كانت منذ عهد النبوة وإلى يومنا ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ولعل الشارع الحكيم قصدها قصداً ، للتوسعة على الأمة ورفع الحرج عنها .

 كالحجاب بمعنى تغطية كل أجزاء المرأة بما فيه الوجه والكفين ، واعتباره القول الحق الذي لا حق سواه ، قولاً واحداً ، فيما الخلاف قديم منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم منذ وقفت تلك المرأة سفعاء الخدين بين يدي المصطفى الكريم في حجة الوداع وإلى يومنا ، ولن يحسمه شيء حتى سيف السلطان ، فضلاً عن سيف المفتي .

ولعمري هل لو أسلمت كوندليزا رايس أو نوال السعداوي هل سيفرض عليها الحجاب بمعنى تغطية الوجه والكفين ؟!! مع الشعر الأبيض والتجاعيد الظاهرة التي أزالت كل أسباب للفتنة.

إن إلزام الأمة بالاجتهاد الفقهي الذي فيه مجال للخلاف مما ينفّر عن الملة ويبعد عن الدعوة .

قل هذا كذلك في القول والحرص الشديد على بعض المباحات التي لا تتجاوز في أحسن أحوالها الندب ، حيث ينقلها البعض إلى درجة الفرض المتعين ، كلبس العمامة ، ولعلي أشير إلى هذه النقطة التي أثارت جدلا كبيراً في بعض الأوساط العلمية ، ولا مانع أن أدلو بدلوي فيها :

العمامة لم يرد فيها نص لا من كتاب ولا من سنة ، إلا اللهم الحديث الموضوع "تيجان أمتي العمائم " وقد وردت من أفعال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، على أنها من الأفعال الجبليّة التي لا تتعدى الرغائب ، التي لا إلزام فيها ، وقد تلقت الأمة العمامة كمظهر إسلامي عرفي لا شرعي .

 فنقْل هذه الحقيقة العرفية إلى الحقيقة الشرعية ، ثم نقلها إلى درجة الإلزام الشرعي والفريضة اللازمة ، حتى باسم الإلزام الإداري ، نوع غلو مقيت في الدين ، وذلك كأن تصبح العمامة والثوب العربي والجبّة شرطاً للتوظيف والعمل ، لدى مؤسسة ماّ ، ثم يسترسل في شكل العمامة وبروازها فلا بد أن تكون بقدر معلوم ووزن معلوم وشكل معلوم ، وكيل معلوم ، كشرط للتوظيف ، والاسترزاق ، مما أحسب أنه نوع مجافاة للدليل الشرعي وخروج عن المنهج السلفي الوسطي المعتدل ، تنبذه حتى أجواء الطقس وتقلبات المناخ ، وهبات النسيم ، ويرفضه الهواء العليل .

لا أود الاسترسال في بعض الاجتهادات والرؤى التي بقدر ما تنافي روح الإسلام ومنهجيته ، تنافي أيضاً فقه الدعوة ومتطلباتها ، لا سيما في عالم غربة الأمة وجهلها وبعدها عن دينها .

وأختم هذا المقال لأطرح تساؤلاً على القارئ وهو: السلفيون واليساريون الجدد من صنع الآخر؟! لعل القارئ المتأني لما ورد في الأسطر السابقة ، يدرك الجواب بسهولة .

والله تعالى من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل ,,

Moafa12@hotmail.com