الكعبة لن تُشرعِن للجريمة الدولية..
بقلم/ د عبدالله الحاضري
نشر منذ: 11 سنة و شهرين و 7 أيام
السبت 19 أكتوبر-تشرين الأول 2013 06:05 م

العقل البشري يلتهُم نفسه حين لا يجدُ منتجاته الفكرية المُتعلقة بالكون والأشياء والمُجتمع ماثلة أمامه كواقع حي أو كتجربة مُعاشه –أو على أقل تقدير هكذا يجب تكون- وتلك هي مأساة الشعوب التي تصل إلى ذروة الإنتاج الحضاري وتتخلى عن خوض تجربة منتجات عقلها الكلي الذي أفرزته بعد عقود من الإنتاج الثقافي , وأجدني مُنساقا بالضرورة للإستشهاد بمصير بعض حضارات ما قبل التاريخ وما بعده التي أنتجت بعبقرية أصول الفلسفة الإنسانية للوجود لكن إشكالية هذا الإنتاج أنه ضَل حبيس ذاته وأسير أوراقه ولم ينعكس إيجاباً على الواقع الإنساني أو يتفاعل معه فلقد ضلت أفكار أرسطو وأفلاطون مثلاً حبيسةَ العقل مُفتقدةً لآلية إسقاطها كإيقاع قابل للحياة بشروطها فبدأ هذا العقل يلتهُم ذاته حتَّى سقط في الأخير بسقوط الحضارة التي أنتجته ويمكن القول أنَّ الحضارة الإسلامية أنتجت أفكار الفقه وقننت للعقل أصول إنتاجه فهي أمة موصوفه حضارياً بأنها أمةَ فقه لكن الفقه ضَل حبيس أوراقه وضل هذا المنتج بعيد عن إيقاعات الحياة ومتغيراتها حتى بدأ يلتهم نفسه في حيِّز العقل وسَقط في الأخير بسقوط الحضارة التي أنتجتهُ تماماً كسابقاتها , وما من فكرةٍ بشرية لا تحتك بالواقع وتصارعه إلا والتهمها عقلها بتكرار إنتاجها في ذاته وما من فكرةٍ تحتَّكُ بالواقع إلا وأضاف الواقع لرصيدها النظري رصيد تجربة يجنبها إستغراق ذاتها في حيِّز العقل; فحضارات ما قبل التاريخ وما بعد التاريخ يتقرر مصيرها بضبط مدى قدرتها على إنتاج آليات تُترجم أفكارها النظرية إلى واقع حَي لصالح البشرية , ومن هنا يمكن القول : أن الأمم المتحدة كَشكل وآلية تنفيذية أنيط بها تحقيق مفهوم العدل بين الشعوب هي أرقى فكرة أنتجتها الحضارات الإنسانية المُتعاقبة ولكن هل كانت ستسمح قوى الشَر أن ترى هذه الفكرة النور؟! وهل يمكن للإنسانية المُعذبة أن تعيش فكرة العدل ؟!

إن أبسط حدود فكرة العدل هي حق الوجود للإنسان في الأرض وأنه ليسَ من حق أي كائن سوي أو ممسوخ أن يُقرر من تلقاء نفسه طرد أخوه الإنسان من الأرض لمُجرد الإختلاف أو تضارب المصالح معه مُستخدماً أدوات القوة ووسائط القتل المُروعة هذا هو أبسط مفهوم لحدود الدنيا لمفهوم العدل المُناط بالأمم المتحدة تحقيقه وتتويج المسيرة التاريخية للبشرية بتفعيله أولسنا موصوفين كجيل كوكبي في القرن الواحد والعشرين بأننا حضارة قانون وعدل ؟! ولتسهيل حماية الإنسان أنتجت منظومة الأمم مجلس الأمن الدولي ومنحته سلطات واسعه بما في ذلك إستخدام القوة لحماية الإنسان والإنسانية غير أنَّ هذه الفكرة الجميلة ما لبثت أن تحولت إلى كابوس مزعج يؤرَّق البشرية وأصبحت مُجرد أبواق صوتية تشرعِن أفعال القوى العُظمى المُخزية وتحمي مصالحها إنها ببساطه ذاك المُفتي العملاق لهذه القوى وتحول الأمن في ظلها إلى خوف يُهدد كل من يقف أمام مصالحها وبذلك فُرِّغت هذه الفكرة من مُحتواها وانقلبت إلى ضدها فبدلاً من العدل ها هي تُشرعِن للجور وبدلاً من حماية الإنسان ها هي تُشرعِن لقتل الإنسان..!

أبداً لم أكن أتصور أو يدور بخلدي أن ينجو بشَّار من جريمة إبادة شعبه بالكيماوي..! لم يكن يدور بخلدي أن تقف المُنظمة وآلياتها مكتوفة الأيدي أمام أشلاء ودماء اطفال سوريا وتصُم آذانها عن صُراخهم وأنَّات أمهاتهم وآبائهم..! لقد كانت مناظر الإبادة مُقززه ويَهتزُّ له الوجدان الإنساني ولا يمكن أن تصمُد لهولها حتَّى كُتل الحجارة الصماء..! ولولا قصور إدراكنا البشري لقُلت أن العناصر الكيميائية لجدول مندليف تلعن ذاك اليوم الذي تعرَّف عليها فيه الإنسان لكن مجلس الأمن لم تهتز له شعره ولم تُداعب جفونه حتى خطوط أوباما الحمراء ولم يأبه لكل تلك الالآم ..!

إذاً ماذا تفعلون ! ماهي مهامُكم أتطاردون البشير فقط بداعي ارتكاب جريمة مشكوك في نسبتها إليه ! وتسعون لمحاكمة رئيس كينيا ! ألا تجيدون غير ملاحقة الفقراء من ذوي البشرة السمراء ! هذا المجلس يُرمم صورته البشعة المُنكسرة التي عجزت عن حماية أطفال سوريا ولكم كان رائع موقف الإتحاد الأفريقي حين طالب مجلس الأمن بالكف عن التدخل في شؤونه عبر محكمة الجنايات المُسيَّسية دولياً وقررَّ أنه ليس من حق هذه المحكمة ان تَتدخل بشكل مُباشر في حق دول الإتحاد الإفريقي..الكعبة أيضاً لن تُشارك في هذا المجلس حتى لا تُضفي عليه مزيداً من المشروعية قد تُستخدم في زيادة معاناة البشرية وتُشرعن للجرائم ضِدَّ الإنسانية , وفي تصوري أنَّ أروع قرار اتخذته المملكة هو عدم الإشتراك في هذا المجلس الذي تحوَّل في العقود الأخيرة إلى بورصة تُتاجر في الآلام الإنسانية ..! إن إفكار العدالة التي أناطت البشرية الأمم المتحدة ومجلس الأمن بتحقيقها على كل المستويات قد وصلت إلى طريق مسدود ولئن كانت الأفكار الحضارية السابقة لحضارتنا قد افتقدت لآليات تنفيذيه تُفعِّل منتجاتها الثقافية فإن الحضارة الصناعية الغربية اليوم قد أبدعت في إنتاج المُنظمة الدولية لتفعيل جُملة إنتاجاتها الفكرية المُتعلقة بطبيعة علاقاتها مع الإنسانية غير أن مكمن الإشكالية أن هذه المنظمة تم استلابها وتحويلها الى آلةٍ صماء لا تفقه غير لغة المصالح المادية وجرَّدت من كل المعاني الإنسانية وبدأ العقل الغربي بذلك يلتهُم ذاته بالسقوط الذاتي لمجس الأمن وعجزه عن تفعيل مفهوم العدل في أبسط صوره الأخلاقية ولم تُجانب السعودية الصواب بإعتذارها عن الانضمام لهذا المجلس الذي لم يعد يُسمن أو يُغني من جوعٍ أو خوف ..! وهو في الوقت ذاته يقترب من نهايته المحتومة بإقتراب نهاية الحضارة التي أنتجته..