|
مأرب برس - د. فيصل القاسم
ليس هناك أدنى شك بأن الانترنت تـُعتبر واحداً من أعظم الانجازات المعرفية والإعلامية عبر التاريخ، إن لم تكن الأعظم،فمن هذه الشاشة الصغيرة التي تبعد عن أرنبة أنفك عدة سنتيمترات تتفجر أكبر ثورة منذ بدء الخليقة. وبفضلها أصبح كل واحد منا ناشراً رغم أنف حكومات القمع والحجر والتضييق والمراقبة وكبت الأنفاس، هذا فيما كان يصعب في الماضي نشر كلمة أو كلمتين في وسائل الإعلام التقليدية بشق الأنفس. الآن يستطيع أي شخص على وجه المعمورة أن يشتري جهاز كومبيوتر ويشترك في خدمة الانترنت، ومن ثم يبدأ بنشر
ما يريد ليقرأه الملايين. إنه تحول تاريخي تعجز الكلمات عن وصفه.
لم يعد النشر حكراً على المتحكمين بأجهزة الإعلام من حكومات وأثرياء، بل غدا في متناول الجميع دون أي استثناء. لا عجب أن أصبح المدونون قوة إعلامية هائلة تهدد عرش الامبراطوريات الكبرى بالرغم من أنهم مجرد أفراد مسلحين بكاميرات صغيرة وأجهزة كومبيوتر بسيطة وغرف لا تتسع إلا لكرسي وطاولة متواضعة.
لكن "الحلو ما يكملش" كما يقول الأخوة المصريون، فكما أن الصحف أصبحت، عندما ظهرت للمرة الأولى، مثاراً للسخرية والتهكم بعد أن عجّت صفحاتها بالتلفيقات والأكاذيب والكلام الفارغ والدعايات المفضوحة، ها هي الانترنت، على عظمتها، وقد أصبحت أيضاً محط ازدراء الكثيرين واحتقارهم، لكن ليس لأنها وسيلة إعلام مسيّرة وموجهة كالصحف، بل، من سخرية القدر، لأنها،على عكس الصحافة تماماً، تتمتع بحرية هائلة منفلتة لم تتمتع بها وسيلة إعلام أو أداة معرفة من قبل على مر الزمان. وكما كنا نسخر من محتويات بعض الصحف بأنها مجرد "كلام جرايد"، ها نحن وقد بدأنا نطلق الوصف ذاته على محتويات الشبكة العنكبوتية، كأن نقول عن مواد الشبكة بأنها مجرد "كلام انترنت" للتدليل على عدم مصداقيتها وجديتها. واتذكر أن أحد الزعماء وصف المعارضة الهزيلة في بلده بأنها "معارضة انترنت"، أي أنها مجرد صراخ الكتروني أو ثرثرة عنكبوتية لا أكثر ولا أقل.
لقد وقعت الانترنت فعلاً ضحية حريتها اللامحدودة لتصبح أقرب إلى الهزل منها إلى الجد، فمن هذه الشاشة، كما يصفها الزميل محمد عبد المجيد، "تقرأ عكس أي شيء في العالم، فتواجهك مئات المواقع التي تمجد محاسن النازية والعنصرية وسلبياتها، وتقرأ تبريرات للإلحاد، وتقع عيناك على عفن فكري يرى الشذوذ والاعتداء على الأطفال أموراً طبيعية. وتدشن موقعاً إرهابياً تتحرك فوق حروفه سيارات مفخخة من الجهل والأمية الثقافية والكراهية. وتتابع ملايين المواقع التي تدعو إلى الإباحية أو الإرهاب أو الفرقة بين الأديان أو عودة الاستعمار أو إبادة أجناس بشرية، وستجد لكل زعماء الحركات المناهضة لحقوق الانسان والمساواة مؤيدين ومواقع المعجبين ، بل والمبررات "المنطقية والعقلية" لأكثر المباديء سفالة وحقارة ووضاعة.
من هذه الشاشة تنتقد المقدسات ، وتسب الأنبياء، وترفض الايمان بالله الواحد القهار، وتكذب على تاريخ المصلحين، وتروج لحكايات عفنة عن كتب تكدس عليها غبار الزمن فلا تتصفحها إلا وتسقط صفحاتها بين يديك. من هذه الشاشة تبصق على الثقافة والكِتاب والعلم وسيلتف حولك الجهلة كما يتجمع الذباب حول قصعة من الفضلات.
لقد فقدت الوثائق القيمة قيمتها ومصداقيتها بمجرد وضعها على الانترنت. فكم من الوثائق والحقائق أصبح مشكوكاً في صدقيتها ودقتها بعد أن انتشرت على الأثير الالكتروني، مع العلم أنها قد تتمتع بقدر كبير من الأهمية. فمثلاً بمجرد أن أفرجت الخارجية البريطانية عن الوثيقة الشهيرة للمستر "همفر" التي يروي فيها قصة نشر الوهابية في المنطقة العربية فقدت الوثيقة مصداقيتها وأصبحت، بعد انتشارها على الانترنت كانتشار النار في الهشيم، في نظر الكثيرين، مجرد تلفيق وافتراء على المذهب الوهابي. ولا يستطيع أحد الآن إثبات صحة الوثيقة أو نفيها، لا لشيء إلا لإنها غدت مادة انترنتية مبتذلة.
ومما جعل الانترنت تخسر الكثير من مصداقيتها أنها غدت أشبه بمزبلة للفبركات والتزويرات الفنية، فما أسهل أن تحصل على صورة لشخص ما ثم تجمعه بصورة شخص آخر ربما يكون مجرماً أو شريراً أو عدواً، فيظهرا وكأنهما صديقان، وذلك طبعاً بعد معالجة الصورة ببرنامج "الفوتو شوب" وسواه، ثم تنشرها على الشبكة ليراها الملايين. وكم ضحكت عندما وجدت نفسي في صورة واحدة مع شخص قيل إنه رجل مخابرات بعد أن تبرع أحد أولاد الحلال بفبركتها ونشرها على الانترنت كي يظهرني كعميل لإحدى وكالات الاستخبارات. والمضحك في الأمر أن البعض تلقفوها وتبنوها كما لو كانت صحيحة.
وقبل فترة وجيزة أظهر أحدهم صورة منشورة على الانترنت للرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي وهو يزور متحفاً يوثق جرائم جهاز "السافاك" السابق الذي كان تابعاً لشاه إيران. وبدلاً من أن يحدد مناسبة وجود الرئيس في المتحف وهو ينظر إلى مجسّم لسجين معلق من رجليه ويتعرض لجلد مبرّح، قال الشخص الذي عرض الصورة على شاشات التلفزة إنها صورة للرئيس الإيراني وهو يحضر إحدى عمليات التعذيب التي تقوم بها الميلشيات الإيرانية في العراق.
لقد أصبح أمر الذين يُظهرون وثائق وصوراً انترنتية على شاشات التلفزة لإثبات وجهة نظرهم في هذه القضية أو تلك يبعث على السخرية والضحك، بحيث تحول الأمر إلى نكتة، فقلة هم الذي يصدقون مثل تلك الوثائق العنكبوتية السخيفة.
حتى الصحف والإذاعات والتلفزيونات قلما تثق بأخبار الانترنت وموادها. فمثلاً عندما تعيد الفضائيات نشر شريط مصور لعملية تزعم إحدى الجماعات أنها قامت بها في العراق مثلاً ضد قوات الاحتلال الأمريكية تضطر الفضائيات إلى التنويه بإن الشريط منشور على الانترنت، وليس هناك وسيلة للتأكد من صحته، أي أنه قد لا يكون حقيقياًً، وبالتالي تضع إشارات استفهام حول حدوث العملية، وكأنها بدورها تحذر المشاهدين من تصديق كل ما يجدونه على الشبكة العنكبوتية. بعبارة أخرى فإن "كلام الجرايد" الذي كنا نسخر منه أصبح أكثر مصداقية من "كلام الانترنت"، فعلى الأقل يمكن اقتباس خبر من صحيفة دون التنويه بعدم القدرة على التأكد من صحته.
ولو توقف الوضع عند الوثائق والصور والأشرطة المفبركة عنكبوتياً لهان الأمر، لكن البعض راح يؤلف قصصاً وحكايات سريالية مضحكة للنيل من هذا الشخص أو ذاك معتمداً على سرعة انتشار الخبر الالكتروني وسذاجة بعض متعاطيه، فقبل أيام مثلاً نشر أحد "أولاد الحلال" إياهم مقالاً تلقفته شبكة الانترنت يروي تفاصيل الاستقبال الخيالي الخاص الذي أقمته أنا شخصياً حسب زعمه لنائب رئيس الوزراء الإسرائيلي شمعون بيريز. ويقول صاحبنا في ديباجته الملفقة تلفيقاً جميلاً: "تقدم الجميع "فيصل القاسم" مرتدياً بدلة زاهية وربطة عنق ذات لون فاقع وأخذ يصافح "بيريز" بحرارة ويلتقط معه الصور التذكارية داعيا إياه - في زيارته المقبلة أن يزوره في منزله ليتناول طعام الغداء معه وزوجته وأولاده معلناً للضيف بأن هذه الصورة التي جمعته به ستأخذ مكاناً وحيزاً ظاهرين في صالون بيته!!"والحمد لله إنه لم يقل إنني طبخت له أكلة "مجدّرة". والمضحك في الأمر أن البعض صدق هذا السيناريو وراح يعاتبني بشدة على استقبال بيريز الذي لم يحدث أبداً. ثم انبرى بعض المواقع الالكترونية يعيد نشر المقال المتخيـّل كما لو أنه حقيقة ثابتة دون أن يعلم أنه مجرد "كلام انترنت".
لا ضير أبداً في أن تفتح الشبكة العنكبوتية أبوابها للتنكيت والتهريج والقص واللصق والفكاهة والنميمة والقيل والقال طالما أن بعض الناس يميلون إلى تصديق أغرب الأشياء وأكثرها مجافاة للحقيقة، فهذه قد تكون بهارات صحفية مطلوبة أحياناًً من القراء أنفسهم، لكن يُخشى في أن يصبح الهزل السمة العامة للانترنت بعد أن غدت أشبه بمكب هائل، أو حاوية نفايات، فتفقد قيمتها كأعظم فتح إعلامي في التاريخ. يقول الانجليز إذا كانوا غير متأكدين من صحة خبر ما: "لنأخذه مع "قبصة ملح"، أي أن لا نصدقه تماماً. وأرجو أن لا يجد مرتادو الشبكة العنكبوتية أنفسهم في يوم من الأيام مضطرين لأخذ مواد الانترنت وأخبارها مع صاع ملح.
www.fkasim.com
في الأحد 08 إبريل-نيسان 2007 07:08:26 ص