أهلاً بن شملان
بقلم/ جمال انعم
نشر منذ: 18 سنة و شهرين و 12 يوماً
الإثنين 04 سبتمبر-أيلول 2006 10:11 م

أتْبع قلبي مع بن شملان، أتْبع عقلي، وجعي، مراراتي، أتبع ما بقي فيّ ومنّي من عزمٍ وإرادة ويقظة حِس.لا أحفل بحسابات الساسة ومخاوفهم، تبعت الخوف بما يكفي والخوف يصلح

درب اقتحام لا وطناً للمقام، ومن يخوّفك منك حال فقده إنما يطلب أمنه بإطالة أمد خوفك منه .

"... لسنا أهلاً للتغيير، لم نرشد بعد، بدائلنا ليست جاهزة، فقرنا لم يصل بعد إلى العظم، ما زال في مقدورنا الصبر وفي الطاقة ما يعين على " إكمال المشوار"، لدينا منجزات تستحق أن نعظ على صانعيها بالنواجذ ولو أنجز " بوش" للأمريكان المساكين بعضاً منها لأمسكوا بتلابيبه حتى القبر ..".

ليش التغيير مادام الحاكم متعافي والصحة عال العال؟ عافية الشعب غير مهمة، صحته تتحمل .

هذا منطق التخلف إزاء مطالب التغيير، منطق معتل يقف عند صحة الرجل الأول باعتباره علة الوجود بل يرى نفسه معلقاً بشنبه الزعامي الفخيم فالشارب العظيم مطلب رئاسي مهم وضرورة، شنب الوطن .

" فكتور يوتشينكو".. تذكرون هذا الاسم، رئيس أوكرانيا حالياً، قائد الثورة البرتقالية المخملية، مثل منذ البدء عافية وطن لذا جرى تسميمه بقصد إعاقة تقدمه مطامح التغيير لكنه وبالتفاف شعبه انتصر على نظام الفساد والجريمة ووطأة السم القاتلة التي تركت آثارها على وجهه وجسده .

لم يذهب "يوتشنكو"بعيداً للعلاج مؤجلاً قضيته، لم يتوقف رغم هول الآلام بل كان استمراره في المواجهة علاجه الأساس، لم يكن مرضاً شخصياً إذاً، كان جزءاً من وجع عام .

رفض "يوتشنكو" تسميم إرادة شعبه، رفض التزوير، استنهض صحة وطن أريد له البقاء معتلاً لا يرجى له شفاء وعلى إثر تقلده زمام الحكم سئل عن صحته فأجاب: سأتعافى حين تشعر أوكرانيا بالتعافي ..".

في بلداننا -المحكومة بالأمراض المزمنة- تمرض الشعوب وتموت قهراً وفاقة وكمداً بصمت في سبيل صحة الزعيم لأنه دليل صحتها الوحيد .

المهم راحته، فتوته، قدرته على "إكمالِِ المشوار ".

بن شملان..هذا الأب الوقور القادم من بلد النخيل ربيع حب ونسائم أمل بعد زمنٍ من المعاناة وتأمل الوجع، هذا الإنسان الكبير المنطلق في وجه الفوضى صوتاً عاصفاً يثير الغبار ويكشف سوءات الفساد، يعري البلاهة، يفضح الداء، يشير إلى رأس المرض، يبحث عن وطنٍ متعافٍ لا تستوطنه الأوبئة .

هذا بن شملان.. من صنعاء إلى سيئون إلى المكلا إلى مأرب والجوف حتى شبوة والمحويت إلى كل مدائننا المرهَقة وأرجائنا المختنقة .

هذا بن شملان..شعبٌ يسأل: "أين تذهب مواردنا؟ هل نتركهم إلى أبد الآبدين يتصرفون بمقدراتنا وبحاضرنا ومستقبلنا؟ كيف نتركهم يتصرفون في مستقبل أولادنا وأحفادنا؟ "

هذا بن شملان يبحث عن المواطن أولاً إذ "..لا يمكن بناء وطن حرٍ قوي الا بمواطن حرٍ وقوي" مؤكداً على أن"..أي بلد ينتقص من حرية أبناءه بمعاملتهم بطريقة غير متساوية لن يبني إلا خراباً .."

استقبلته مأرب والجوف وشبوة كشوقٍ منتظر، استقبلته مهرجانات حب حاشدة، منحته ما هي أهلٌ له كمناطق رحبة الصدر، أصيلة، أبية تعرف الرجال وتكبر "الأجاويد" كلما طالعتك منها قامة ممتلئة برقت في ذهنك بيت عمرو بن براقة الهمداني الشهير :

متى تملكِ القلبَ الذكي وصارماً

وأنفاً حمياً تجتَنِبْك المظالمُ

هكذا قالها: "..تجتنبك ".

مأرب تذكرها فيحضر التاريخ وحضارة التاريخ، تتراكض العصور، تتلامع الأسماء الكبيرة، معين، سبأ، حِمير، تبابعة اليمن، بلقيس، أسعد الكامل، مواكب الفاتحين وعلى رأسهم قيس بن مكشوح المرادي فارس الفتح المظفر لصنعاء وقائد جيش الخلاص .

مأرب ظلت أشبه بابنٍ ضيعته شهرة أبيه، أبناؤها يعيشون عزلة التاريخ كائنات ملحقَة بالتراث، تعامل معهم النظام كحراس مقبرة .

سقط الإنسان المأربي من ذاكرة الحكم وعومل ككائنٍ منتمٍ إلى ماضي منقطع .

دفعت مأرب ثمناً قاسياً لعنفوانها المديد وفرض عليها العيش في خصومة مع الزمن والحياة حتى النفط لم ينتشلها من مقبرة الإهمال والحرمان، امتد فوق فقرها وجدبها ومضى بعيداً تاركاً إياها مختنقة خلفه تنفث أحزانها بإباء محتميةً بروحها الغنية الشموخ .

لم تكن مأرب يوماً بعيدة عن معتركات التحول، ظلت حاضرة على امتداد الزمن، قدمت الكثير مما يستوجب العرفان، قدمت رؤوساً عوالٍ كثر على طريق الثورة وحسبك القردعي الشهيد شاهد إثبات كبيرٍ .

وعلى طريق الديمقراطية سجلت مأرب سبقاً وتقدماً ينسف أوهام القائلين بصعوبة تحول القبيلة إلى رافعة للتعددية .

أثبتت مأرب أنها جادة في بحثها عن المواطنة المتساوية ودولة الحقوق والحريات، شاركت في كل انتخابات و في أول انتخابات محلية عوقبت بتجميد مجلسها المحلي وأمينه العام محمد بن سالم بن عبود .

ومن مأرب أطل على الجوف وشبوة وليستا عنها ببعيد شمماً وإباءً وتعاسة .

خرجت الجوف مستقبلة "رئيس المستقبل " كما وصفته، كذا فعلت شبوة، بيحان والعوالق، وكلها مناطق أكلها الانتظار تكابد عيش الأطراف وتبتكر كل يوم وسيلة لكسر العزلة ومواجهة سياسات التهميش، لم تنتظر هبة الحكم حياة مشروطة وأكد عقلاؤها للنظام المغلق أن الأفق أكثر رحابة مما يظن، كان الثأر وما يزال المشكلة وكانت "روبن مدريد" في المعهد الديمقراطي بصنعاء شريكاً مؤمَّلاً في فعل ما قصر عنه النظام وليته كان سكت، لقد أجهض مشروع مكافحة الثأر في بداياته، صفحة سوداء في ملف الحكم يعرفها كثيرون .

تستهويني الروح وتغريني بالمتابعة لأقف على المحويت غيمة حبٍ ووفاء وهي في مهرجان الخلاص، تسكنني صنعاء وقد حَوَتْ "بن شملان" في يوم لن تنساه الذاكرة .

تأخذني سيئون وجوهاً ندية، أزقةً باشة، أغانٍ مشرقة .

تهزني المكلا وهي ترقص طرباً واحتفاءً بـ"أبي تمام "

أشعر بالزهو.. قامتي تطول.. نحن نغادر المقبرة .. نقبر الخوف، نخرج للحياة.. نبدأ الميلاد ..

مشاهدة المزيد