المـقـامـة الأيـوبيــة
بقلم/ نشوان السميري
نشر منذ: 17 سنة و أسبوعين و 4 أيام
السبت 27 أكتوبر-تشرين الأول 2007 04:58 م

مأرب برس – خاص

حدثني عباس بن الربيع فقال:

عرفتُ فتىً عصامياً من أسرة متوسطة ميسورة، ينبض حياة ويشع تفاؤلا. كان "أيوب" وهذا اسمه، في العقد الثاني من عمره، عندما رحل ضارباً في الأرض يطلب العلم وينشد المعرفة. وقد تنامى إلى أسماع أهالي بلدتنا من بعض التجار ممن وقف على حاله؛ أنه يعيش في غربته في يسر وستر.

وبعد سفر"أيوب" بزمن اجتاحت البلدة جائحة أكلت الزرع وأضمرت الضرع، وعاش الناس أحداثاً جساماً ونوائب قاصمة. فاختفت الطبقة الوسطى أو كادت وقلة هم أولئك المحظوظين الذين استطاعوا اللحاق بركب القطط السمان. فيما بقي عوام أهل البلدة أسرى الخصاصة والحرمان. وكان أقرباء "أيوب" قد وقعوا بدورهم بين المطرقة والسندان.

وفي شتاء قارس غير ممطر، حلّ ركب أيوب بيننا، فأطلقت حناجر النسوة من أهله زغاريد البهجة والفرح، وهطلت دموع أمه سخية كالسيول، وعلت ضحكات أشقائه حتى غطت صوت الرعود.

وبعدما زالت نشوة اللقاء واستقر الحبور؛ تأمل صاحبنا "أيوب" فيما ترك من رغد وهناء فلم ير سوى الستر غطاء، فاعترته الحمّى وعانقته الكآبة. ولطالما حدثني بعدها : أنه ذاق مرارة الحقيقة لأول مرّة منذ مولده هنا. وقعد لا يفتأ يتطلع إلى سقف حجرته كالموتى. ولم يعلم أهله لما حلّ به سببا!.

قال ابن الربيع :

فما كان مني وقد نبأ إلى مسمعي ما هو فيه، إلا أن زرته، استنهض همّته، وأشحذ عزمه، وأوقظ إيمانه بالقضاء. ومازلت به متودداً ملاطفاً حتى هشّ لي وبشّ، فباح لي بسرّه وطرح عن كاهله همّه، فما بين السفر والطموح بات معلقا وما بين الواجب والبقاء ؟.

  فما زدتُّ على أن قلت له: يا أيوب إن في السفر خمس فوائد.. وإنك قد قطعت الأميال، وهجرت أهلك السنوات الطوال، فاعقد عزمك وثق بالله المتعال، فإن دوام الحال من المحال، واتمم يا بني ما بدأته من طلب العلم بجهدك، وتمعن في اختيار من تقاسمه سرك، وقد قيل:" إذا صاحبتَ فصاحب من ينسى معروفه عندك".

وعلى كره للسفر، امتطى أيوب طائرته في الثامن من شهر صفر. وعاد ضارباً في الأرض يطلب بيقين فرصته. وقد وصف لنا بعض من رآه بعدها ضنك عيشه وسعة أمله.

قال الراوي : ويذكّرني حديث أيوب بحديث جماعة من مثقفي حيّنا، قد انساقوا حالمين نحو الأعلى، وهم يعيشون على الكفاف الأدنى. يترنمون بأشعار الشنفرى وعروة بن الورد وكل صعاليك الدنيا. وقد ملئت قلوبهم إيماناً وعقولهم علما. غير أنهم يتأبطون – كارهين – شراً وقدراً، يتمنّون قتله ويريد فناءهم.. يدعى الفقر والفاقة.

خبير إعلامي ومدرب

n.sumairi@gmail.com