مذكرات استاذ جامعي في بلاد الخليج.. الجزء الثالث
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: سنة و 7 أشهر و 5 أيام
السبت 01 إبريل-نيسان 2023 10:27 م

ذكرتُ لكم يا سادة في مقدمة مذكراتي السابقة أنّ الهدف من تدوين هذه المذكرات أخذ العظة والعبرة من القصص والسرد العلمي التحليلي لبعض المشاهدات لصاحب هذه الأسطر، في بلاد الخليج، فقد يكون في مشهدٍ من المشاهد، بعض الأدوية، الناجعة لمشكلاتنا اليمنية المكدسة والمعقدة، وأيضًا الهدف من هذه المذكرات أن نعالج أوضاعنا اليمنية بالنظر إلى قافلة السير الحثيث لدى جيراننا من الشعوب والدول الملكية المجاورة، ممن يعيشون في رغد من العيش والنّعمة والألفة والتعايش والتقدم والتطور.

كنتُ زرتُ المنطقة الشرقية أواخر العام المنصرم، 2022م، ومكثتُ فيها نحوًا من ثلاثة أشهر، كان أحدها شهر رمضان المبارك الفائت، تعرفتُ من خلال هذه المدة على البلدة، وبعض الواجهات الاجتماعية والشعبية، فثمة صلحاء ومصلحون وعبّاد وزهاد وتجار وحفاظ للقرآن وعلماء ودعاة وقامات علمية وفكرية وثقافية، تزخر بهم المنطقة، بل كل زاوية من زوايا البلدة، من الرجال والنساء والأمراء والعلماء وطلبة العلم. في ليلةٍ شاتيةٍ من عام 1443هـ، دعيتُ إلى جلسةٍ من جلسات الخير والحب، كان في الجلسة بعض التجار وأحد الأمراء، حضر الأميرُ بتواضعه الجم، ليس معه مرافقين ولا حرس ولا زحمة، ليس معه سوى أحد أبنائه الصغار، بسيارته الخاصة، في مشهدٍ فريدٍ من الأمن والإخاء والسلام والألفة، قلّ بل ندر أن يوجد له مثيل، رغم أنّ المنطقة ذات تعدد مذهبي حاد جدًا، وكنتُ في الجمعة كثيرًا ما ألمح الأميرَ وفقه الله، في مقدمة المسجد بمفرده.

جمعيات تحفيظ القرآن والجمعيات الخيرية في البلدة بالعشرات، وكثير من مجالس أمنائها هم بعض الأمراء والساسة، الجميع يعتز ويفاخر بالقرآن وطلابه ومعلميه، وتعلمه وتعليمه، وليس هذا فقط في هذه البلدة، بل في كثير من البلدات الخليجية التي زرتها، تحرص الأسر الحاكمة في الخليج، على رعاية الجمعيات الخيرية ومدارس تحفيظ القرآن الكريم، والاذاعات الشرعية، فيما رأته عيني، لا بل داخل الخليج وخارجه، ومن خلال إقامتي وحركتي في الأوساط الاجتماعية المحدودة جدًا، أجزم أنّ من أسباب حفظ الله لدول الخليج من التصدع والانهيار الذي حاق بمعظم الدول العربية عاملان هما:

1. كثرة الصدقات الخليجية وأعمال البر والمعروف، الذي يعم أنحاء المعمورة، فلا تنزل بلدًا إلا ووجدت الجهود الخيرية الشعبية والرسمية الخليجية تسبقك، والصدقات تقي مصارع السوء كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

2. العدالة الاجتماعية والوظيفية، فقد وجدتُ أثناء إقامتي في الخليج بعض المولات الكبيرة جدًا، والتي هي مدّ البصر، وفيها الأسواق المختلفة ومواقف السيارات وعلمتُ أنّ ملاّكها هم من جنسيات عالمية كالهند والباكستان والعرب، واليمانيون خصوصًا، ولا يجد هؤلاء المستثمرون ما يعكر صفو تجاراتهم، بل لا يجدون عدالة في بلدانهم كالتي يجدونها في بلد الاغتراب الخليجي.

هذه العدالة بالطبع ليست عدالة مطلقة، لأنّ العدالة المطلقة لا تكون إلا في الدار الآخرة، بين يدي رب العالمين الحكم العدل، لكنها عدالة نسبية رائعة ومقبولة، نتطلع لعُشر معشارها نحن في بلادنا اليمن، ولك أن تتساءل كم يدفع التُجّار من الإتاوات والرشاوى والأخماس والأسداس والحماية، لصغار وكبار المسؤولين، في اليمن، بسلطتيه ونسختيه في صنعاء وعدن، ومع ذلك كله تتعرض تجاراتهم للأخطار والتلفيات والنهبيات.

هذه العدالة – النسبية - شاملةٌ لميادين كثيرة منها العدالة الوظيفية، التي كفلتها النظم والقوانين الخليجية، ويتم ممارستها واقعاً ملموسًا لكل ذي عينين، وأحسب أنّ هذه العدالة الاجتماعية والوظيفية أسهمت في دوام الأمن والاستقرار الخليجي، رغم الرياح العاتية، سيما أيام الربيع العربي، وقد قال شيخ الاسلام بن تيمية "إنّ الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة " مجموع الفتاوي : 28/146.

وأستميح القارئ في الاسترسال والتفصيل في هذا الجزء من العدالة، أعني العدالة الوظيفية، لما لها من عمومٍ ومن حساسيةٍ بالغة، فالموظف الحكومي المتعاقد في الخليج، تكفل له القوانين التأمين الصحي وبدل السكن والأثاث، والراتب اللائق، والكرامة الانسانية وبدل المخاطر..الخ، وهذه المعاني لا نجدها عمليًا – وإن وجد بعضها نظريًا- في بعض بلداننا العربية التي عصف بها الظلم الاجتماعي فجعلها مزعًا وأحزابًا ممزقة مشتتة، جراء عموم الظلم والفساد الاداري والمالي، وإليكم هذا المثال لصورتين وقعت لصاحب هذه الأسطر يرويها عن نفسه : في العام 2005م في بلدي اليمن وفي صنعاء بالتحديد، كنتُ موظفًا لدى إحدى الجامعات "الشرعية" في مركز بحوثها، وفجأة وإذا بانقلاب إداري في مركز البحوث وتم تعيين زميلٍ لي من نفس الجامعة والكلية والقسم، مديرًا لمركز البحوث في الجامعة، ونتيجة الخلافات الشخصية والفكرية والعائلية بيننا، كان أول قرار اتخذه سعادة.

المدير هو تنظيف المركز من الغبار، وأن يتولى نظافة البدروم كاتب هذه الأسطر مع عامل النظافة ـ رغم وجود عمال النظافة - ثم استمرت المضايقات الوظيفية والفكرية، وبالطبع أنّى لك أن تقف على باب بيت رئيس الجامعة أو أن تجد منه أذنًا صاغية وقلبًا واعيًا، فهو صاحب القرار الأول والأخير في الجامعة، وهو هو من جاء بهذا المدير الكارثة. ثم إزاء هذا الوضع المكهرب من تحاسد الأقران، نصحني بعض الحكماء بالهجرة، قائلًا أرى أنه لا مكان ولا قرار لك في هذه البلاد، فاخرج منها إني لك من الناصحين، وفعلًا هاجرتُ في جنح الظلام ودون أن يعرف أبنائي بهجرتي، إلى الخليج. هذه الصورة من الاضطهاد الوظيفي براتب 50 $، قابلتها صورة عكسية مماثلة فقد تم تعييني في جامعة حكومية في المملكة العربية السعودية - أدام الله عزها- وأثناء إجراءات التعيين، دخلت على عميد الكلية، وأنا أحمل بعض الأوراق لإجراء بعض التوقيعات والتصاديق عليها، وحين رآني عميد الكلية بيدي الأوراق، اتصل فورًا بمدير شؤون الموظفين وعاتبه جدًا، كيف يتولى الدكتور بنفسه المرور على المكاتب، فما هو عملكم إذن؟!!!. وتم تعييني أستاذًا في الجامعة وبراتب يربو على3333$.

الصورة الأولى في بيئة "شرعية علمية إيمانية"، فكيف بالبيئات الوظيفية الأخرى أهلية كان أو رسمية أو قَبلية؟!!. ¬ هذا القَدْر من الأمن الوظيفي والعدالة الوظيفية النسبية جعلت العمالة في العالم كله تهفو نحو الخليج، واستطاع الخليج أن ينهض بشكل كبير جدًا، بخلاف الدول الفقيرة التي كانت وستظل فقيرةً، ليس بالطبع بسبب مواردها، وإنما بسبب فوضاها وبسبب قوانينها، وبسبب بيروقراطيتها، وبسبب غياب معايير العدالة فيها.

في الحلقة القادمة – بعون الله - سأتحدث عن الدوحة ونسائم الخليج، والله الموفق.