|
ما هي مفاتيح النصر والتمكين والنهوض؟
==
أما قبل:
عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال:
اجتمع في الحِجْر مصعب، وعبد الله، وعروة بنو الزبير، وابن عمر، فقالوا: تمنوا.
فقال عبد الله: أما أنا، فأتمنى الخلافة.
وقال عروة: أتمنى أن يؤخذ عني العلم.
وقال مصعب: أما أنا، فأتمنى إمرة العراق، والجمع بين عائشة بنت طلحة، وسكينة بنت الحسين.
وأما ابن عمر، فقال: أتمنى المغفرة.
فنالوا ما تمنَّوْا، ولعل ابن عمر قد غفر له.
أبدأ بهذه القصة التي أوردها الذهبي في سير أعلام النبلاء، لئلا نستهين بأحلام المجالس، فكل الإنجازات كانت فكرة، يتداولها بعضهم ربما بين أربعة جدران، فتغدو مطلبا يصنع التغيير في مجرى الأحداث.
وحلمنا هنا يتعلق بالأحداث الجارية، أحداث طوفان الأقصى، والحرب العالمية على غزة، وأقول الحرب العالمية، لأن غزة لا تواجه الصهاينة وحدهم، ولكنها تواجه الغرب الأمريكي والأوربي الذي كشفت غزة عن وجهه القبيح وازدواجية معاييره، وزيف شعاراته التي طالما ترنّم بها، فهاهي حقيقة تمثال الحرية ونداءات ( الله محبة، على الأرض السلام) والحلم الأمريكي المثالي تتكشّف حقيقته أمام العالم كله.
أما بعد:
لن أُسلط الضوء على الأوضاع الكارثية في غزة ولن أُشير إلى صمود أهلها، فجميعكم يتابع الأحداث بإحاطة وينشر بتفاعل بالغ، ولا أشك في أنكم تعرفون جميعًا كيف تنصرون إخوتنا في غزة.
لكنني أتحدث عن نصرة غزة وفلسطين من طريق آخر، طريقٍ طويل، لا يتعلق بمعركة طوفان الأقصى فحسب، ولا يتعلق بفلسطين وحدها إنما يتعلق بمعركة الأمة كلها، أكتبُ لأبيّن حاجتنا إلى أدوات نصرٍ شاملة، لا تنصر غزة وحدها، ولا سوريا وحدها، ولا العراق وحده ولا اليمن وحدها ولا تونس ولا السودان وحدهما ولا المُعتقلين في سجون الظلمة والمجرمين وحدهم، وإنما تنصر كل قضايا الأمة وكُل مُسلم على الكوكب.
نحن هنا من أجل صناعة أنفسنا، قبل صناعة النصر، ومن أجل ذلك كانت هذه المفاتيح الثلاثة للنصر والتمكين، عسى الله أن يكتب لنا ولكم المثوبة والسداد، ويكون كل فرد منكم مُساهمًا في إحداث تغيير بأحوال هذه الأمة.
أولا: العقيدة أساس النصر والتمكين:
إذا أردت أن تعرف قيمة العقيدة، فارجع إلى أحوال العرب، ماذا كانت أحوال العرب أهل الأوثان قبل أن يستنيروا بنور العقيدة الصافية؟ كانوا همَلًا متناحرين، متفرقين بين التبعية للروم والتبعية للفرس، لا حضارة لهم، ولا نظام يجمعهم.
جاء الإسلام ليقيم ظهور البشر التي طالما انحنت ركوعا لغير خالقها، وأرهقتْها رِبْقة تأْلِيه الملوك والطواغيت، جاءت ليستقيم أمر الإنسان مع فطرته الشاهدة على وحدانية الله، وتُوحِّد وِجْهَته إلى إلهٍ واحد لا يُعبد بحقٍ سواه، وهي على ذلك الطريق تُحرّك الوجدان للوصول الإنسيابي إلى إفراده تعالى بالعبودية {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [الزمر: 29]، أو هي كصيحة يوسف في غيابت السجن {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [يوسف: 39].
جاء الإسلام ليضع تصورات واضحة عن الكون والحياة وعلاقة الخالق بالمخلوق وعالم الغيب، فيعلم الإنسان في ظل هذه العقيدة المنشأ والمصير، وبينهما الوجهة والمسار، فكانت مصدر سعادته كما قال الشاعر:
إنَّ السعادةَ أن تعيشَ لفكرةِ الحقِّ التليد
لعقيدةٍ كبرى، تحلُّ قضيةَ الكونِ العتيد
وتجيبُ عمَّا يسألُ الحيرانُ في وعيٍ رشيد
فتشيعُ في النفسِ اليقينِ وتطردُ الشكَ العنيد
وتردُّ للنهجِ المسددِ كلَّ ذي عقلٍ شريد
هذي العقيدة للسعيدِ هي الأساسُ هي العمود
-عمر بن الخطاب بالعقيدة تحول من راعٍ للغنم على تمرات، يأكل صنمه من العجوة حين جوعه، إلى خليفة للمسلمين ترتعد له فرائص الفرس والروم.
-بلال بن رباح، ذلك العبد الحبشي الذي يضنيه العمل بالنهار والسوط بالليل، لا ذِكر له بين الأنام، كان هملًا بين الناس، فتحول بعقيدة “أحدٌ أحدٌ” التي كان يرددها من سويداء فؤاده على الرمضاء وقت القيظ وتحت وطأة التعذيب، إلى سيد في قومه، تحول إلى بلال مؤذن الرسول، الذي يعرفه كل طفل صغير، فما أن يذكر الأذان في العهد النبوي حتى يتبادر إلى الأذهان اسم بلال.
-تلك العقيدة التي اعتمد عليها قائد المسلمين خالد بن الوليد وهو يهدد أعداءه: “جئتكم برجال يحبون الموت كما تحبون الحياة”، لماذا؟ لأن عقيدتهم تكليف ومثوبة ثم موت وبعث ونشور، ثم إلى جنة أعدت للمتقين، إيمانهم بالغيب هو من جعلهم يحبون لقاء الله والموت في سبيله، أكثر من حب أعدائهم للحياة وحرصهم عليها.
قد حسم القرآن قضية التمكين، إذ بيّن أن توحيد الله وعبادته سبحانه وحده – وهو لبُّ العقيدة- هو سبيل التمكين في الأرض، فقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [النور: 55].
إذا أردت أن تعرف أثر العقيدة فانظر إلى الأحداث الجارية، فالصهاينة أصحاب العقيدة الخرِبة الفاسدة، يفرون ويصرخون في القتال، لماذا؟ لأنهم أحرص الناس على حياة، أي حياة ولو كانت مهينة، لماذا؟
لأنهم لا يحملون عقيدة تكون بوصلة لقلوبهم وجوارحهم، في مقابل أصحاب عقيدة صافية، يقاتل من مسافة صفر، غير عابئ بترسانة الأسلحة التي هي الأقوى في الشرق الأوسط، لا يبالي بالطائرات التي تلقي صواريخها، لأنه يعلم معنى الله أعلى وأكبر.
وكم عانت الأمة وقت الأزمات بسبب فساد العقيدة، ففي الوقت الذي كانت جيوش الأعداء تعيث في الأرض فسادًا، كان البعض يترك الجهاد بحجة أن مدافعتهم اعتراض على قدر الله، فبمثل هذا الفساد العقدي أُتِيَتْ الأمة.
ربما يتبادر إلى الذهن لدى الحديث عن قوادح العقيدة أنها الصورة النمطية القديمة كالسجود للأصنام، أو دعاء غير الله والاستغاثة بالأموات والذبح لهم، كلا، هناك صور عصرية كثيرة تقدح في العقيدة:
-اعتقاد عدم صلاحية الإسلام لهذا الزمان قدح في العقيدة..
-القول بالاقتصار على القرآن دون السنة قدح في العقيدة..
-اتخاذ تشريعات وأعراف وتقاليد مخالفة لما أنزله الله قدح في العقيدة..
-مودة أهل الباطل وإعانتهم على أهل الحق قدح في العقيدة..
-اتهام المنهج الإسلامي بالتحيّز ضد المرأة وانتقاص حقوقها ومكانتها قدح في العقيدة.. فندعو النسويات المُتطرّفات إلى مراجعة عقيدتهنّ أيضا.
==
ثانيًا: وضوح الراية
تحت أي راية نتّجه إلى رفعة الأمة وتحرير المقدسات؟
تحت راية العروبة والقومية، التي رفعناها حينًا من الدهر؟ لقد أصبحت فكرة خاوية على عروشها، آلت بأصحابها إلى التناحر والتباغض والتَّحارب، وذهب كل منهم باتجاه التحالف مع أعداء الأمس.
تحت راية القُطرية والوطنية وحدود الجغرافيا؟ هذا بالضبط عين ما أراده سايكس وبيكو، قسموا الأمة إلى أقطار وبلدان تفصل بينها الحدود، وتشتت كلمتنا، وصار كل حزب بما لديهم فرحون، وفرقّنَا عدونا فتسيّد علينا، ولم تتفق كلمتنا على شيء من مصالح الأمة.
هل نرفع راية الإنسانية والتعايش الإنساني الذي يعني الذوبان وتمييع الدين؟ وها نحن نكتوي بنيران نسبية القيم الغربية التي لا تعرف قيم الإنسانية والعدل والرحمة إلا في إطار مصالحها.
فلا بديل لنا عن أسلمة الراية، إعلاننا هويتنا الإسلامية في شجاعة هو نقطة البداية، ليحيا من حيّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، نجهر بذلك غير متوجسين من صياح الآخرين، فهم يعرفون كما نعرف تماما أن الإسلام في صورته الصحيحة التي جاء بها لا يحمل سوى السماحة والرحمة والعدل للناس جميعا مؤمنهم وكافرهم.
يحكي العلامة عطية سالم أنه خلال رحلة داخلية في نيجيريا مع الزعيم النيجيري الراحل أحمد بلو، سمع بأنه في أثناء حرب فلسطين جهزت سفينة حربية لإنقاذ القدس، فسمع المسؤولون التنادي بالقومية العربية وأن على العرب حماية القدس، وعليهم مسؤوليتها، فقال المسؤولون هناك: إذا كانت القضية الفلسطينية قضية عربية وليست إسلامية فلسنا بعرب، وأمروا السفينة بالعودة.
كم كانت الجناية على القدس كبيرة، جراء حصر قضيتها في دائرة ضيقة سواء كانت وطنية أو عربية، وعدم الاستفادة من الدائرة الإسلامية التي تعد هي الأكثر اتساعا واستيعابا للطاقات التي تستفيد منها القضية الفلسطينية.
وتعالوا نتأمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يختبئ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ وَالشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ من شجر الْيَهُود ).
ركزوا هنا على خطاب الشجر والحجر، ماذا يقول؟ على من ينادي؟ هل يقول: يا عربي؟ يا كردي؟ يا سوري؟ يا خليجي؟ يا مصري؟ يا مغربي؟……
إنه يقول: “يا مسلم، يا عبد الله”، إنه وضوح الراية والانتماء، يشير النداء “يا مسلم” إلى أسلمة الراية اللازمة للنصر والتمكين، ويشير “يا عبد الله”، إلى صلاح هذه الأمة والتزامها إطار أدب العبودية لله تبارك وتعالى، وهذان الوصفان هما ما يلزم لجيل النصر والتمكين والتحرير.
بيد أن أَسْلَمَة الراية لا يعني إسقاط غير المسلمين من الحسابات، فالحضارة الإسلامية عاش في ظلها المسلم والمسيحي بل واليهودي، وكانت هذه الملل جزءا من الحضارة الإسلامية.
أَسْلمة الراية لدى كل مؤمن عقيدة، ولدى غير المؤمن حتمية مصلحية، فما شهد العالم حضارة كحضارتنا الإسلامية، التي نزعت عنها عصبيات الجاهلية، وصهرت في بوتقتها الناس على اختلاف الأجناس والعرقيات واللغات، فهي تجربة تاريخية ناجحة تعود متى اكتملت أركانها.
==
ثالثا: خرِّبوا صوامعكم
استلهمت هذا العنوان من صيحات جدّي الشيخ عبد القادر الجيلاني طيب الله ذكره ومقامه، حين نادى في أهل العراق، بقوله:
يا من اعتزل بزهده مع جهله: تقدم واسمع ما أقول:
يا زهاد الأرض تقدموا.
خربوا صوامعكم واقربوا مني، قد قعدتم في خلواتكم من غير أصل.
ما وقعتم بشيء. تقدموا”..
يُعقّب صاحب كتاب المنطلق (محمد أحمد الراشد) على صيحة الجيلاني بقوله: “خرب صومعتك أيها الهارب الذي ترزح تحت نير الأفكار الأرضية، وآراء طواغيت القرن العشرين، خذ مكانك في صفوف دعوة الإسلام”.
قلت: إنها دعوة إلى العمل وطرح الأمنيات المجردة، التحرك وعدم انتظار تحقيق نبوءات النصر، نحن نؤمن بكل ما جاء منها في آية أو حديث صحيح، لكن للنصر سنن، النصر لا يُنتظر إلا من باب الرجاء واليقين، لكنه يُزحف إليه، ويُركض إليه.
لا ينبغي أن يكون بضاعة أحدنا في نصرة الإسلام أمنية أو دمعة تسيل على الخدين، إنما هو العمل الجاد الدؤوب من أجل نصرة الأمة وقضاياها.
الصهاينة يعلمون جيدًا أن نهايتهم وشيكة، وتلاحقهم ما يعرف بلعنة العقد الثامن وهو مصطلح يشير إلى زوال دولة الاحتلال في عقدها الثامن الذي لم يتبق على تمامه سوى خمس سنوات، على أساس أن الممالك اليهودية القديمة زالت أو بدأت في التفكك في عقدها الثامن.
رئيس الوزراء السابق إيهود باراك، عبّر في مقال له على صحيفة يديعوت أحرونوت العام الماضي، عن مخاوفه من زوال دولة إسرائيل في غضون ست سنوات.
وعام 2017م، دعا رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى الاستعداد لمواجهة أخطار وجودية مقبلة، معربًا عن مخاوفه من عدم وصول دولته إلى المئوية، وأطلق وعودا بأنه سيعمل جاهدا ليتجاوز بدولته هذه العقدة.
الحديث عن نهاية دولة الاحتلال في عقدها الثامن، مشاعٌ في الأوساط السياسية والدينية، والشعبية خاصة في اليهود الشرقيين، وعلى الرغم من ذلك، يعملون لدولتهم كأنها ستعيش خالدة أبد الدهر، فهل يسوغ لأمة وعدها الله النصر والتمكين أن تقعد في انتظار تنزّل النصر أو ظهور المهدي المنتظر؟
تأكّدوا لن تهبط عليكم الحلول بالمناطيد؟
ماذا نفعل؟!
ابحث لك عن دور، حتما ستجد فقط إذا قررت ذلك، هدهد سليمان تحرك بإيجابية من أجل الدين وتوحيد الله، لم ينتظر تكليفا، وجاء من سبأ بنبأ يقين، قصه على سليمان عليه السلام {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل: 23، 24].
فدله على جريمة الشرك التي ترتكب في هذه البلاد، فكانت سببا لتحرك نبي الله سليمان من أجل جناب التوحيد.
ونملة سليمان، كانت نملة واحدة ضعيفة، لم تكترث لضآلة حجمها حينما حذرت أمتها من جيش سليمان {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 17، 18].
واعلم أن فردا قد يحيي أمة، وأن الجهد الفردي يراكم بعضه فوق بعض، حتى يصير إنجازا كبيرًا.
” أينقص الدين وأنا حي” كلمات قالها سيدنا أبو بكر في أحلك ظروف المسلمين، ذلك الوقت الذي قال عنه عروة بن الزبير رضي الله عنه: كَالْغَنَمِ الْمَطِيرَةِ فِي اللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ، لِفَقْدِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِلَّتِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ.
قالها الصديق وقت امتناع بعض القبائل عن الزكاة بعد وفاة رسول الله، ولكن الصديق لم يتحمل عقله كيف ينقص الدين وهو حي،
قالها وهو موقن أن كل فرد منا مسؤول عن نصرة الدين، وأن الشخص الفعال المنشغل بنصرة دينه يمكنه أن يغير المعادلة.
وقف رضي الله عنه وقال “إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أينقص وأنا حي؟!”، وأصر على قتال المرتدين ولم يقل أن الظروف صعبة والصحابة في حالة حزن والجيوش غير مؤهلة، لكنه كان يرى أن كمال الدين والمحافظة على شريعة الرحمن كما أنزلت على الرسول هي الأساس، فكانت حروب الردة التي حفظ بها الدين وكسر شوكة القبائل الباغية. ولكن هذه الكلمات لم تكن وقود الانطلاق في حروب الردة فقط، فهي أسلوب حياة الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فكانت من قبلُ شعارًا للإمام أحمد بن حنبل يوم محنة خلق القرآن، وقد وقف وحيدا كما وقف أبو بكر، حتى قال الحافظ علي بن المديني: إِن الله عز وجل أعزَّ هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث؛ أَبو بكر الصديق يوم الردة، وأَحمد بن حنبل يوم المحنة. والسؤال الآن: أينقص الدين وأنت حي؟!
تلك هي مفاتيح النصر والتمكين، ها هي جعبتي قد نفد منها الكلام، سوف تموت هذه الكلمات إلا إذا وجدت صدى لها يتحول إلى طاقة عمل.
ربما لم تقدم كلماتي جديدا على أسماعكم، إلا أنه جهد المقل، وتذكرة أُمرَ بها المؤمنون، وقد ينعم الله عليّ بأن يكون لهذه الكلمات اتصال بالحق والخير، ولها من قوانين الله في خلقه سند، ومن إلهامه لعباده مدد كما يقول الأديب عبد الوهاب عزام في “الشوارد”، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
في الخميس 14 ديسمبر-كانون الأول 2023 09:26:39 م