مناورة احمد الشرع المتوازنة: الحد من النفوذ الروسي دون مواجهة
بقلم/ مجلة المجلة
نشر منذ: 18 ساعة و 17 دقيقة
الأحد 09 فبراير-شباط 2025 05:45 م
 

 ..هل يعيد التفاوض بشأن القواعد العسكرية الروسية؟ 

 

توافد الدبلوماسيون من مختلف أنحاء العالم إلى دمشق بوتيرة غير مسبوقة منذ عقود، بعد سقوط النظام السوري الذي حدث في الثامن من ديسمبر/كانون الأول. ولكن من بين الوفود العديدة التي وصلت إلى العاصمة، برزت زيارة واحدة على نحو خاص. فلم يكن أحد يتوقع عودة المسؤولين الروس إلى دمشق بهذه السرعة، بعد أسابيع فقط من الإطاحة بحليفهم القديم بشار الأسد.

وقد أثارت هذه الزيارة انتقادات من جانب السوريين والمسؤولين الغربيين على حد سواء، نظرا لدور روسيا في الحرب السورية وعملياتها العسكرية المستمرة في أوكرانيا. وعلى الرغم من المعارضة المحلية والدولية، اختارت السلطات السورية الجديدة إبقاء قنواتها الدبلوماسية مفتوحة مع موسكو. وبما أن روسيا تمتلك حق النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فإن "هيئة تحرير الشام" تدرك تمام الإدراك أن تأمين الدعم الروسي أمر ضروري لجهودها الرامية إلى إزالة اسمها من قائمة الإرهاب التابعة للأمم المتحدة.

لكن القرار السريع الذي اتخذته "هيئة تحرير الشام" القاضي باستقبال الوفد الروسي جاء في أعقاب تطور مهم آخر، ألا وهو إنهاء عقد تشغيل ميناء طرطوس التجاري المبرم مع شركة روسية. وقد اعتُبر هذا القرار على نطاق واسع ضربة لمصالح موسكو، وهو الأمر الذي يُشير- إلى جانب الانخراط الدبلوماسي المباشر- إلى استراتيجية محسوبة رسمتها "هيئة تحرير الشام" تقضي بتقليص النفوذ الروسي في سوريا من دون إثارة العداء المباشر مع موسكو.

 

زيارة روسية مفاجئة

وصل وفد روسي رفيع المستوى، برئاسة نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، والمبعوث الخاص للرئيس بوتين إلى سوريا ألكسندر لافرينتييف، إلى العاصمة دمشق في 28 كانون الثاني/يناير الماضي. والتقى الوفد بالرئيس السوري الجديد أحمد الشرع ووزير خارجيته.

وفي أعقاب المحادثات، وصف المسؤولون الروس المناقشات بأنها كانت صريحة وبناءة، مؤكدين أن تغيير القيادة في سوريا لن يؤثر على العلاقات الثنائية أو المنشآت العسكرية الروسية في البلاد. لكنهم امتنعوا عن تقديم مزيد من التفاصيل.

وذكرت مصادر سورية أن الوفد أعرب عن رغبته في إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ومن ضمنها إعادة فتح السفارة الروسية في دمشق. كما سعى الوفد إلى الحصول على ضمانات بأن روسيا يمكنها الحفاظ على السيطرة على قاعدتيها العسكريتين الرئيستين- قاعدة طرطوس البحرية وقاعدة حميميم الجوية في اللاذقية– واللتان تعدان عنصرين أساسيين في نفوذ موسكو العسكري.

 

ووفق وكالة الأنباء الرسمية (سانا)، أوضح الشرع أن استعادة العلاقات تتطلب من موسكو الاعتراف بالأخطاء السابقة، وتعويض الدمار الذي تسببت فيه العمليات العسكرية الروسية. وأصر على وجوب بناء الثقة من جديد من خلال تحقيق تدابير ملموسة، تشمل التعويضات وإعادة الإعمار وإنعاش الاقتصاد.

كما أفادت التقارير بأن الشرع طالب بتسليم الرئيس السابق بشار الأسد وكبار مساعديه، الذين فروا إلى روسيا في أوائل ديسمبر/كانون الأول. ولكن الكرملين رفض التعليق، حين سئل عما إذا كانت سوريا قد قدمت طلبا رسميا لاستعادة الأسد أو الحصول على تعويضات مالية.

 

صورة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين معلقة في قاعدة حميميم الروسية في محافظة اللاذقية، غرب سوريا في 29 ديسمبر 2024

الغضب الشعبي والمخاوف الدبلوماسية

ورغم الضغط الذي بذله الشرع، فقد أثارت الزيارة انتقادات في صفوف السوريين. إذ ما زال كثيرون يرون في روسيا العامل الأساسي في تمكين الأسد من الحكم، بعدما زودته بالغطاء الدبلوماسي والدعم العسكري والقوة الجوية.

وتشير التقديرات إلى أن التدخل العسكري الروسي في سوريا، الذي ساعد في ترجيح كفة الحرب لصالح الأسد، تسبب في مقتل ما لا يقل عن 24 ألف مدني، وفقا لتقديرات متحفظة. كما أن قرار موسكو بإيواء الأسد وكبار شخصيات نظامه بعد انهيار الحكومة قد فاقم حالة الاستياء تجاه روسيا.

  

كما قوبلت الزيارة برفض غربي هادئ لكنه حازم، حيث أقام الدبلوماسيون الغربيون مؤخرا قنوات تواصل مع الحكومة المؤقتة بقيادة "هيئة تحرير الشام". ومنذ بدء هذا التواصل، طالب المسؤولون الغربيون مرارا بإخراج القوات الروسية من سوريا، بل واعتبروا ذلك في بعض الأحيان شرطا أساسيا لرفع العقوبات. وبينما جاء ردهم العلني على استقبال الوفد الروسي متحفظا، أعربوا في الاجتماعات الخاصة عن استيائهم الشديد.

ورغم ردود الفعل المتوقعة، لا يزال الشرع مصمما على الحفاظ على العلاقات مع موسكو. فإلى جانب تمتع روسيا بحق النقض في مجلس الأمن الدولي، وهو أمر بالغ الأهمية لمساعي إزالة "هيئة تحرير الشام" من قائمة الإرهاب الأممية، يمكن لموسكو أن تمثل أيضا حليفا احتياطيا في حال فشل جهود الشرع في الانفتاح على الغرب.

مناورة "هيئة تحرير الشام"

يبدو أن الشرع الذي يدرك حساسية إقامة علاقات دبلوماسية مع روسيا، يسير على خط رفيع يتمثل في التواصل مع موسكو مع العمل في الوقت نفسه على تقليل ردود الفعل السلبية المحلية والغربية.

وكان نهج التوازن هذا واضحا في قرار الحكومة المؤقتة القاضي بإنهاء عقد أبرمته حكومة الأسد عام 2019 مع شركة روسية، والذي منحها امتيازا لمدة 49 عاما لتشغيل ميناء طرطوس التجاري وكان توقيت هذه الخطوة استراتيجيا، إذ جاءت قبيل وصول الوفد الروسي إلى دمشق.

والأمر الأكثر أهمية هو أن الطريقة التي أُنهي بها العقد تعكس هذا النهج الحذر. فبدلا من إلغائه لأسباب سياسية، استخدمت الحكومة المؤقتة ثغرة قانونية، مشيرة إلى أن الشركة الروسية فشلت في الوفاء بالتزاماتها التعاقدية، لا سيما فيما يتعلق بالاستثمارات في البنية التحتية.

وتسعى "هيئة تحرير الشام" من خلال اعتماد هذا النهج المدروس- إلى جانب استعداد الشرع لاستقبال الوفد الروسي- إلى تقليص النفوذ الروسي من دون إثارة مواجهة مباشرة. ويبدو أن هذه الاستراتيجية قد نجحت جزئيا، إذ قللت روسيا من أهمية إلغاء العقد، مؤكدة أن الصفقة قد وُقعت مع شركة روسية خاصة، وليس مع الحكومة الروسية. وتؤكد زيارة الوفد الروسي على اهتمام موسكو بمواصلة العلاقات الدبلوماسية مع السلطات السورية الجديدة.

مقاومة الكرملين

وفي حين أن مطالب الشرع الأولية قد تمنحه بعض الوقت على المستوى المحلي، فإن قدرته على السماح لروسيا بالحفاظ على قواعدها العسكرية في سوريا دون رد فعل عنيف كبير ستعتمد إلى حد كبير على استعداد موسكو للتعاون، وهو أمر يبدو غير مرجح.

وبحسب مصادر روسية، فمن المستبعد جدا أن يمتثل الكرملين لهذه المطالب، أقله ليس بالطريقة التي تتصورها القيادة السورية الجديدة. وتشير هذه المصادر إلى أن موسكو لن توافق على تسليم الأسد، إذ إن الضرر الذي قد يلحق بسمعتها من جراء القيام بمثل هذه الخطوة يفوق بكثير أي مكاسب دبلوماسية محتملة

 

وعلى نحو مماثل، من غير المرجح أن تدفع روسيا تعويضات عن عملياتها العسكرية التي قامت بها في سوريا، وعلى وجه الخصوص إذا صُنفت صراحة على أنها جرائم حرب.

فإلى جانب العبء المالي، لا ترغب موسكو في الاعتراف بمسؤوليتها عن الدمار الذي تسببت فيه، وهو التنازل الذي قد يتضمنه أي اتفاق يتعلق بدفع تعويضات. وفضلا عن ذلك، وبالنظر إلى التحديات الاقتصادية التي تواجهها روسيا، فهي غير قادرة على تخصيص موارد كبيرة لإعادة إعمار سوريا، وهو الأمر الذي يقلل أكثر من احتمالات الامتثال لمطالب الشرع.

إعادة التفاوض على الوجود العسكري

على الرغم من إحجام روسيا عن الاستجابة لمطالب الشرع، فمن المرجح أن يواصل بحذر تقليص نفوذ موسكو في سوريا. ومن المتوقع أن تقوم الحكومة المؤقتة، بهدف تحقيق هذه الغاية، بمراجعة العقود الاستثمارية الكبرى التي وُقّعت مع الشركات الروسية، ولا سيما في قطاعي التعدين والطاقة، بحثا عن ثغرات قانونية يمكن أن تبرر إلغاء هذه العقود. وإذا ثبت أن الإلغاء غير ممكن، فقد يصبح نهج إعادة التفاوض على الشروط لمصلحة سوريا هو النهج المفضل.

وعلى نحو مماثل، تشير مصادر روسية إلى أن الشرع سيسعى إلى إعادة التفاوض بشأن شروط القواعد العسكرية الروسية في سوريا، والتي تميل على نحو ساحق لصالح موسكو. وتشمل المجالات المحتملة للمراجعة: الاستخدام المجاني للأراضي والمنشآت، ونوع وحجم المعدات العسكرية المتمركزة هناك، وشروط وصول السفن الحربية الروسية ومغادرتها، وإجراءات تفتيش القواعد، وصلاحية الاتفاقيات.

ومن خلال فرض شروط أكثر صرامة، قد يحاول الشرع الحد من النفوذ الروسي دون التسبب في توتر غير ضروري.

  

قافلة عسكرية روسية متجهة إلى قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية، على الساحل السوري، 14 ديسمبر 2024

لكن السؤال الأهم هو ما إذا كان الشرع سيتمكن من الحفاظ على نهج التوازن هذا في الوقت الحالي، ويبدو أنه يعتقد أن فوائد هذا النهج تفوق مخاطره، لكن مدة استدامة هذا التقدير تبقى غير مؤكدة.

وفي نهاية المطاف، قد يُجبر الضغط المتزايد المطبق على الحكومة المؤقتة اتخاذ قرار نهائي إما بالإبقاء على العلاقات الدبلوماسية مع روسيا رغم المعارضة المتزايدة محليا ودوليا، وإما بقطع العلاقات والمخاطرة بخسارة قوة عالمية. وكما هي الحال بالنسبة لمعظم الفترة الانتقالية في سوريا، تظل النتيجة غير قابلة للتنبؤ.