كفانا تسولاً وذلاً..
بقلم/ صالح السندي
نشر منذ: 12 سنة و 6 أشهر و يومين
الأحد 24 يونيو-حزيران 2012 05:15 م

توالت التقارير الدولية والدراسات والإحصائيات عن الأوضاع الإنسانية الكارثية في اليمن من مجاعة وأمراض وأوبئة وغيرها من السلسلة الدرامية المأساوية الطويلة التي لا تنتهي من المخاطر والأوجاع, وتبنت منظمة أوكسفام والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية العاملة في اليمن , سرد دراسات معمّقة في هذا الجانب , وعليه انتشر إسم اليمن في الفضائيات والإعلام الخارجي ليس كبلد ذات أوضاع أمنية وسياسية متدهورة – فحسب- بل كبلد فقير مهدد نصف شعبة بالمجاعة ويعاني ملايين الأطفال بسوء التغذية الحاد وخطر الوفاة , وعلية تبنت أكثر المنظمات الإنسانية والجمعيات الخيرية والدول وفاعلي الخير حملات إعلامية ودعائية صاخبة لإنقاذ اليمن من شبح الفقر والموت الزؤام تحت مطرقة المجاعة القاهرة.

وللأسف الشديد – أقول للأسف-لاقت هذه الحملات الدولية رواجاً كبيرا بين الأوساط اليمنية السياسية والمثقفة منها خاصة وصاحبها ردود افعال مخزية ومخجلة من الشكر والعرفان لتلك الدول والشخصيات بامتهان شديد , بل والدعوة إليها والترويج لها , وان كنا نقدر ما يقوم به البعض من حملات إنقاذية وجمع تبرعات لليمن , ولكن يجب ان نقف وقفة جادة وصادقة مع أنفسنا ونبحث عن هويتنا الحضارية والثقافية بين الأمم , يجب ان نعيد دراسة أصالة وعراقة الإنسان اليمني وماضية وتأريخه المليء بالعزة والكرامة والإباء , يجب ان نقرأ سيرة الفاتحين ورجالات صانعي الأمجاد والحضارات الممتدة من ارض مملكة سبأ الى مختلف أصقاع الدنيا , التي رفدت الإنسانية دوما بالحضارة والعلوم ومختلف الثقافات والمعارف, بل وسيّرت القوافل التجارية بين القارات , وربطت الشرق بالغرب عبر جسور وطرق التجارة العالمية وتبادل السلع.

انه لشئ مخجل حقاً ان تصبح اليمن ’’دولة متسولةٌ بامتياز’’ في المجتمع الدولي , وان تحتل المرتبة الأولى في قائمة الدول العشر الأكثر فقراً, وان يتم تناولها في الإعلام الدولي كحلقات نقاشية وحوارية ساخنة كوضع إنساني مأساوي, والشئ المخجل الأكبر ان تتبني أكثر الأوساط اليمنية ظاهرة التسول ومد اليد للخارج كثقافة متجذرة في النفوس وسياسة مدرجة ضمن سياسات الدولة , وان تكون مجرد امرا طبيعياً واعتيادياً , وان يصبح التسول نغمة استثنائية للخارج يتغني بها أصحاب السلطة ومن يدور في فلكها , فهل أصبحت اليمن الى هذه الدرجة دولة فقيرة جدا وعاجزة كل العجز عن ايفاء احتياجات ومستلزمات المواطنين من ماء وغذاء وكهرباء وخدمات صحية وغيرها , إذن فلتستقيل الحكومة ..وليحلّ البرلمان .. وليستقيل جميع الوزراء والقادة من مناصبهم.

بالأمس برلمان باراغواي يقيل رئيس الدولة فرناندو لوغو من منصبة بسبب التقصير في أدآء واجبة وليس بسبب إجاعة شعبة , حكومة ليست بقادرة على توفير الخدمات الأساسية و حفظ كرامة الإنسان اليمني وصون ماء وجهه ومقامه وقيمته بين الأمم , كان الأولى عليها الإستقاله والإنسحاب فورا من موضع السلطة والقرار, بدلاً من الجري هنا وهناك وراء الدول والمنظمات المانحة والبحث عن مصادر رزق ودخل والتسول لإجراء مؤتمرات مانحين وداعمين لليمن , عارٌ.. ان تصبح اليمن في ظل هذه الحكومات المتعاقبة بلدا متسولاً على قارعة طرق الأمم والدول متوجهة الى أبواب الجوار والخارج لمد يد العوز والحاجة , عارٌ ان تكون ردود أفعالنا بالشكر والحمد لولي النعمة وصاحب الفضل وندعو له ونتقرب له مهما كان , عارٌ.. ان تكون اليمن غنية بثرواتها النفطية والمعدنية وبخصوبة أرضها وزراعتها ومصادر الطاقة والثروات البحرية الغنية , وتتوجه الى طلب المساعدات والمنح والمعونات الغذائية والإقتصادية والنفطية من الخارج.

ماذا بقى للوطن من كرامة حتى يحافظ على ماء الوجه ومكانته ومقامه بين الأمم , فمن دولة فاشلة الى دولة فقيرة الى دولة مصدرة ومفرخة للإرهاب الى دولة متسولة , فهل وضعت الحكومة أولويات المواطن وحاجياته في أولى اهتماماتها وأوجدت الحلول والبدائل الممكنة لسوق اليمن الى الإكتفاء الذاتي والأمن الغذائي وقامت بواجباتها على أتم وجه ممكن ؟!

ان سياسة النظام السابق -متمثلا بالرئيس السابق- جعلت من اليمن دولة متسولة تستمد المعونات ومقومات البقاء والدعم من الخارج , وان كانت اغلب المنح المالية وغيرها تذهب الى جيوب المسؤولين وتصرف على الرفاهية لنظام يغرق كافة أبناء شعبه في مستنقع الفقر والحاجة , ورسم الرئيس السابق ’’التسول الدولي’’ كثقافة وطنية , ولم تخف اكثر تصريحاته حينها من الدعوة الى ذلك بل والمفاخرة بهذا الشئ , والإعلان عن مؤتمرات المانحين والداعمين لليمن , وأصبحت عقيدة وثقافة راسخة في الأوساط السياسية اليمنية ,فسرعان ما تنطلق الوفود للخارج لمؤتمر مانح ما حتى تعود الى آخر وهلمّ جرّا , ومن عمل في السلك الدبلوماسي او في الخارجية وتوغل في مراكز السلطة والقرار في اليمن يعرف كيف يتم التعامل مع الوفود الخارجية القادمة لليمن كوفود مانحة , ويتم الإعلان صراحة ودون خجل عن طلب المساعدة والحاجة والدعم لمرفق ما او مؤسسة ما والتعذر بضعف وشحة الإمكانيات والتشهير باليمن كدولة فقيرة معدمة.

ولأن اغلب الدول -و مع خبرتها الطويلة في التعامل مع الحكومة وأجهزة الدولة- تعرف ان اغلب تلك المساعدات لا تذهب الى مكانها الصحيح ولا تنفق في الإستثمارات التنموية والخدمية , فيتم عوضاً عن تقديم المعونات بصورة مادية القيام بالتجهيزات والإمكانات او بناء المستشفيات والجامعات والطرقات , مما جعل الثقة مفقودة بين المانح والمستقبل , وبذا صارت ومن حينها ظاهرة التسول السياسي للخارج مرض عضال مزمن يصيب الوطن وينخر في عظم السياسة الوطنية, ويعتبر مصدر دخل لبعض مراكز النفوذ والقوى, واصبح منهجا سياسيا يحتذى به , وتم بيع اليمن علناً والمتاجرة بها دولياً وعالمياً بغرض الكسب غير المشروع , ترك اليمن وعلى مدى عقود مرهوناً للخارج ولسياساته وقراراته وتدخلاته المستمرة , فليس هناك من دول تقدم معونات لدول ما إلا ولها مصلحة كبيرة جدا في بقاء تلك الدول تحت إرادتها وطوع كلمتها وسياساتها والحفاظ على مصالحها الإستراتيجية.

وهذه اليمن -وهذا حالها- لم تعد تلك المعونات المقدمة كفيلة بتحرر الإنسان من المجاعات والأمراض والأوبئة –فحسب- بل ساقت الأرض و الوطن الى قيود وأغلال الإرتهان للخارج , وأسقطته في مستنقع العبودية والذل والمهانة , كان الأحرى بالحكومة ان تقوم باستثمار تلك المعونات المقدمة في الإنشاءات التنموية وبناء المصانع ومراكز التوليد والإنتاج البشري والصناعي والتأهيل النوعي التي تعود على اليمن بالخير والفائدة والإنتاج الدائم , وتحد من البطالة وتصبح حينها تلك المشاريع المقدمه منتجة ومولّدة لعجلة الإقتصاد وديمومته , التي لن تتوقف يوماً ما طلبا لمعونات جديدة بعد نفاد المعونات المقدمة.

حين قامت الثورة الشعبية في اليمن -كان كلنا أمل- ان يتم تسخير الطاقة البشرية الهائلة والكوادر المؤهلة والخبرات السياسية والإقتصادية في مكانها الصحيح لتوفير أجواء وطنية حره تسمو بالوطن وتصنع يمناً حراً أبياً , وتنهض به وتنتج حكومة قوية وقادرة على النهوض بالإنسان وصنع التأريخ وتعيد لليمن العزة والمجد والكبرياء والشموخ, بعد ان وصل في عهد الرئيس السابق الى مستويات منحطة من الذل والإنهيار والإرتهان للخارج , ولكن للأسف تمضي السياسات على نفس المنوال وتسير على ذات الخطى وتعزف على نفس الأوتار من إتباع ذات السياسة من التسول وطلب المعونات والمساعدات من الخارج , دون توفير الحد الممكن من السياسات والدراسات الطارئة لتلافي’’ ثورة الجياع ’’ القادمة ومخاطر المجاعة والأمراض والأوبئة , التي تدق على الأبواب باستماتة شديدة.

الكل هنا ..غارق حتى أذنيه في التنافس والتناحر السياسي العقيم , الكل هنا.. يلعب على حبال السياسة وكسب المصالح والأطماع السياسية الآنية, الكل هنا .. يسبح على بحر من الضياع في ظل بلد منهك يموت جوعاً وفقراً وتسودة الإختلالات الأمنية والخلافات السياسية , ولا حلْ .. ولا خيار أمام النخب السياسية الفاشلة في إدارة عجلة البلاد وتغطية عجزها إلا التوجه الى حلول وقتية ومد اليد للخارج طلبا للمساعدة , أملاً في فتات يسد رمق وطن يحتضر تحت وطأة الفقر والحرمان وسياسة العقاب الجماعي التي أنتجتها الإقطاعيات الحاكمة المستبدة وتجار الحروب وتضارب المصالح وشبكة الفساد.

اكتب هذا بعد قراءتي في الشبكة العنكبوتية عن مبادرات لشخصيات عربية نكنّ لها كل الود والإحترام وهي تقود حملات إعلامية ودعائية من اجل إنقاذ اليمن , مع قيام بعض الدول ايضا بتبني هذه الحملات الإنقاذية مع حمّى لهيب نار الأخبار والتقارير عن الأوضاع المأساوية , ولكن ما أثار حفيظتي وبشدة .. ردود الأفعال المخجلة من قبل البعض التي -اقل ما يقال عنها انها ردود مهينة جداً للإنسان اليمني- حين يتم التمسح على عتبات الدول والشخصيات العامة والدعاء لها بطرق مشينة ومهينة جداً لاترقى لمستوى الإنسان والشموخ المتأصل في النفسية اليمنية ,ولا تصل لمستوى العزة والكرامة والإباء الذي تمتع به الإنسان اليمني على مرّ التأريخ, ولا تعبر عن الشريحة العريضة من أبناء اليمن , التي تفضل الموت جوعاً بدلاً من التسول والتسكع على ابواب السفارات و الدول .

وعلية ما نحن بحاجة إليه فعلا هو ايجاد سياسات عاجلة وانقاذية طارئة واتخاذ خطوات حازمة لإنقاذ أنفسنا بأنفسنا أولاً , فلو تم استثمار منابع الطاقة والثروات الإستثمار الصحيح , ولم تم بتر منابع الفساد واستئصالها من المرافق الإدارية والحكومية والخدمية, ولو تم محاكمة الفاسدين وناهبي المال العام , ولو تم توزيع الثروات التوزيع العادل , لما رأينا مجموعة قليلة من الأغنياء تتحكم في مصير ومدخرات الوطن بأكمله , وتحيا على حساب جوع الملايين من البشر, معالجة السياسة اليمنية هي الطريق الأمثل لإنقاذ اليمن وصنع مستقبل أفضل لأجيال قادمة , قد تتسائل بمرارة عما قدمناه لها , نتمنى ألا تأتي وهي تبحث عن مصادر دعم وطلب معونات من الخارج وتسير على نفس النهج والمنوال, فكفانا تسولاً وذلاً وانهزاماً وجرياً ورآء الخارج.