العاشر من سبتمبر في أمريكا
بقلم/ محمد جمال الدين
نشر منذ: 14 سنة و 10 أشهر و يوم واحد
الأحد 17 يناير-كانون الثاني 2010 04:51 م

كانت الساعة قد تخطت الثانية عشر عندما عبرت قدماي آخر بوابة في مطار صنعاء نحو الطائرة التي ستحملني إلى عالم مجهول ، وبدأت دقائق اليوم العاشر من سبتمبر 2004 . تتسارع ، وأخذت الطائرة تهز جناحيها لتحلق على سماء صنعاء ، ولا أخفي عليكم فعندما رأيت صنعاء من عل , عيناي أغرورقت بالدموع لست أدري لماذا ؟ هل لفراق بلدي. أم لفراق ولدي؟ أم لأنني أسير إلى مجهول لست واثق من أنني سأعود منه ، وأخذت الطائرة تشق عنان السماء على أجواء البحر الأحمر ، لتحط بنا في القاهرة لنمكث ساعة أو تزيد قليلا .

وعندما حطت بنا الطائرة في مطار القاهرة أخذت الأفكار تصطدم في رأسي ، كيف سأواجه عالماً ينظر إلينا نحن العرب بأننا حملة الإرهاب وكيف سأتعامل معهم وأنا مجرد من اللغة الإنجليزية وهل سيحترمونا أم أم .......؟

كل ذلك كان يتضارب في رأسي ولا أجد جواباً ! 

ثم تهيئنا مرة أخرى للإقلاع إلى مطار( فرانكفورت) , ذلك المطار الذي طالما خوفونا منه ، سواء في معاملة أهله ، أو لاتساعه ، والخوف من الضياع في الممرات , وفقدان الطائرة التي ستحلقبنا في سماء المحيط .

وصلنا إلى مطار( فرانكفورت) في الساعة لا أدري... فقد اختلط الوقت ولم أعد أعرف الزمن , حتى ساعتي هي الاخرى أصابها الدوار فلم تعد تعرف الوقت .

وطئت قدماي المطار وأخذت أجول بنظري يميناً وشمالاً لعلي أجد من يمد يد العون فلمحت شخصاً له سنحة عربية , فاقتربت منه لأختبره ، فقلت السلام عليكم ، فقال : وعليكم السلام ، فهدأت سرائري وقلت : الأخ عربي ؟ فقال نعم ومن اليمن .

ويا للحظ إنه عربي ويمني وزيادة على ذلك فهو معي في نفس الطائرة التي أبحث عنها في متاهات مطار يتوه فيه البصير فما بال الأعمى مثلي ( بمعنى أعمى اللغة ) وبالفعل أخذني إلى ( الجيت ) الذي ستقلع منه الطائرة التالية إلى شيكافو بأمريكا – حمدت الله كثيراً فقد انزاحت غمة من الغمم .

أعرج بكم على معاملة الألمان لي بالمطار وللأمانة أقول أنني لم أجد شيئاً يذكر من ناحية التعامل فقد كان تعاملهم معي مثل أي شخص آخر .

نفضت الطائرة جناحيها وأقلعت تاركة ألمانيا خلفها ومتجهه نحو بلد الأحلام كما يسميها البعض ، وأخذت تسير على بساط أبيض ما يقرب من عشر ساعات وأنا يرافقني الجوع ويصحبني السهاد – الجوع لأنني لا أعرف أنواع المأكولات التي تقدم في الطائرة – وحين جاءت المضيفة لتقدم الطعام أشرت لها بيدي بعدم وضعه أمامي ولمحت في الطبق بعض العصائر فقلت ربما تسد شيئاً من الجوع ولكنني تذكرت المشروب المحرم فقلت لعله هو فأمرتها بالمغادرة طبعاً بلغة الصم البكم (إيه آه أممم ) وحين اشتد بي الجوع تذكرت أن أهلي قد وضعوا في حقيبتي اليدوية خبزاً وبعضاً من الأجبان والعصائر والتونة اليمنية المشهورة . فتناولتها وفتحتها على استحياء وأخذت شطر خبز وحبتين من الجبن وقنينة عصير ، وقلت اللهم لك صمنا ومن حلالك أفطرنا ...فأنا بدون طعام مايقرب من خمسة عشرساعة إضافة إلى ذلك فإني كنت قبلها أودع القات في اليمن فلم أتناول وجبة العشاء .

وفي تمام الساعة لا أدري بتوقيت ساعتي لكنني لمحت ساعة في المطار تشير إلى الثانية عشر ة والنصف ظهراً من يوم 10 سبتمبر والذي سيليه 11 سبتمبر- وهذا لسوء طالعي -.

نزلت من الطائرة أجر قدميا جراً ، وكأنني أواجه قدري المحتوم ودخلت في طابور الجوازات ، وإذا بأحد ضباط المطار يأخذني من الطابور إلى طابور آخر ، فأزحت حقيقة الخوف من النظرة لنا كأمة ..... عربية . 

والخوف الآخر أنني لا أفهم ما يقولون ولا يفهمون ما أقول فكيف موقفي .

تشجعت واستملكت قواي ورفعت رأسي لأشعرهم بأني لا يهمني شيئاً وأخرجت من محفظتي جواز سفري وظرف مغلق ، وكنت أظن في ذلك الظرف رسالة طرفة بن العبد أو بمعنى آخر ( لا يبرح العبدان حتى يقتلا ) قام ذلك الضابط القابع خلف مكتبه وأمامه جهاز الحاسوب يقلب أوراقي بعدما مزق غلاف تلك الرسالة وأدخل البيانات في حاسوبه .. .

قام بإعطائي استمارة وقال : ...... ؟ لست أدري ما قال لكنني فهمت أنه يريد مني تعبئة البيانات .

فأخذت نفسي ورجعت إلى الطابور لعلي أجد الفرج هناك وأخذت أجول بنظري وأرفع صوتا بالعربي لعل أحداً يجيب بنفس النبرة ، ولكن هيهات ، فلا لغة لمن تنادي . استدعاني ذلك الضابط مرة أخرى وأخذ مني الاستمارة وقام بتعبئتها بنفسه – لعله رحم حالي – وعرف أنني لا أفهم أحد ولا أحداً يفهمني .

ثم ألصق شيئاً في جواز سفري وأشار لي بالتقدم إلى طابور آخر هو طابور الجمارك, يا إلهي – خرجت من المأزق الثاني ، ودخلت في المأزق الثالث .

قام رجل الجمارك بوضع القفازين على يديه وأخذ يقلب ما بشنطتي اليدوية ! أما شنطي الأخرى فلها حكاية ، ويتحدث معي وأنا أهز رأسي إيجاباً حتى لو قال لي أنت الذي فجرت الأبراج لهززت رأسي ايجابا . الشيء الوحيد الذي فهمته منه أنه لمح في بعض الأوراق عنواني الذي سأصل إليه فهو مضلل بالأصفر وقد احتفظت به لكي أعطيه صاحب التاكسي إذا لزم الأمر .

عبرت بوابة الجمارك بعد ما قلت لها بملء الفم الكلمة التي أملكها هي وأخواتها ( ثانكيو ) .

لا تنسوا أيها القراء أنني أملك أكسكيوزمي وأخواتها فثانكيو من أخوات إكسكيوز مي . 

لم تنته الكرب بعد حينما تجاوزت عتبة الجمارك في مطار (شيكاغو) فما زالت المراحل طوال وعلي ان أدرك الطائرة التي ستحلق بي الى مدينة (سولت ليك تي)* في شمال الولايات وكان الفارق بين وصولي وإقلاعها ساعتين قد مضى منها تقريبا عشرون دقيقة , فأخذت استجمع ملكاتي اللغوي من (اكسكيوزمي ) وأخواتها _و لمن لا يعرف أخوات (اكسكيوزمي) فهن (هاي , وويرز ذس , وثانكيو)

المهم أخذت تذكرتي في يد وأخرى اجر بها شنطتي اليدوية , وبدأت اسئل(ويرز ذس ويرز ذس ) , فيشرح لي ذلك الشخص بعشر كلمات وأرد عليها بعشر هزات للرأس , ولم افهم واحدة منها , الا ما أشار بيده , وهكذا افعل في كل مرة حتى وصلت إلى البوابة ال (جيت) قبل اقلاع الطائرة بدقائق وتنفست الصعداء أن الطائرة لم تفتني . أقلعت بنا الطائرة وأخذت أتامل الوجوه عسى ولعلى , والذي لفت أنتباهي أول وهلة هو تلك الجدائل المتدلية خلف الروؤس والأقراط المغروسة في أذانهم , فلم اعد أفرق بين الذكر والانثى , فتذكرت بيتا من الشعر النبطي حيث يقول صاحبه عندما ركب الطائرة لاول مرة مخاطبا رفيق سفره مستور:

اليوم يا مستور ماعرف السحاب من التراب والا اعرف الحرمة من الرحال كود ب ...

فرد عليه:ان كنت ماتعرف ان الله حلال النشاب ..................................... . و عسها

أخذت الطائرة تسابق السحاب حتى وصلنا بعد رحلة دامت حوالي أربع ساعات .

لكني لم أصل بعد فأخذت أقلب أوراقي لاتصل بزوجتي التي كانت قد وصلت قبلي بنحو عشرة أيام . ووجدت الرقم وبدأت اصارع الهاتف المزروع في أحد جدران مطار (سولت ليك ستي) ولكن دون جدوى وكان هناك أحد الناس يراقبن من بعد اوجست من خيفة كلما نظر نحوي وأنا اصارع سماعت الهاتف فأقترب فزاد خوفي , ولكنه أخذ تلك الورقة التي في يدي وأخرج من جيبة بعض النقود لليقم بها فم الهاتف _ رغم اني فعلت ذلك وحين رأى الارقام لم يفهم منها شيئا , لانها بالعربي فأستجع لغته الاشارية ليفهني انه يريد كتابة الارقام باللغة الانجليزية ففعلت فتبسم ضاحكا وأخذ يدير الاقراص ,,, ولكن لم يطل تبسمه ففهمت انه لا احد يجيب فطلب مني أن يحمل لي شنطتي بعدما عرف أن علي التوجه الى الطائرة التي ستحملني الى أخر محطة لي وهي مدينة(بوكتللو ) رفع شنطتي ليودعها على ظهر سيارة صغيرة تتسخدم في المطار وخاصة للعجزة والمعوقين , أمتطينا ظهرها وأنطلقت بنا نحوالبوابة ( الجيت) الذي ستقلع منها طائرتي الاخيرة ولما وصلنا حدث موظفة الشركة ب ... لم أفهم شيئا من الكلام الا اني فهمت انه قال لها هذا ليس لديه لغة وعليك أن تساعديه لمواصلة رحلته , فأشارت له بالايجاب , ثم أشار لي بتحية الوداع وانصرف (كم أتمنى أن أجد ذلك الشخص لاقدم له اسمى التقدير والشكر ) وبالفعل اخذت بيدي أول ما فتحت الطائرة أبوابها وقادتني حتى أجلستني في الكرسي المخصص لي . طائرتي هذه تشبه طائرة (عدنان ولينا ) حتى اني شككت انها لن تصل أخذت تتمايل بنا في الهواء وضجيج مراوحها تتناغم في اسماعنا حتى وصلنا الى مطار (بوكتللو ) وهو مطار صغير ترى كل شئ فيه . ففرحت لانه يشبه مطارنا .

وترجلنا وبدأت ابحث عن شنطي دون جدوى, حينها تذكرت عبدالله السدحان وناصر القصبي في أحد مسلسلاتهما الكوميدية عندما دخل المصعد وخلع نعليه في الخارج وحين خرج من المصعد أخذ يبحث عنها.. 

وبدأت في استجماع الملكات اللغوي من(اكسكيوزمي )وأخواتها لايجاد تكسي يأخذني الى العنوان الذي اعض عليه بالنواجذ , و فهمت من الموظفة ان علي أن أتصل لياتي التاكسي إلى المطار . يا الاهي هل ستجدي لغة الصم والبكم في احضار تاكسي ؟؟؟؟ لا أظن ذلك وبينما أنا اضرب أخماسا في أسداس إذا بشخص يقول: السلام عليكم . ظننت بل جزمت أنه الخضر جاء ليقذني . وما أكد اعتقادي قوله لي :

  أنت محمد جمال الدين

 

قلت : نعم .

 

قال : أنا عصام جمال الدين .

 

  تجمعنا الحلقة القادمة