مليشيات الحوثي تختطف مواطناً من جنوب اليمن للضغط على شقيقه عاجل .. دعم سعودي لحكومة بن مبارك ووديعة بنكية جديدة كأس الخليج: تأهل عمان والكويت ومغادرة الإمارات وقطر دراسة حديثة تكشف لماذا تهاجم الإنفلونزا الرجال وتكون أقل حدة نحو النساء؟ تعرف على أبرز ثلاث مواجهات نارية في كرة القدم تختتم عام 2024 محمد صلاح يتصدر ترتيب هدافي الدوري الإنجليزي .. قائمة بأشهر هدافي الدوري الإنجليزي مقتل إعلامية لبنانية شهيرة قبيل طلاقها قرار بإقالة قائد المنطقة العسكرية الأولى بحضرموت.. من هو القائد الجديد؟ دولة عربية يختفي الدولار من أسواقها السوداء تركيا تكشف عن العدد المهول للطلاب السوريين الذين تخرجوا من الجامعات التركية
تضع التقارير الدولية الجمهورية اليمنية ضمن قائمة الدول المهددة بالانهيار في العالم، وتورد تلك التقارير العديد من المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تبعث على القلق على مصير الدولة اليمنية، ومن ضمن الأسباب السياسية التي يتم الحديث عنها يأتي ما يسمى بـ"انقسام"-أو تفتت-"النخبة السياسية الحاكمة" مع ما يصاحب ذلك من انقسام وتفتت في مؤسسات الدولة وبالتالي شل قدرتها على أداء وظائفها، ولأن انقسام النخبة السياسية الحاكمة في أي بلد كان يعتبر أحد المؤشرات الهامة على وجود خلل في النظام السياسي، يؤدي في البداية إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي، ثم "قد" يتطور إلى صراع عنيف قد ي
عصف بالنظام السياسي وربما بالدولة ذاتها..
ويمكن النظر إلى النخبة السياسية الحاكمة على أنها "مجموعة من الشخصيات التي تمارس السلطة فعليا ويؤثر أفرادها على القرارات السياسية بشكل يتصف بالثبات والاستمرار ويمكن ملاحظته، ويستمد أفراد النخبة القدرة على التأثير بشكل أساسي من طبيعة المناصب التي يتولونها والتي هي عادة أهم المناصب داخل الدولة، ويكون المنصب الذي يحتله الفرد بقدراته الذاتية، وليس خلفيته الاجتماعية أو الطبقية أو أي خاصية أخرى، هو الذي يؤهله لعضوية النخبة الحاكمة، أما المواقع التي غالبا ما يكون شاغلوها أعضاء في النخبة السياسية الحاكمة فتشمل كبار المسئولين الإداريين في الحكومة، القادة العسكريين، ومسئولي الأجهزة الأمنية وهذه هي الفئات التي تلعب دورا حيويا في بقاء النظام واستمراره.
وحيث أن التقارير الدولية تصنف اليمن بين الدول المهددة بالانهيار، وتورد انقسام النخبة كأحد الأسباب للانهيار المحتمل، فإن الكاتب يحاول هنا تحليل بعض المظاهر الدالة على وجود الانقسام الذي يتم الحديث عنه..
أنواع النخب السياسية
يقسم علماء الاجتماع والسياسة النخب السياسية الحاكمة من حيث قدرتها على تمثيل مختلف القوى على الساحة وبالتالي على تحقيق الاستقرار السياسي إلى ثلاثة أنواع هي: النخب المنقسمة، النخب الشمولية، والنخب الديمقراطية.. ويعكس التقسيم الثلاثي للنخب الحاكمة ثلاثة أنواع متعارف عليها من النظم السياسية هي على الترتيب: الأنظمة الانتقالية، الأنظمة الشمولية، وأخيرا الأنظمة الديمقراطية.
وبالنسبة للنوع الأول من النخب: وهو تلك التي تعاني من الانقسام فتتصف بشكل عام بانعدام الثقة والتعاون فيما بين أجنحتها وغالبا ما يعمل كل جناح على عرقلة وإفساد أي مشروع يتبناه أي جناح آخر، ومع أن النخبة السياسية المنقسمة قد تكون ممثلة للمواطنين، أي أن أعضاءها ينتمون لمختلف الشرائح والتوجهات السياسية والاجتماعية، إلا أن النظام السياسي الذي تخلقه النخبة، والذي يوصف بأنه نظام انتقالي: غالبا ما يكون غير مستقر وفي معظم الحالات ينتهي الحال بتلك الأجنحة إلى الصراع العنيف في ظل توفر شروط معينة..
ويأتي بعد ذلك النوع الثاني من النخب وهو النخب الشمولية الموحدة: ويمتاز هذا النوع من النخب بأن أعضائه يلتفون حول عقيدة فكرية معينة "إيديولوجية" وغالبا ما يضمهم تنظيم سياسي واحد، وربما تمثل الأحزاب الشيوعية التي سادت في أوروبا الشرقية بين عامي 1945م و1990م أبرز النماذج لهذا النوع من النخب، وتمتاز النخب الشمولية بأنها لا تمثل مختلف القوى على الساحة، ويسيطر النظام السياسي الذي تفرزه النخب الشمولية على كافة أوجه الحياة لكنه يفتقر إلى الاستقرار.
ويعتبر النوع الثالث من النخب أو ما يطلق عليه "النخب الجماعية" أفضل أنواع النخب، فهو من جهة قادر على تحقيق هدف التمثيل لكافة القوى السياسية، وهو من جهة ثانية قادر على تحقيق الاستقرار السياسي..ولا يتصف النوع الثالث بغياب التباينات بين مكوناته لكن أعضاء هذا النوع من النخب يحرصون على السيطرة على خلافاتهم، والتي غالبا ما تتركز حول المسائل الفرعية، وإدارتها بالوسائل السلمية.
وبالنظر إلى خصائص كل نوع من أنواع النخبة وإلى صفات النظام السياسي الذي تقيمه يبدو أن "النخب الجماعية" هي الأفضل، لأنها تتصف بدرجة معقولة من التضامن بين الأعضاء، لكن ذلك التضامن أو التوحد لا يصل إلى حد التزام الأعضاء بإيديولوجية صارمة، كما هو الحال في النخب الشمولية، كما أن هذا النوع ينشأ نظاما سياسيا مستقرا وممثلا للقوى السياسية على الساحة.
وتندرج النخبة السياسية الحاكمة في اليمن تحت النوع الأول من النخب وهو النوع المنقسم على ذاته، ومن الواضح أن حالة من الصراع على السلطة والثروة ومن عدم الثقة تسود العلاقة بين مختلف مكونات النخبة السياسية، ولا تشكل ظاهرة انقسام النخبة السياسية الحاكمة في اليمن متغيرا جديدا في الشأن السياسي اليمني بقدر ما تشكل القاعدة العامة والنمط التاريخي للتفاعل السياسي وخصوصا في النصف الثاني من القرن العشرين..
مؤشرات الانقسام
هناك عدد من المؤشرات الهامة على انقسام النخبة السياسية الحاكمة في اليمن، ويعتبر تفاقم ظاهرة الفساد في الحالة اليمنية والعجز عن مواجهته أو تضييق نطاقه أوضح المؤشرات على انقسام النخبة، ففي ظل الصراع القائم على السلطة والثروة وفي ظل حاجة القوى المتصارعة إلى موارد لإدارة الصراع وتقوية مواقعها فإنها لا تجد مفرا من الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من الموارد العامة التي تقع بين يديها...ولذلك تحرص مختلف الأجنحة على وضع أعضائها في مواقع يمكن فيها لتلك العناصر تجنيب جزء كبير من الإيرادات وتحويلها إلى الجناح الحزبي الذي ترتبط به، وتفعل الأجنحة ذلك دون خوف من حساب أو عقاب لان كل جناح يدرك جيدا أن الأجنحة الأخرى تفعل ذات الشيء.
ولعل هذا الصراع هو الذي يفسر عدم قيام النظام باتخاذ أي إجراء في بعض قضايا الفساد الشهيرة التي تمكن مجلس النواب من إيقافها وأبرزها صفقة بيع بئر نفطي بمبلغ 13 مليون دولار فقط في حين أن القيمة الفعلية للحقل قدرت ب200 مليون دولار، التمديد لشركة هنت الأمريكية على حساب خسارة الموازنة العامة للدولة لمليارات الدولارات، وإرساء مناقصة تشغيل المنطقة الحرة بعدن على شركة منافسة للمدينة وبمبالغ زهيدة، كما أن هذا الصراع يفسر كيف عجز مجلس النواب عن القيام بأي إجراء للتحقيق في اتهامات وجهها أحد النواب إلى أحد السفراء متهما إياه ببيع السفارة، والغريب هو أن عضو مجلس النواب الذي اعتكف في بيته احتجاجا على عجز المجلس عن التعامل مع الواقعة قد انتهى به الأمر في عام 2007م سفيراً لليمن مكان السفير الذي كان قد اتهمه ببيع السفارة، وذلك بعد أن انتهت فترة خدمة ذلك السفير.
وقد شهدت عملية تشكيل اللجنة العليا لمكافحة الفساد صراعا حادا ولعدة شهور بين عدد من الأجنحة بسبب قلق كل جناح من أن تحاول الأجنحة الأخرى استخدام اللجنة ضده في المستقبل، وقد انتهى الأمر بتشكيل اللجنة بطريقة متوازنة وبحيث ضمن كل جناح من الأجنحة المتصارعة وجود ممثلين له في اللجنة وهو ما يعني بأن اللجنة قد ولدت "ميتة." ومن غير المتوقع أن تتمكن اللجنة في ظل تركيبتها الحالية، والتي تشبه إلى حد كبير تكوين الحكومة في الفترة اللاحقة لانتخابات عام 1993م وحتى عام 1994م، من القيام بأي عمل من شأنه الحد من الفساد. ويكفي أن يتتبع أي محلل تصريحات أعضاء اللجنة ويحاول الإجابة على سؤال "من يصرح لمن؟"، أي من، بفتح الميم، من أعضاء اللجنة يصرح لمن من الصحف أو الوسائل الإعلامية ليعرف من خلال ذلك طبيعة التمثيل الذي تقوم على أساسه اللجنة.
ويعكس تحليل مضمون الصحف والمواقع المحسوبة على الأجنحة المتصارعة داخل السلطة بوضوح أن كل صحيفة تتحدث عن الفساد بشكل انتقائي، فهناك صحف ومواقع متخصصة مثلا في فساد وزارات الكهرباء والصحة والخدمة المدنية والمياه والإعلام، وقد يظن القارئ العادي وهو يقرأ بعض تلك الصحف أن هناك توجها حقيقيا لمحاربة الفساد في حين أن ما يشاهده بالفعل هو الغبار الكثيف الذي تخلفه "حرب الأجنحة"، وفي نفس الوقت الذي تتفاقم فيه ظاهرة الفساد فإنه يلاحظ أن المؤشرات الدولية الخاصة بالفساد، وخصوصا تلك الصادرة عن البنك الدولي والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، تبين أن قدرة النظام اليمني على السيطرة على الفساد قد عانت من تدهور كبير خلال الفترة من 1996م وحتى عام 2006م.
ومع أن الصحافة يمكن أن تلعب دورا هاما في فضح وتعرية الفساد إلا أن درجة الجمهورية اليمنية على مقياس "حرية الصحافة" قد عانت من التدهور سنة بعد أخرى، وفي الوقت الذي نالت فيه اليمن 55 درجة على مقياس حرية الصحافة في عام 1994م فإن الدرجة قد انخفضت إلى 63 في عام 1995م (كلما زادت الدرجة كلما كان ذلك مؤشرا على تدهور حرية الصحافة)، ثم وصلت الدرجة إلى 81 في عام 2006م.
وتفاقمت ظاهرة قيام مسئولي الدولة بما أسماه رئيس الدائرة الإعلامية بحزب التجمع اليمني للإصلاح "الجمع بين الأختين" ويقصد بذلك جمع المسئولين بين المواقع السياسية وبين التجارة، وبرغم أن الدستور يحظر على كبار مسئولي الدولة الجمع بين السياسة والتجارة لما ينشأ عن ذلك من تضارب بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة وخصوصا عندما يتم التعامل مع الدولة إلا أن حاجة الأجنحة المختلفة للموارد الاقتصادية لتمويل مشاريعها السياسية قد جعلتها تتنافس بضراوة على انتهاك القانون والدستور، وصارت عقود الدولة وفرص الاستثمار بكافة أنواعها تتوزع على المسئولين التجار عن طريق "المحاصصة" والتكليف المباشر وخارج النظام والقانون وفي محاولة للحفاظ على قدر من التماسك في صفوف النخبة.
وتدهورت قدرة النظام اليمني على أداء وظائفه خلال السنوات الأخيرة بشكل كبير، وازداد معدل التدهور في أداء النظام مع تصاعد حدة الصراع بين الأجنحة المختلفة، ومن الطبيعي وفي ظل سيطرة كل جناح من الأجنحة المتصارعة على وزارات ومؤسسات معينة أن يؤدي الصراع السياسي بين الأجنحة المختلفة إلى إضعاف قدرة النظام ككل على العمل وعلى القيام بالوظائف التي يفترض أن يقوم بها، وذلك لأن الأجنحة المتصارعة تعمل على عرقلة أي مشروع يمكن أن يحسب أو يستفيد منه جناح آخر وتتحمس فقط للمشاريع التي يمكن أن تعود بنفع مادي على أعضائها حتى ولو كان ذلك على حساب المصلحة العامة، وتكون النتيجة هي تبديد الطاقات والإمكانات في صراعات لا طائل منها، وتتصف السياسات والقرارات بالازدواجية أحيانا والاضطراب أحيانا أخرى، وفي ظل تصارع الإرادات غالبا ما ينتهي الأمر بالمبادرات الحكومية إلى الفشل أو إلى تحقيق نجاح محدود، وتبدو هذه الحالة واضحة في الحالة اليمنية من خلال عدد من المؤشرات.
فعلى صعيد قيام النظام بتطبيق سيادة القانون وبما يعنيه ذلك من وجود نظام قانوني ينظم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية داخل حدود الدولة، وكذلك وجود نظام قضائي فعال قادر على حماية حقوق الملكية والفصل في المنازعات المختلفة، فالملاحظ أن قدرة النظام على تطبيق سيادة القانون قد انخفضت من (-1.04) في عام 1996م إلى درجة (-1.12) في عام 2006م. وكانت الدرجة قد وصلت في عام 2002م إلى (-1.23)، وإذا كان صنع القواعد القانونية والسياسات العامة هو إحدى الوظائف التي يفترض أن يقوم بها النظام فإن الدرجة الخاصة بمستوى أداء النظام في هذا الجانب تشير إلى تدهور، فبعد أن كانت الدرجة قد وصلت إلى أفضل مستوى لها وهو (-0.39) في عام 2000م فإن الدرجة وبعد مرحلة من التذبذب وصلت إلى (-0.78) في عام 2006م. وبالنسبة لمؤشر جودة الخدمات العامة التي يقدمها النظام للمواطنين والتي تبين درجة فعالية الحكومة، فإن المؤشرات الدولية تبين أن درجة فعالية الحكومية والتي بلغت (-0.73) في عام 1996م قد شهدت تذبذبا وبحيث وصلت إلى (-0.93) في عام 2006م.
ولم يحدث انقسام النخبة فجأة وإنما تطور بالتدريج، وظل الصراع حبيس الغرف المغلقة والصدور ولم يظهر بشكل واضح إلا في السنوات الأخيرة، وقد ظهر بعدة طرق لكن أهم مؤشر على احتدام الصراع قد تمثل في الصفقات الفاشلة التي خسرتها الأجنحة، فقد تمكن أحد الأجنحة ومن خلال أعضائه في مجلس النواب من إفشال صفقتي بيع بئر نفطي والتجديد لشركة هنت، ورد جناح آخر بالعمل على إفشال صفقة موانئ دبي المحسوبة على جناح آخر، بالرغم من أن المجلس كان يتوجه إلى إقرارها، وخرج الصراع إلى العلن من خلال ظهور صحف ومواقع محسوبة على أطراف معينة لتقوم بالهجوم على أطراف أخرى.. ولعل أوضح انكشاف للصراع قد كان خلال الأشهر الماضية من هذا العام، وقد تمثل ذلك الانكشاف في العديد من الظواهر، فقد بدأت بعض الأصوات المنضوية في صف النخبة الحاكمة تخرج إلى العلن.. إما لتعارض بقوة سياسة معينة تتبناها أطراف أخرى أو لتتبنى سياسات معينة وتطالب بإصلاحات تعارضها أطرافا أخرى، وقد بلغ الصراع ذروته مع تشكيل الحكومة الجديدة قبل عدة أشهر حيث تم ولأول مرة إحباط محاولة لتشكيل الحكومة قبل ساعات فقط من إعلانها، وفي المقابل فإن إعلام الحزب الحاكم شهد اضطرابا كبيرا سواء في السياسات الإعلامية المتناقضة التي تم تبنيها أو في إقالة وتعيين القيادات الإعلامية، وبدأت ظاهرة تناقض الخطاب الإعلامي بين الإعلام العام وإعلام الحزب الحاكم، وتبع ذلك ظهوراً منتظماً ومرتباً لعدد من الأشخاص الذين ينتقدون قادتهم ومؤسساتهم وذلك كتعبير واضح عن الصراع القائم، وكمؤشر على أن الصراع قد وصل إلى مرحلة "اللارجوع."
وقد تمثلت أخطر مؤشرات انقسام النخبة الحاكمة حتى الآن في الأحداث الجسام التي شهدتها وما زالت تشهدها البلاد. وأهم تلك الأحداث هي حرب صعدة واحتجاجات الجنوب، فكيفما نظر الإنسان إلى هذين الحدثين فإنه سيصل في النهاية إلى نتيجة واحدة وهي أن الحدثين يمثلان في جوهرهما حلقتين من حلقات الصراع التي تخوضها أجنحة النخبة إما بشكل مباشر أو بالوكالة.
طبيعة الانقسام
ليس من السهل على أي دارس أو محلل للنخبة اليمنية الحاكمة أن يفسر الوضع الحالي للنخبة السياسية ومدى تماسكها أو تفتتها، ولا أن يفسر علاقة النخبة الحاكمة بالنخبة المعارضة إذا ما اكتفى بدراسة التوجهات الإيديولوجية والبرامجية والسياساتية لقيادات النخب، فرغم أهمية كل تلك الجوانب إلا أنه لا بد للمحلل أن يذهب أبعد من ذلك فيعمل على دراسة الانتماءات الأولية لأفراد النخبة والتي قد تفوق في أهميتها وتأثيرها ولأسباب كثيرة البني الفكرية والإيديولوجية الحديثة، والمقصود بالانتماءات الأولية هي الهويات والولاءات الجزئية السابقة على الولاء العام والشامل للدولة المدنية الحديثة، ولعل أهم الولاءات الأولية المشكلة للصراع السياسي بين أفراد النخبة الحاكمة في الحالة اليمنية هي تلك المتعلقة بالانتماءات القبلية والمذهبية والمناطقية والعرقية وبالولاءات الشخصية.
ومع أن الأستاذ ياسر العواضي عضو اللجنة العامة للحزب الحاكم يذهب إلى القول بأن الصراع السياسي القائم في اليمن يتمحور حول مشروعين إحداهما تقليدي والآخر حديث، وأن أنصار المشروعين يتواجدون في السلطة والمعارضة على السواء إلا أن أحداث الأيام الماضية تكشف بوضوح أن النخب السياسية اليمنية ربما لم تصل إلى ذلك المستوى من النضج السياسي والذي يجعلها قادرة على أن تميز بين الانقسامات الحديثة التي تقوم على أساس العقائد السياسية والبرامج والرؤى وتتصف بالمرونة، وبين الانقسامات التقليدية التي تقوم على روابط الدم، المذهب، والإقليم الجغرافي، وهي بالتالي غير قادرة على أن تنحاز للأولى وتعمل في حراكها السياسي على إضعاف الثانية، وهذا لا يعني أنه لا يوجد صراع بين القوى التقليدية والقوى الحديثة ولكنه يعني أن ذلك الصراع لا يمثل الصراع الرئيسي في المرحلة الحالية، وإذا كان لا بد من الحديث عن قوتين متصارعتين في المرحلة الحالية فإن القوتين ليستا السلطة والمعارضة ولا القوى التقليدية والقوى الحديثة، وإنما هما قوة في السلطة وإن كان بعض أفرادها في المعارضة وقوة في المعارضة وإن كان بعض أفرادها في السلطة، ويدور الصراع بين هاتين القوتين بشكل أساسي حول السلطة والثروة وليس حول مشاريع سياسية معينة وإن كانت الأجنحة تحاول تقديم نفسها كصاحبة مشاريع متميزة.
وفي ظل مثل هذا الواقع السياسي المتخلف فإن بعض الأطراف المتصارعة على السلطة والثروة تجد أن عملية إعادة تعريف الصراع على خطوط أولية، وبحيث يصبح بين "نحن" و"هم" يمكن أن يقوي موقفها، وحين يحدث ذلك فإن الأطراف الأخرى تستجيب بنفس الطريقة، وتتمثل خطورة مثل هذا النوع من الانقسامات في أنه قد ينقل الصراع من كونه صراعا حول السلطة والثروة ويجعل منه ولو جزئيا صراعا حول الهوية، وفي الوقت الذي يسهل فيه حل صراعات النوع الأول فإنه يصعب حل صراعات النوع الثاني، فالصراع حول الهويات هو في الأخير صراع حول قيم معينة، ليس بالمعنى المادي ولكن بالمعنى الثقافي، وإذا كان من السهل حل النزاعات حول الأمور المادية عن طريق حشد الأدلة والبراهين وإثبات مصداقية طرف وعدم مصداقية آخر، فإن القيم بطبيعتها لا يمكن الحكم عليها بالصحة أو الخطأ، كما أن القيم يصعب تجزءتها أو التنازل عنها، ومع أن انقسام النخبة، كما سبق الإشارة ليس ظاهرة جديدة على اليمن إلا أن الظروف هذه المرة تختلف عن أي ظروف سبقت.
*******
جمهورية "بورتوريكو!"
ماذا أقول غدا لطلابي عن الدستور والقانون والمواطنة والحقوق المتساوية والسيادة والكرامة؟ ماذا أقول لهم عن حرية التنقل التي كفلها الدستور وعن "جنسية" مأرب؟ هل سأكون نفسي إذا ما تظاهرت بأن شيئاً لم يتغير وأن النقوش القديمة لم يدنسها "عار الخيانة" وأن مأرب ما زالت تتكلم اللغة اليمنية وأن "عارف الزوكا" لم يمنعني من لقاء أمي؟ هل سأكون نفسي إذا ما كذبت عليهم وقلت لهم بأن "ابن الزوكا" لم يدس بجزمته دستور البلاد والقوانين وعظام أجدادي وانتمائي إلى هذه الأرض؟ ماذا أقول لهم عن الفأر الذي هدم السد وأهلك الحرث والنسل؟ هل أقول لهم بأنه مات في حين أني أراه بأم عيني يعيث في البلاد الفساد؟
وكيف سأرسم في المرة القادمة على السبورة خارطة البلاد؟ وهل ستظل مأرب جزءً من الجمهورية اليمنية أم أنها ستصبح في ضميري "جمهورية بورتوريكو"؟ ماذا أقول لهم عن زعامة "الشوفير"؟ وكيف أحدثهم عن قيم القبيلة وأعرافها وأخلاقها؟ هل أقول لهم بأن "مأرب" تدار من غرفة مظلمة في ظهر حمير وأن "ابن الزوكا" حول جدتي "بلقيس" إلى جارية؟ وماذا أحدث عن "شمر يهرعش" والأقيال والتبابعة؟ ماذا عساي أن أقول لجدي حين أزور قبره في المرة القادمة؟ ماذا عساي أن أقول حين يعلم بأن أرض بلاده أصبحت مرتعا لكل طيور الأرض فيما عدا أحفاده؟ ماذا عساه يقول عن سواد الزمان ودناءته وعن حكم المماليك وبيع البلاد بالثمن الزهيد؟.
* ألأهالي