البردوني .. ‏حكيم اليمن وفيلسوفها
بقلم/ د . عبد الوهاب الروحاني
نشر منذ: سنة و شهر و 29 يوماً
الأربعاء 06 سبتمبر-أيلول 2023 06:11 م
 

‏ اول مرة تعرفت عليه عصر ذات يوم (وانا لا ازال صغيرا) وهو يسير راجلا في شارع علي عبدالمغني، يتحلق حوله ومن خلفه نخبة من المثقفين، كان منظرا مهيبا لم يفارقني حتى اللحظة، واراه يمر امام عيني كلما خطر ببالي اسم الاستاذ البردوني؛ ذلك لان حضوره ، ومهابته التي ارتسمت في الذاكرة مذ ذاك لم تكن من منصب يتربع عليه، ولا من مسلحين يحيطون به، ولا من إعلام زائف يهلل له، وأنما كان من صنع الكلمة والموقف والابداع.

زرت شاعرنا البردوني اكثر من مرة منفردا ومع اساتذة وشعراء كان من بينهم عبدالله قاضي، ويحيى البشاري، وعبدالرحمن قاضي، الذي كان في النصف الثاني من عقد السبعينات يحرر الصفحة الثقافية بصحيفة الثورة حيث كنت اعمل فيها (مساء) بعد الدراسة مصححا لُغويا، فارتبطت معه بصحبة عمل وتعلم، وكنت اتردد خلالها على مقيله في بستان السلطان بحضور ثلة من اصدقائه الادباء والمثقفين، وكنت اقرأ في المقيل ما يخصني بقراءته. ‏

ضيعوا جرير: ‏ كان أخر لقاء مع الاستاذ البردوني ( رحمه الله) في 1987 حين زرته الى منزله في مهمة حديث ادبي ثقافي لمجلة اليوم السابع، التي كانت تصدر من باريس برئاسة بلال الحسن، وكنت مراسلها في صنعاء. ‏ ‏كان موعدنا عند الحادية عشر ظهرا..

طرقت الباب فدخلت ووجدته وحيدا في مجلسه يتنقل بين زوايا مكتبته، يتحسس رفوفها، ويلامس بيمناه اعقاب الكتب المرصوصة والمبعثرة .. كان يعرف موقعها وعناوينها كتابا كتابا. قلت: اقدر اساعد بشيء يا استاذ عبدالله؟! قهقه وقال: ما شي..

مابلا صورتهم قد ضيعوا جرير.. ضحكت، وفهمت انه يبحث عن ديوان جرير.. ثم رجع الى مقعده، وقال معي اتصال واحد وابدأ معك، وبدأ يحرك قرص التلفون بسهولة ويسر تماما كما يفعل "المبصرون" وكان المبصر الوحيد بيننا.

انهى الاستاذ مكالمته وكانت خاصة، ثم بدأنا الحديث، وطرحت أسالتي، عن المشهد الثقافي اليمني والعربي، وكيف يرى الطريق الى الوحدة..

وكان حديثه غزيرا كالمطر، فكنت اطيل الاستماع اليه لهفة وتأدبا، ولم اشأ ان اقاطعه، فتوقف فجأة، وقال منزعجا: ما لك ما تقاطعني وتسال؟!

فقلت: ‏كيف اقاطعك يا استاذ عبدالله وانت تتحدث، وانا اسمع منك ما لم اسمعه من قبل..

قال: قاطع قاطع لاجل لا ابتعد ..!! وكانت النتيجة حوارا ضافيا اتذكر ان ان اليوم السابع نشرته بصورة غلاف للبردوني رحمه الله..

عندما تقابل البردوني الشاعر والفيلسوف والناقد والاديب والمفكر تجده شخصا عاديا ممتلئا تواضعا وبساطة، ضحكته تسبق كلماته، كالبلسم مع اصدقائه ومريديه، ومن يعرفه ومن لا يعرفه، لم يكن في حديثه تكلفا ولا صنعة كما تعودنا ان نراه ونلاحظه في غيره وهم كثر. بيت البردوني:

حياة البردوني كانت بسيطة ومتواضعة، كان يسكن بيتا شعبيا اهم ما فيه مجلسه ومكتبته التي ترك فيها كل متعلقات نشاطه وارثه..

وتلفونه، ومقعده، وقهقهاته التي تردد الجدران صداها.. كان بيتا لا ينفع بعد رحيله الا ان يكون متحفا يحمل اسمه وصوته، ولا يجوز ان يظل موقعه اطلالا. ‏قد يتساءل البعض واين كنت؟!

وماذا فعلت للبردوني حينما كنت وزيرا للثقافة؟! وهو سؤال وجيه قابلني كثيرا.. ولكن ما انا متأكد منه اننا حينها حاولنا بل سعينا جهدنا ان نرمم منزل الاستاذ البردوني ونؤهله ليكون معلما ثقافيا بارزا يحمل اسمه.. ‏ كان ذلك في إطار اعدادنا لخطة صنعاء عاصمة للثقافة العربية وقبلها ايضا ..

واتذكر ان احدّ اربعة من الزملاء المشاركين في اعداد الخطة تولى مهمة الترتيب للامر، والتاكد من وضع البيت وحاله مع الورثة، كان من بينهم الاساتذة احمد ناجي احمد النبهاني، وعلوان الجيلاني، واحمد حسين العنابي، و(ربما) عبدالملك المقحفي، ومحمد لطف غالب ، فعاد وقال ان الورثة على خلاف ولن يسمحوا لاحد الاقتراب منه.. ‏ ‏

وهكذا، كان الموقف الذي حال بيننا وبين ما كنا نطمح اليه.

. العزيزان النبهاني والجيلاني قالا بتكرار المحاولة في ظل الوزير الدكتور محمد المفلحي رعاه الله، ولكنها هي الاخرى باءت بالفشل. تزامن الرحيل: رحل البردوني في اغسطس 1999 وهو يحمل اوجاع البسطاء وانين الناس والوطن..

رحل وترك سفرا من الابداع الانساني بعد ان قدم اليمن شعرا وادبا ونقدا وفكرا وفلسفة ونبوءة كما لم يقدمه احد لا من قبله ولا من بعده .. ‏ ‏

رحم الله الاستاذ البردوني.. نعاه العالم وخرجت كل العواصم في جنازته الا نحن ضننا عليه حتى بتعزية، وزدنا فتركنا منزله نهبا لعوامل التعرية حتى جاء زمن العواصف والسيول، وقرأ الخذلان فينا؛ ولعله اومأ لها ان الحقي بي حجارة بيتي، وكما كان اغسطس 1999 شاهدا على رحيله كان اغسطس 2020 شاهدا على جرف بيته. رحم البردوني شاعر اليمن وحكيمها وفيلسوفها، الذي لن يتكرر.