سيد قطب المظلوم حيا وميتا
بقلم/ مجيب الحميدي
نشر منذ: 11 سنة و شهر و 29 يوماً
الخميس 05 سبتمبر-أيلول 2013 07:37 م

سيد قطب من أعظم المفكرين المسلمين الذين خدموا الفلسفة الإسلامية المعاصرة، فهو فيلسوف يوتوبيا المثالية الإسلامية بلا منازع، ويبدو أن مشكلة سيد كفيلسوف يوتوبي جاءت من انهماكه في العمل السياسي المباشر، ومحاولته للنضال من أجل تجسيد يوتوبيته على أرض الواقع, وتجاهل كافة المعطيات الموضوعية، وقد استطاع سيد بروحه المتوثبة وصدقه الأخلاقي وأسلوبه الساحر، أن يشد إليه الكثير من المتدينين، في سجون القمع العسكري، وحينها اعتزل جماعة الإخوان المسلمين وشكل تياره الخاص، الذي اشتهر بالتيار القطبي، مستلهماً أفكار وفلسفة محمد إقبال الروحية المزمجرة وفلسفة المودودي الراديكالية الانقلابية، وبلور هذا المزيج الفلسفي، في ظروف الصراع العصيبة في السجن، ودوّنها في الطبعة الثانية لتفسيره في ظلال القرآن، وقام بعد ذلك باستخلاص هذه الأفكار في كتابه “معالم في الطريق” ، ويعتقد البعض أن هذا الكتاب مع مقدمتي سورتي الأنفال وبراءة في الضلال، يتضمن تنظيراً خطيراً لثقافة العنف.

وسواء اتفقنا مع سيد أم اختلفنا معه، سيظل مفكرًا عظيمًا وعملاقًا من عمالقة الفلسفة الإسلامية المعاصرة, ولكن وظيفة الفيلسوف تنتهي عند نقد الواقع وتعرية بشاعته وتصوير معالم الأنموذج المثال للتغيير، والأخطاء الكارثية تبدأ عندما يحاول الفيلسوف تجسيد الأنموذج اليوتوبي على أرض الواقع، متجاهلاً المعطيات الموضوعية، فوظيفة الأنموذج اليوتوبي تجسيد ما ينبغي أن يكون, أما التنزيل السياسي الواقعي لهذا الأنموذج، ينبغي تركه للسياسيين، الذين تقتصر مهمتهم على تقريب الأنموذج المثالي إلى المنطقة الوسيطة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون, لتجسير هذه الهوة وفق معطيات الواقع ومتغيراته.

سيد قطب فيلسوف عظيم، ولعل جزءاً من إشكالية كتاباته أن بعض المتدينين تعاملوا مع هذه الأفكار الفلسفية الخطيرة باعتبارها فتاوى مستفيدين منها الحكم بجاهلية المجتمع وخروجه عن الإسلام، مع أن سيد لم يكن يهدف إلى إطلاق فتاوى، ولكنه كان يهدف إلى تعرية الواقع لتشكيل بؤرة التوتر الملائمة للتغيير، وهذه الطرح اليوتوبي لا يصح أن يتحول إلى أحكام فقهية وخطط عملية، ومن الجميل هنا الإشارة إلى ما ذكرته مؤلفة كتاب (المدينة الفاضلة عبر التاريخ)، قالت في مقدمة الكتاب: ”حين تشير اليوتوبيا إلى الحياة المثالية دون أن تتحول إلى خطة، عندئذٍ تستطيع بجدارة أن تصبح هي التحقيق الواقعي للتقدم”، ولهذا ترى الكاتبة أن مشكلة اليوتوبيا السياسية هو ميلها إلى تشكيل الرؤى المثالية في مخططات تنظيمية صارمة, يحرص أتباعها على الالتزام بها التزامًا يتسم بالطابع الأيديولوجي. الأمر الذي يجعلها عاجزة عن الاستجابة لتعقيدات الحياة الإنسانية والبشرية. وهذا بالضبط ما يشرح الفرق بين سيد قطب كفيلسوف عظيم، وبين من حاولوا ترجمة أفكاره اليوتوبية ترجمة فقهية تورطت في صناعة ثقافة العنف والتطرف عند بعض المدارس الدينية، وقد أشار إلى هذه الإشكالية بتعبير مختلف الدكتور يوسف القرضاوي في موسوعته الجديدة “فقه الجهاد”، ولكن مشكلة القرضاوي وجميع الذين تصدوا لنقد فلسفة سيد قطب للجهاد التي دافعت عن الجهاد, سواءً أكان هجومياً أم دفاعياً أنهم تجاهلوا السياق الكلي, الذي وضع فيه سيد قطب تنظيره للجهاد المرتبط بإيمانه العميق بحرية الاعتقاد.

ومن يقرأ فلسفة الجهاد عند سيد قطب ودفاعه عن الجهاد سواءً أكان دفاعياً أو هجومياً لابد أن يقرأ فلسفة سيد قطب العميقة لحرية الاعتقاد؛ ليدرك أن الجهاد عند سيد يهدف إلى تحطيم الأسوار التي تحول بين الناس وبين ممارسة الحرية سواءً أكان هجومياً أو دفاعياً.

وهناك من طلاب سيد قطب من قرأ الشطر الأول ولم يقرأ الشطر الثاني, الذي لا يكتمل المعنى بدونه، ولهذا يستخدمون كلام سيد في التنظير لممارسة العنف, وهو أبعد ما يكون عن العنف, بالتأكيد بعض عبارات سيد كانت تعكس ثقافة راديكالية ثورية قوية, ومن يتقمص هذه الروح الراديكالية ولا يستوعب فلسفة سيد قطب العميقة للحرية يتحول إلى متطرف. ومن المناسب هنا أن نضع القارئ أمام بعض روائع سيد قطب في تأكيده على حرية العقيدة, يقول سيد: لقد كانت رسالة الإسلام ثورة على طاغوت التعصب الديني، وذلك منذ إعلان حرية الاعتقاد في صورتها الكبرى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا}، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}.

لقد تحطم طاغوت التعصب الديني، لتحل محله السماحة المطلقة، بل لتصبح حماية حرية العقيدة وحرية العبادة واجباً مفروضاً على المسلم لأصحاب الديانات الأخرى في الوطن الإسلامي.

إن حرية الاعتقاد: هي أول حقوق الإنسان التي يثبت له بها وصف الإنسان. فالذي يسلب إنساناً حرية الاعتقاد إنما يسلبه إنسانيته ابتداء.. ومع حرية الاعتقاد حرية الدعوة للعقيدة والأمن من الأذى والفتنة، وإلا فهي حرية بالاسم، لا مدلول لها في واقع الحياة. والإسلام وهو أرقى تصور للوجود وللحياة وأقوم منهج للمجتمع الإنساني بلا مراء - هو الذي ينادي بأن “لا إكراه في الدين” وهو الذي يبين لأصحابه قبل سواهم أنهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين، فكيف بالمذاهب والنظم الأرضية القاصرة المتعسفة, وهي تفرض فرضاً بسلطان الدولة ولا يسمح لمن يخالفها بالحياة, وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان واحترام إرادته وفكره ومشاعره، وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد، وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه وهذه أخص خصائص التحرر الإنساني..